أرشيف المقالات

خدمة شيطانية

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2خدمة شيطانية   إذا تأمَّلنا حال الأُمَّة لوجدنا أننا نعيش في سنواتٍ خدَّاعات، القابضُ فيها على دِينِه كالقابض على الجَمْر، يسير فيها عكس التيَّار، أفعالُه مُستغرَبة وأقوالُه مُستنكَرة، وكلما زاد تمسُّكه بكتاب الله وشريعته وسُنَّة نبيِّه،زاد استهجانُ الناس لأفعاله وتعجُّبهم من أقواله.   إنها سنوات تتغيَّر فيها المبادئ وتُطمَس فيها الثوابتُ، ويُصبح الباطلُ حقًّا، والحقُّ باطلًا، يرتكبون الكبائر معتقدين صحَّة أفعالهم، ومُعلنين طيبَ نواياهم، يقولون عن بعض مخالفاتهم الصريحة لأوامر الله أنها خِدمات إنسانية، وما هي إلا خدمات شيطانية، طُمِسَت بصائرُهم، فزيَّنها الشيطان في أعيُنِهم، وأنكروا على مَنْ خالَفَهم أو بيَّن لهم سُوءَ عمَلِهم.   إذا سأل الطالب زميلَه عن مسألةٍ لا يَعرِفُها في الامتحان فامتنَع عن الإجابة، وذكَّره بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم قائلًا: ((مَنْ غشَّنا فليس منا)) - اتَّهمه بعدم التعاون والأنانية، وربما انقطعت الصداقة بينهما، بل قد يتبرَّع المعلِّم الذي يُراقِب الاختبار بالإجابة عن الأسئلة، أو يطلُب من طالبٍ مُتفوِّقٍ أن يُساعِد زميلَه، وإذا اعترض الطالب رافضًا أن يساعدَ زميلَه في الغش، نظَر إليه المعلمُ بازدراء مُتَّهِمًا إيَّاه بالأنانية، قائلًا: "أَحِبَّ لأخيك ما تُحِبُّ لنفْسِك"!   وإذا ذكَّره أحدُهم بحُكْم الله وحُرْمةِ الغشِّ، قال: إنما هي خدمة إنسانية لهذا الطالب المسكين وأهله، وما هي إلا خدمة شيطانية، يعصي بها ربَّه، ويُخالف فيها أمرَ رسوله، ويهدم الأُمَّة بإنشاء جيل فاشل علميًّا وأخلاقيًّا يعتمد على غيره بلا جدٍّ أو تَعَبٍ، يَسرِقُ مجهودَ زميله بكُلِّ بساطة، وينال الدرجات بالكذب والزُّور، فأيُّ خدمة هذه؟!   يذهب الموظف إلى عمله متأخِّرًا - وقد يكون غائبًا ذلك اليوم - ويطلب من زميله أن يُسجِّل حضوره، فيُبادر زميله بخدمة زميله إنسانيًّا - كما يظنُّ - ويُوقِّع عِوَضًا عنه، وما هي إلا خدمة شيطانية يشهَد فيها شهادة زُورٍ، ويُساعد زميله على أن يأخُذ أجرًا لا يستحقُّه عن تلك الساعات التي لم يَحضُرها للعمل.   سئل الشيخ ابن عثيمين: أحيانًا يطلب مني زميلي في المحاضرة أو العمل أن أقومَ بتحضيره مع أنه غائب؛ حيث تمرُّ ورقة التحضير، فأكتُب اسمه، فهل هذه خدمة إنسانية أو أنه نوع من الغِشِّ والخداع؟
فأجاب هي خدمة، ولكنها خدمة شيطانية يُمليها الشيطانُ على هذا الذي فعل وحضَّر مَنْ ليس بحاضرٍ، وفي ذلك ثلاثة محاذير: المحذور الأول: الكذب، والمحذور الثاني: خيانة المسؤولين في هذه المصلحة، والمحذور الثالث: أنه يجعل هذا الغائب مستحقًّا للراتب المرتَّب على الحضور، فيأخُذه ويأكله بالباطل، وواحد من هذه المحاذير يكفي بالقول في تحريم هذا التصرُّف.   يسمح الرئيس المباشر في العمل للموظف بالغياب من غير أن يُخوِّل له نظامُ العمل الاستقلالَ بذلك عن الرؤساء الذين يَعلُونه، أو يُعطي الموظف مأموريةً أو تصريحًا للعمل، وهو يعلم أنه ذاهبٌ لأداء مصلحة شخصية، ثم يُسمِّي ذلك خدمة إنسانية، بل هي خدمة شيطانية؛ لأن ذلك لا يجوز، والمال الذي يأخُذه الموظف عن هذه السويعات مالٌ حرامٌ، وهو يُعينه على ذلك الحرام.   أنعم الله عليك بجاهٍ ومنصبٍ تستغلُّه لإعطاء ذَوْيك ما لا يستحقُّون من وظائفَ أو تراخيصَ أو غيرها - وغيرُهم أوْلى بها وأحقُّ - وتعتبرها خدمة إنسانية، وما هي إلا خدمة شيطانية وتضييع لأمانة المنصب الذي اختبرَك الله به.   وما أكثر الأعمال التي يقوم بها البعض ظانِّينَ أنها خير! وهي وبالٌ وشرٌّ، وهدمٌ للدين والقِيَم والأخلاق.   وكل ذلك علامة على طمس البصيرة وذَهاب نور القلب، وما طُمِست البصيرة إلا بالبُعْد عن تقوى الله، والجهل بالدين وتعاليمه، وكثرة الذنوب.   إن من أكبر النِّعَم توفيقُ الله للعَبْد، وإلهامُه الرُّشْدَ، وقذْفُ نور الحقِّ في قلبه؛ فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ كما قيل: إذا لم يكُنْ عَوْنٌ من الله للفَتى *** فأوَّلُ ما يَجْني عليه اجتهادُه   ولذلك كان سؤال الله البصيرةَ ودعاؤه بالتثبيت - من أهمِّ أسباب الإجارة من شُرور الفِتَن، وقد كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا مُقلِّب القلوب، ثَبِّت قلبي على دينك)). اللهم لا تَجعلنا من الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا، وهم يَحسَبون أنهم يُحسِنون صُنْعًا.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١