أرشيف المقالات

كم فرطنا في قراريط كثيرة

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2كم فرَّطنا في قراريطَ كثيرةٍ
كان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يُصلي على الجنازة، ثم ينصرف، فجاءه رجلٌ فقال: "يا عبدَالله بن عمر، ألا تسمَع ما يقول أبو هريرة؟ إنَّهُ سمع رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول: ((مَن خرَج مع جنازةٍ من بيتها، وصلَّى عليها، ثم تَبِعَها حتى تُدفنَ، كان لهُ قيراطانِ من أجرِ، كل قيراطٍ مثلُ أُحدٍ، ومن صلَّى عليها ثم رجَع، كان له مِن الأجرِ مثلُ أحدٍ))؟
فأرسل ابنُ عمرَ خبَّابًا إلى عائشةَ يسألها عن قولِ أبي هريرةَ، ثم يرجعُ إليهِ، فيُخبرُه ما قالت، وأخذ ابنُ عمرَ قبضةً مِن حَصباءِ المسجدِ يقلِّبها في يدِه، حتى رجع إليهِ الرسولُ، فقال: قالت عائشةُ: صدَق أبو هريرةَ، فضرَب ابنُ عمرَ بالحصى الذي كان في يدِه الأرضَ، ثم قال: "لقد فرَّطنا في قراريطَ كثيرةٍ"[1]، وفي رواية: (لقد ضيَّعنا قراريطَ كثيرة).
هكذا حالُ المؤمن عالي الهمة ليس كسائر النَّاس حتى في ندمِه، قد يندمُ كثير من الناس لفواتِ لذَّاتِهم وشهواتهم، أمَّا عالي الهمة فيندم على ساعةٍ مرَّت عليه؛ لا لأنَّه عَصَى الله فيها، وإنَّما لأنَّه فاته فيها الأجرُ، حتى ولو لعُذرٍ . قال ابنُ عمرَ رضي الله عنهما: خرج عمرُ يومًا إلى حائطٍ له، فرجع وقد صلى الناسُ العصر، فقال عمرُ: (إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فاتتْني صلاة العصر في الجماعة، أُشهِدُكُمْ أنَّ حائطي هذا على المساكين صدقةٌ)[2]. والحائط: البستان الذي فيه النخل.
قال عبدالرحمن بن عمر رستة: حدثنا يحيى بن عبدالرحمن بن مهدي أن أباه قام ليلة، وكان يُحيي الليل كلَّه، قال: فلما طلَّع الفجر رمى بنفسه على الفراش، حتى طلعت الشمس، ولم يُصلِّ الصبح، فجعل على نفسه ألا يجعل بينه وبين الأرض شيئًا[3].
تميم الداري نام ليلة لم يقم يتهجَّد فيها حتى أصبح، فاته قيام الليل، فزاد العمل[4]. ابن عمر كان إذا شهِد العشاء مع الناس، صلى ركعات ثم نام، وإذا فاتته الجماعة أحْيَا الليل كلَّه، وكان إذا فاتته الجماعة صلى إلى الصلاة الأخرى؛ محاولةً لتعويض ما فات، وحمل النفس على ذلك[5].
كانوا يتأسَّفون عند الموت، لا على الدنيا، وإنَّما على ما يفوتهم من قيام الليل وصيام النهار. كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: (ويْحَكَ يا يزيد، من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضَّى ربَّك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبُه، والقبر بيتُه، والتراب فراشُه، والدود أنيسُه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر؛ كي يكون حاله؟، ثم يبكي رحمه الله[6].
عامر بن قيس عند موته يبكي فيسألونه؟ ما يُبكيك؟ قال: "ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليالي الشتاء"[7].
ندمه أنه سيُفارق الدنيا ولم يتمكَّن من الصيام في الأيام شديدة الحر، ولا من قيام الليالي الباردة.
يتأسفون لفقْد طاعة لسببٍ بعيدٍ عن إرادتهم، أمَّا مثلُنا لو فاتتنا الطاعة، فكأنه لم يحدُث شيء، ولا نحاول أن نعوِّضها، بل قد ننشغل عن الطاعات بطعام، بضيفٍ، برسائل الواتس.

قال ابن الجوزي: "ينبغي للإنسان أن يعرِف شرفَ وقته، فلا يُضيِّع منه لحظةً في غير قربة"[8]. نعمة الوقت نعمة عظيمة لا يعرِف قدرها كثيرٌ من الناس، ويكفي أن فيه يُحصِّل الإنسان الأعمال الصالحة؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]، ولهذا قال عمر بن العزيز: (إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمَل فيهما). ومن كلام السلف: من علامات المقت إضاعة الوقتِ.
قال الوزير الصالح يحيى بن هبيرة: والوقتُ أنفسُ ما عُنيتَ بحفظِه ♦♦♦ وأراه أسهلَ ما عليك يَضيعُ
فلْنَغْتَنِمِ اللحظات والساعات فيما يرضي ربَّ الأرض والسموات، فاغتنم أوقاتك، فالعمر قصيرٌ، والموت يأتي بغتةً، الدنيا ممر وليستْ دار قرار، فلننشغل بالآخرة.
وقد حذَّرنا الله من هجمة الموت والانتقال إلى الآخرة في ظل لهو وغفلةٍ؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون ﴾ [المنافقون: 9 - 11]، كم فاتَنا من أجور!
هذا منهج الصالحين يتسابقون على الخير بهِمَمٍ عالية وعزائم راسخة. "الكَيِّسُ مَن دانَ نفْسَه وعمِلَ لِمَا بعْدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتْبَعَ نفْسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ"[9].
وإذا تعِبت الأجساد، فلنتذكَّر حلاوة الأجر يوم يتحسر المفرِّطون ويفرَح المجتهدون؛ قال تعالى: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ [غافر: 39].
قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه: ((اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هِرَمِك، وصِحَّتَك قبل سقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك))[10]. اللهم وفِّقنا فيما بقِي مِن أعمالنا، واختمْ لنا بالصالحات أعمالنا، وتوفَّنا على الإسلام والإيمان، واجعَل آخرَ كلامنا في الدنيا لا إله إلا الله.  

[1] صحيح مسلم (945). [2] كتاب الكبائر، للإمام الذهبي، ص 29 . [3] سير أعلام النبلاء، الجزء التاسع، المكتبة الإسلامية. [4] محاضرات صوتية للشيخ محمد صالح المنجد. [5] المصدر السابق. [6] فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، ص 113، المكتبة الشاملة. [7] كتاب الزهد للإمام أحمد ص (219). [8] صيد الخاطر، ص33، المكتبة الشاملة. [9] أخرجه الترمذي (2459)، وابن ماجة (4260) من حديث شداد بن أوس. [10] الترغيب والترهيب، 4/203، خلاصة حكم المحدث: [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما].



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن