أرشيف المقالات

مسالك العلة

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2مسالك العلة
الحمد لله مُعلِّم الأصول، والصلاةُ والسلام على خير رسول، وعلى آله وصحبه أهل العلم والقلب العَقول، واللسان السؤول، إلى يوم البعث والنشور.   يُعَدُّ مبحث (مسالك العلة) من المباحث الأصولية المُهمَّة؛ لتعلُّقه بالقياس والأحكام الشرعية؛ فبه يَستخرِج المجتهدُ علةَ الحُكم، ويتأتَّى له القياس والإفتاء في النوازل.   مسالك العلة: هي الطرقُ التي يسلُكُها المجتهدُ للوصول إلى علة الحكم. والعلةُ لغةً: السبب أو المرض. وفي الاصطلاح الأصولي: هي وصفٌ ظاهر منضبطٌ، من أجله شُرع الحكم.   وتنقسم إلى مسلكين: المسلك الأول: علة بالمنقول؛ أي: في نصٍّ في كتاب الله، أو سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماعٍ، وتنقسم إلى علة صريحة في النص، وغير صريحة.   ♦ العلة الصريحة: هي التي تُؤخَذ مِن دلالة قطعية أو ظاهرة: القطعية؛ أي: الواضحة البيِّنة؛ بحيث يقع الإجماع عليها؛ كقوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ﴾ [المائدة: 72]، فقطعًا علةُ تحريم الجنة الشِّركُ بالله.   وأما الظاهرة، فهي التي تؤخذ من معنًى راجحٍ؛ كقوله تعالى: ﴿ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [إبراهيم: 1]، فعِلَّةُ إنزال الكتاب إخراجُ الناس من الظلمات إلى النور، وهذا هو المعنى الراجح، وتَحتَمِلُ الآيةُ أن اللام للعاقبة؛ أي: عاقبة إنزال الكتاب خروج الناس من الظلمات إلى النور، وهو معنًى مرجوح.   والصِّيَغ اللُّغَوية التي يُعبَّر بها عن العلَّة في القرآن والسُّنة هي: لامُ التعليل، وكي، ولأجل، أو مِن أجل، ولذلك، ولهذا، وليكون، وحتى لا يكون، وغيرها.   ♦ العلة غيرُ الصريحة: هي التي لا تكونُ واضحةً في النص، وتؤخذ من دلالة الإيماء والتنبيه؛ أي: الوصف الذي لولاه لَمَا كان للحكم معنًى؛ كقوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [النور: 2]، فحكم جلد الزاني لولا وصف الزنا لَما كان له معنى.   ومن صِيَغِها أنها تأتي في السؤالِ؛ كقول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، هلكتُ وأهلكتُ؛ وقعتُ على أهلي في نهار رمضان!"، فكفارةُ الجِماع في نهارِ رمضانَ علَّتُها قولُه: "وقعت على أهلي في نهار رمضان".   أو تأتي في الجواب؛ كقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219]؛ أي: علة تحريم الخمر والقمار رُجحان ضررِهما.   وينبغي بيان بعض مصطلحات الأصوليِّين في هذا المسلَك؛ كتنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط. المناط يُرادف العلة، تقول العرب: ناط سيفَه في الشجرة؛ أي: علَّقه، كذلك الحُكم مُعلَّق بعلَّته.   تنقيح المناط: أي إزالةُ الصفات غير المتعلِّقة بالعِلَّة في النص؛ مثال ذلك: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله، هلكتُ وأهلكتُ؛ وقعتُ على أهلي في نهار رمضان!"، فعلةُ كفارة الجماع في رمضانَ قولُه: "وقعت على أهلي في نهار رمضان".   وعملية إزالة الصفات التي لا عَلاقة لها بالعلة؛ ككونه رجلًا، وأن هذه الواقعة في المدينة - تُسمَّى تنقيح المناط في اصطلاحهم.   وأما تخريج المناط، فهو وقوف المجتهد على العلَّة في النص. وأما تحقيق المناط، فهو عملية القياس التي يَرُدُّ فيها المجتهدُ الفرعَ إلى الأصلِ لاتفاقهما في العلة، وبالتالي الحكم.   المسلك الثاني: علة بالمعقول؛ أي: استنباط العلةِ بالعقل؛ مثالُه نهيُه عليه الصلاة والسلام عن الاحتباءِ والإمام يخطُبُ يوم الجمعة، فمنهم مَن قال: علتُه أنها جِلسة تنكشفُ فيها العورة، ومنهم مَن قال: لأنها مظنة للنوم.   ويُسمَّى البحث عن العلة في هذا المسلَك بالسَّبْر والتقسيم. التقسيم هو افتراض العلة: يحتَمِل أن تكون العلةُ كذا أو كذا، وأما السَّبرُ، فهو حصر العلةِ، أو الوقوف على العلة. فتنقيحُ المناط يكون في النص، والسَّبرُ والتقسيم يكون في الاستنباط. نسأل الله تعالى أن نكون يسَّرنا هذا المبحث المعقَّد في علم أصول الفقه.

ونقول في الأخير: إن حقيقة هذا العلم أنه علمٌ مهمٌّ وضروريٌّ في فهم الكتاب والسُّنة، تنشطُ فيه العقول، ويشب فيه الرجل الكهول، ويحصل به على مفتاح الوصول. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن