أرشيف المقالات

فقه اسم الله الرفيق (2)

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2سلسلة شرح أسماء الله الحسنى (33) فقه اسم الله "الرفيق" (2) الإعراض عن الرفق يورث العجلة   دار حديثنا في المناسبة الماضية حول اسم الله "الرفيق" في قسمه الأول، ضمن سلسلة شرح أسماء الله الحسنى في جزئها الثاني والثلاثين.
فذكرنا بعض أقوال أهل العلم في إثبات هذا الاسم الجليل، مستنيرين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ" متفق عليه.
وعرفنا أن الرفق ضد العنف، وأنه يدل على اللين والتسهيل، وعلى إرادة النفع والخير للغير، وأن الرفيق تعني - أيضاً - المرافق في السفر.
كما وقفنا على أهمية الرفق في حياة المسلمين، وأن الله - تعالى - "إذا أحبَّ عبدًا أعطاه الرِّفقَ".
ثم ختمنا ببعض مظاهر رفق الله ـ تعالى ـ بعباده في أفعاله، وتشريعه، وتيسير قرآنه.   فما هي الدروس الراشدة، والعبر المستفادة، التي تمكن المسلم من فقهه السليم لاسم الله "الرفيق"؟ هي كثيرة، نقتصر منها - في هذا القسم - على عنصر واحد، وهو أن الإعراض عن الرفق يورث العجلة.   إن استشعار رفق الله - تعالى - سبيل للتمهل في الأمور، والتأني في اتخاذ القرارات.
فالمسلم لا يعجل في تصرفاته، ولا في أحكامه، بل تراه متأنياً متئداً، يقلب الأمر على وجوهه، ويفحصه من كل جوانبه، ويستشير فيه من هم أعلم به منه، بعد أن يستخير الله ـ تعالى ـ، ويسأله السداد في القول، والثبات في الفعل.
قال صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ" البخاري.   وقال بعض أهل العلم: "من أعطي أربعاً لم يمنع أربعاً: من أعطي الشكر لم يمنع المزيد.
ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول.
ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخِيَرة.
ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب".
والاستخارة والمشورة تقتضيان الأناة والصبر، وهما مفتاح الاتصاف بالحلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ" مسلم.   وقد نهى الله - عز وجل - رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن العجلة فقال: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ﴾.
ذلك أن العجلة شعبة من شعب إبليس، يلقيها في قلوب أتباعه، فيعظم تهافتهم، وتَشرَه نفوسهم، ويستعجلون أمورهم.
وفي ذلك من المنزلقات ما يورث الندامة، ويرجع على صاحبه بالملامة.
قال صلى الله عليه وسلم: "التَّأَنِّي مِنَ اللهِ، وَالعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ" صحيح الجامع.   ومن مظاهر هذه الخيبة والتعثر، ما ذكره أبو حاتم البستي ـ رحمه الله ـ قال: "إن العَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعدما يحمد.
والعجِل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة.
وكانت العرب تسميها أم الندامات".   قَدْ يُدْرِكُ المُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ   ولقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الصبر على الجاهلين، والتأني في الرد على المتهمين، والتثبت من أقوال المخالفين.
من ذلك موقفه من أهل الطائف، الذين التجأ إليهم ماشيا على قدميه الشريفتين ستة وتسعين كيلومترا يعلمهم دين الله، وينقذهم من مغبة الشرك بالله.
يتوخى فيهم النصرة، ويأمل فيهم العزة، بعد خذلان قريش وعداوتها، لما حاصروه وقومَه في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، وبعد فقد الظهير المؤازر: عمه أبي طالب، وزوجه خديجة - رضي الله عنها -، فقابله أهلها بالغلظة والقسوة، واستعدوا عليه صبيانهم يسبونه، ويرمونه بالحجارة.
وكان يوما أشد عليه مما لقيه في أحد.
وفي هذه اللحظة العصيبة، لحظة الانتصار للدين وللنفس، لحظة رد العدوان بمثله، يبعث الله إليه مَلَكَ الجبال، فيقول له: "يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ.
فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ (الجبلين)؟ فلم يتعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلب الانتقام للنفس، والانتصار للذات، وإنما قال للمَلَك: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" مسلم.
وكذلك كان.   ويروي لنا أبو هريرة رضي الله عنه قصة مشابهة في رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأناته وحلمه، ويقول: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا.
فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، وقيل: هَلَكَتْ دَوْسٌ.
فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ" متفق عليه.
فأسلموا ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وتأنيه فيه الدعاء عليهم.   فمنا من يستعجل في الحكم على الناس، فيسرع برميهم بالألقاب الجائرة، والأوصاف الذميمة، التي قد ترتقي إلى التكفير، أو التبديع، أو التلقيب بـ"عدو الله"، وما شابه ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ الله وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ (أي: رجعت الدعوة عليه)" مسلم.
ونبه كتاب الله إلى أن هذا من العجلة المذمومة فقال – تعالى -: ﴿ وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴾.   ومنا من يستعجل بالدعاء - عند الغضب - على الأهل، والمال، والولد، حتى إذا أصيب في شيء من ذلك، ندم ساعة لا ينفع الندم.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنْ الله سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ" مسلم.   ولعل كثيرًا مما نرى من المصائب، والأمراض، وفساد الأولاد، يكون بسبب الدعاء عليهم، والآباء لا يشعرون بذلك.
وإذا سلموا من الإصابة فبفضل من الله ورحمة.
قال - تعالى -: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾.   ومنا من يستعجل إجابة الدعاء، ويغضب إن لم يستجب له، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ رَبِّي فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي" متفق عليه.   ومنا من يستعجل الرزق، فإذا تأخر عنه، غضب وجزع، وربما طلبه بمعصية الله، واحتال له من طرق غير مشروعة.
قال صلى الله عليه وسلم: "وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعاصِي الله، فَإِنَّ اللهَ لاَ يُدرَْكُ مَا عِنْدَهُ إلاَّ بِطَاعَتِهِ" صحيح الجامع.   ومنا من يستعجل في النطق بالطلاق بعد خصام قد يكون لأمور صغيرة، كان من الممكن أن تعالج بشيء من الصبر، والتعامل بقليل من الرفق.
وقد سبق معنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ" صحيح الجامع.
حتى إذا افترق الزوجان، وخرب البيت، وتشتت الأسرة، وتجرع الأبناء ويلات البعد من دفء الأبوين، ناح كل طرف باللائمة على نفسه، وعاد بالخسارة على تعجله وتسرعه، ووقع من الهم والغم ما الله به عليم.
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾.   وزِنِ الكلامَ إذا نطقتَ فإنَّما يُبدي العقولَ أو العيوبَ المنطقُ
لو سار ألفُ مدجَّجٍ في حاجةٍ لم يقضِها إلا الذي يترفَّقُ   ومن مظاهر الإعراض عن الرفق المتسبب في العجلة، الاستهانة بالاطمئنان الواجب في الصلاة، وعدم إتمام الركوع والسجود.
وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: "أَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِثَلاَثٍ، وَنَهَانِي عَنْ ثَلاَثٍ.
أَمَرَنِي بِرَكْعَتَي الضُّحَى كُلَّ يَوْمٍ، وَالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ، وَصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
وَنَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ" صحيح الترغيب.   وقال للمسيء صلاته المستعجل: "ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" ثلاث مرات، حتى إذا لم يحسن الاطمئنان والتأني، قال له صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا" متفق عليه.   ومنها العجلة في سياقة السيارات والدراجات، وما تستتبعه من حوادث مروعة، تكون سببا في إزهاق الأرواح، والإصابة بالأمراض الخطيرة، والعاهات المزمنة المستديمة.   خذِ الأمورَ برفقٍ واتئدْ أبدًا إياك مِن عجلٍ يدعو إلى وصبِ
الرفقُ أحسنُ ما تُؤتَى الأمورُ به يصيبُ ذو الرفقِ أو ينجو مِن العطبِ



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير