أرشيف المقالات

المزاح المباح

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
2المزاح المباح
في حياة مَلْأَى بالمتاعب ومُتخمة بالمصاعب، وفي زمنٍ يَسوده التوترُ والتعب، والعصبية والغضب - نحتاج إلى قليلٍ من المزاح؛ يضع عن النفس إصرَها، ويجدِّد فيها الطاقة، ويبعث فيها الهِمَّة، ويقوِّي فيها العزيمة، نحتاج إلى ترويحٍ بريءٍ منضبطٍ بضوابط الشرع، مِزاح يؤنِس المصاحبين، ويُزيل وَحشة المخالطين، فالمزاح المباح ليس هُجنة، بل سُنة كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله مع شُغله الشديد، ومعاناته في تبليغ الدعوة.   يَنوشه الأذى من كل جانبٍ، وتشتد عليه سفاهاتُ قومه، ومع هذا يداعبُ أهله وأصحابه ويُمازحهم، فكان ينادي أنسًا خادمَه: "يا ذا الأذنين"، ويقول لأخيه مداعبًا: "يا أبا عُمير، ما فعل النُّغَير"، وينادي أبا هريرة: "أبا هِرٍّ"، وعليًّا: "أبا تراب"، وعائشة زوجه: "عائش"، فيُطيِّب قلوبَ مَن حوله، ويُربيهم، ويُزيل الهمَّ عنهم ويواسيهم، ويتبسَّط معهم ويُسليهم، فيحفون به كما تحف أفواجُ النحل بالأزاهير، ترتشف منها الرحيقَ!   وكان صحابته الكرام يلعبون ويَمرحون، ويتضاحكون ويَمزحون، وكان صلى الله عليه وسلم معهم يفتر ثَغره عن ابتسامة كضوء الفجر لا يُنكر عليهم، حتى إذا جنَّ الليل كانوا رهبانًا، فإذا دعا داع الجهاد كانوا فرسانًا..   لقد بنوا أُمة وصنَعوا نهضة، فلم يكن المزاحُ دَيدنَهم، بل كان عارضًا لمصلحة، لا يؤثِّر على جِديَّة عملٍ، أو تطبيق سنةٍ، أو تجاوز مقاصدِ الشريعة ومراتب المُروءة.   ثم خلَف مِن بعدهم خلفٌ هَمُّهم المزاح والترف، معتذرين بفعله صلى الله عليه وسلم له، وما دَروا بالخطأ أو بسوء القصد أن المزاح ليس في كل الأحوال والأوقات، فالمبالغة فيه دليلٌ على خِفة العقل لا خفة الظلِّ، وسببٌ في الإهانة وزوال الهيبة، ونقص المكانة.   يَسلُب البهاءَ ويُجرِّئ السُّفهاء، ويقطَع حبلَ الإخاء، ويَجرُّ للكذب والاستهزاء، والنميمة والافتراء. كم ضيَّع المزاح من وقتٍ، وكم قلَّل من قدرٍ، وكم ألهى عن ذكرٍ!   إننا لا ندعو بهذا لمُصادرة المزاح، فهذا لا يدعو إليه عاقلٌ يؤمن بحاجة النفس البشرية إلى الاستئناس والترويح، نحن لا نُحاربه، بل نُهذِّب شرودَه، ونُقيِّد أنفسنا بقيود الشرع، نلتزم حدوده ولا نعتسف الطريق، إننا نجد أنفسنا مُرغمين على إعادة النظر في واقعنا ومبادئنا وأهدافنا، وتعديلها على ضوء الوضع العلمي والحضاري الحديث.   إن أيَّ مشروع نهضوي عرَفته البشرية، لم يقُمْ على المزاح والهزل، بل على الجد والعمل، والسعي والبذل، وإن حضارتنا الإسلامية المتألقة لم تُسلِّم نفسها للانطفاء بعد أن بلَغت أَوْجَ مجدها وعطائها، إلا بعد أن استبدلنا بالجد الهزلَ، فانحطَّت الهِمم، وانعدم الطموحُ، ورضِي الضعيف بفُتات الحضور الحضاري.   إن الإسلام ليس بحاجة للمُضحكين اللاهين، بل للجادين الصادقين والعاملين المخلصين، فلا تجعل همَّك اللهو والمزاح؛ حمايةً لنفسك، ووقايةً لقلبك، وخشيةً لربك.   فإذا فعلتَ فتخيَّر الأوقات والأشخاص، فلا تمازِح الأحمقَ السفيه، أو العالم الجليلَ، أو الشيخ الوقور، وراعِ دومًا مقتضى الحال، ولا تَخلِطْ جدًّا بهزلٍ، ولا تتَّخذ آيات الله هُزوًا، فكل ما يتعلق بشرع الله لا بد أن يُصان، لا يُتَنَدَّر به ويُهان، وتَحَرَّ فيه الحقَّ، والزَمِ الصدق، دون إسراف أو جنوحٍ، أو تكلفٍ أو تصنُّع: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣