أرشيف المقالات

أولو الألباب في القرآن من خلال تفسير المنار

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2(أولو الألباب) في القرآن من خلال "تفسير المنار" الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه، وبعد: فهذه ومضات عن (أولي الألباب) في القرآن الكريم مستلَّة من تفسير المنار للعلامة محمد رشيد رضا رحمه الله وعفا عنه، فأقول بداية: جاء في معاجم اللّغة أنّ "لب كل شيء، ولبابه: خالصه وخياره، واللب: العقل، والجمع ألباب واللبيب العاقل".
[لسان العرب: 1/ 730].
[القاموس المحيط: 133].   بين العقل واللب: "وإنما سمي العقل لبًّا؛ لأن اللبّ هو محل الحياة من الشيء، وخاصته وفائدته، وإنما حياة الإنسان الخاصة به هي حياته العقلية، وكل عقل متمكن من الاستفادة من النظر في هذه الآيات والاستدلال بها على قدرة الله، وحكمته".
[تفسير المنار: 4/ 245].   أُولَى مراتبِ العلم الفهمُ! وقد وردتْ لفظةُ (أولي الألباب) في ستة عشر موضعًا جاءتْ مرتبطة بأربعةِ معانٍ رئيسيةٍ لا تنفك عن بعضها البعض: التقوى، والتذكر والتدبر، والتفكر والاعتبار، وحسن الاتباع.
وجميعها لا تدرك إلا بالعقل السّليم والفهم السّليم.
وفي ذلك يقول محمد رشيد رضا: "وإنّما الدرجة العليا للسماع أن تسمع فتفقه، وتعقل وتتدبر فتعتبر وتعمل" [تفسير المنار: 9/ 524].
فلذَلك أولتْ الشريعة اهتمامًا كبيرًا بالعقل لأنّه هو آلة الإدراك والتمييز بين الخير والشر وبين الضار والنافع وبه كانَ مناط التّكليف.   أهمية العقل في الشرع: فقال -رحمه الله-: "تقرأ قاموس الكتاب المقدس فلا تجد فيه كلمة "العقل" ولا ما في معناها من أسماء هذه الغريزة البشرية التي فضل الإنسان بها جميع أنواع هذا الجنس الحي كاللب والنهى، ولا أسماء التفكر والتدبر والنظر في العالم التي هي أعظم وظائف العقل، ولا أن الدين موجه إليه، وقائم به وعليه.
أما ذكر العقل باسمه وأفعاله في القرآن الحكيم فيبلغ زهاء خمسين مرة، وأما ذكر "أولي الألباب" ففي بضع عشرة مرة، وأما كلمة "أولي النهى" أي العقول فقد جاءت مرة واحدة من آخر سورة طه. أكثر ما ذكر فعل العقل في القرآن قد جاء في الكلام على آيات الله، وكون المخاطبين والذين يفهمونها ويهتدون بها العقلاء، ويراد بهذه الآيات في الغالب آيات الكون الدالة على علم الله ومشيئته وحكمته ورحمته".
[تفسير المنار: 11/ 202].   ارتباط المعاني الرئيسية الأربعة بـ (أولي الألباب) في القرآن: أولاً: التقوى: وجاءتْ في أربعة مواضع: - البقرة 179: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾. - البقرة 197: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
- المائدة: 100: ﴿ قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾. - الطلاق: 10: ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ﴾.

ثانيًا: التذكر والتدبر: في تسعة مواضع: - البقرة: 269: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.
- آل عمران: 7: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.
- الرعد: 19: ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.
- إبراهيم: 52: ﴿ هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.
- ص: 29: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.
- ص: 43: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
- الزمر: 9: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.
- الزمر: 21: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
- غافر: 54: ﴿ هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.

ثالثاً: التفكر والاعتبار: في موضعين: - آل عمران: 190: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
- يوسف: 111: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.

رابعًا: حسن الاتباع: في موضع واحد: - الزمر: 18: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.   ففي الأمر بالتقوى: يقول محمد رشيد رضا: " ثم من مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى تعريضاً بأن غير المتقي لا لب له ولا عقل".
[تفسير المنار: 2/ 185]، وأنّ من كان له لب فإنه بتقواه "يكون على نور من فائدة التقوى وأهلا للانتفاع بها ".
[تفسير المنار: 2/ 184].   وفي الاعتبار بعواقب الأمور: يقول: " أهل البصيرة والروية من العقلاء هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها ومقدماتها، بعد التأمل في حقيقتها وصفاتها، فلا يصرون على الغرور بكثرة الخبيث بعد التنبيه والتذكير.
وأمّا الأغرار والغافلون الذين لم يمرنوا عقولهم على الاستقلال في النظر والاعتبار بالتجارب والحكم، فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكر، بل لا يعتبرون بما يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم من حوادث الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة المجموعة من الحرام، ولا من عواقب الأمم والدول التي اضمحلت كثرتها العاطلة من فضيلتي العلم والنظام، وكيف ورث هؤلاء وأولئك من كانوا أقل مالا ورجالا، إذ كانوا أفضل أخلاقا وأعمالا (والعاقبة للمتقين)".
[تفسير المنار: 7/104].   وفي استعمال العقل في فهم الأحكام والغاية منها: يقول: "...
إن ذا اللب هو الذي يفقه سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من الحكمة والمصلحة، فعلى كل مكلف أن يستعمل عقله في فهم دقائق الأحكام، وما فيها من المنفعة للأنام، وهو يفيد أن من ينكر منفعة القصاص بعد هذا البيان، فهو بلا لب ولا جنان.
ولا رحمة ولا حنان ".
[تفسير المنار: 2/ 107].   وفي التذكر لقصد الانتفاع بالعلم والهداية والاتعاظ يقول: "وقد جرت سنته -تعالى- بأنه لا يتعظ بالعلم ويتأثر به تأثرا يبعث على العمل إلا أصحاب العقول الخالصة من الشوائب، والقلوب السليمة من المعايب".
[تفسير المنار: 3/ 260].   وفي أثر تلاوة القرآن وتدبر والنظر في آيات الله الكونية يقول: "...
وهذه الآيات المنزلة، والمرشدة إلى النظر في الآيات الكونية، تدل على عناية هذا الدين بالعلم بكل ما خلق الله، وما أودع فيه من الحكم والمنافع للناس، ليزدادوا في كل يوم علما بدنياهم، وعرفانا وإيمانا بربهم، كلما رتلوا كتابه، وتدبروا آياته".
[تفسير المنار: 11/ 407].   وفي التفكر في آيات الله وسننه للهداية والاتعاظ يقول: "وخص أولي الألباب بالذكر مع أن كل الناس أولو ألباب؛ لأن من اللب ما لا فائدة فيه، كلبّ الجوز ونحوه إذا كان عفنا، وكذا تفسد ألباب بعض الناس وتعفن، فهي لا تهتدي إلى الاستفادة من آيات الله في خلق السماوات والأرض وغيرهما".
[تفسير المنار: 4/ 245].   وفي الاعتبار بالقصص يقول: "...وكونها عبرة عامة للعقلاء من المؤمنين والكافرين المستعدين للاعتبار كما قال تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".
[تفسير المنار: 9/ 472].   فائدة في القصص القرآني: "وليس القرآن تاريخًا ولا قصصًا وإنما هو هداية وموعظة، فلا يذكر قصة لبيان تاريخ حدوثها، ولا لأجل التفكه بها أو الإحاطة بتفصيلها، وإنما يذكر ما يذكره لأجل العبرة...
فيكتفي من القصة بموضع العبرة ومحل الفائدة، ولا يأتي بها مفصلة بجزئياتها التي لا تزيد في العبرة بل ربما تشغل عنها، فلا غرو أن يكون في هذه القصص التي يعظنا الله بها ويعلمنا سننه ما لا يعرفه الناس; لأنه لم يرو ولم يدون بالكتاب".
[تفسير المنار: 2: 373].   وفي حسن الاتباع يقول - معقباً على الألوسي منكراً عليه اتباع الرأي -: "...
وقد وفّق لعلمه –أي حكم البسملة وقراءة الفاتحة- أولي الألباب، وهم (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) دون الذين يستمعون القول فيتبعون منه ما وافق رواية فلان ورأي فلان، ويوجبون على أنفسهم نصره ولو بتأويل ما مضت به السنة العملية وثبت بنص القرآن".
[تفسير المنار: 1/ 77].   فائدة عزيزة: "اعلم أيها المسلم الذي يجب أن يكون على بصيرة من دينه، أن في روايات الفتن وأشراط الساعة من المشكلات والتعارض ما ينبغي لك أن تعرفه ولو إجمالا، حتى لا تكون مقلدًا لمن يظنون أنّ كل ما يعتمده أصحاب النقل حق، ولا لمن يظنون أن كل ما يقوله أصحاب النظريات العقلية حق، فإن الله تعالى يقول: (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)".
[تفسير المنار: 9/ 407].   فائدة في معنى السماع: " قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله) ذُكرتْ هذه الطاعة في الآية الأولى مِن هذه السورة، وأُعيدتْ هُنا ليعطف عليها قوله: ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون أي: ولا تتولوا وتعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والحال أنكم تسمعون منه كلام الله المصرح بوجوب طاعته وموالاته واتباعه ونصره، والمراد بالسماع هنا سماع الفهم والتصديق والإذعان، الذي هو شأن المؤمنين الذين دأبهم أن يقولوا: (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، والموصوفين بقوله عز وجل: (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)".
[تفسير المنار: 9/ 520]. وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١