أرشيف المقالات

تقليد المجتهد الميت

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
2تقليد المجتهد الميت
المراد بالمسألة هو أن المقلد قد يكون ميتًا، وذلك أن يكون عالمًا مجتهدًا له آراؤه في الأحكام الشرعية، فهل يجوز لمن بعده - ممن لم يلحق به - تقليده في آرائه، أو لا بد أن يكون هذا المجتهد حيًّا حتى يجوز تقليده في آرائه، فإن مات بطَلت تلك الآراء، وذهبت تلك الأقوال؟ هذا ما سنوضحه من خلال بيان رأي الشَّاطبي، ولكن بعد أن نحرر محل النزاع في المسألة.   تحرير محل النزاع: أولًا: اتفق الأصوليون القائلون بالتقليد على جواز تقليد المجتهد الحي[1].   ثانيًا: قيد بعض الأصوليين الخلاف بما إذا كان في العصر مجتهد، فإن لم يكن فلا خلاف في تقليد الميت؛ لئلا تضيع الشريعة، وحملوا إطلاق من أطلق الخلاف على ذلك[2]، وعلى هذا فحالة الضرورة ليست من محل النزاع.   إلا أن بعض الأصوليين - كالبناني - نص على أنها من محل النزاع؛ حيث قال تعليقًا على قول ابن السبكي: "ويجوز تقليد الميت"، ما نصه: "أي مطلقًا، إن فقد الحي أم لا"[3].   ويؤيد ما ذكره البناني أن بعض الأصوليين ذكروا في المسألة قولًا بالتفريق بين ما إذا وجد مجتهد العصر أم لا، فيجوز التقليد إن لم يوجد مجتهد في العصر، وإلا فلا، والذي نص عليه الجويني أنه لا يجوز التقليد للميت إن وجد المجتهد في المذهب[4]، وهذا يدل على أن قول مَن منع مِن تقليد الميت غيرُ مقيد بحالة الضرورة، وإلا لما ذكر هذا القول بالتفصيل، ولما جعل قولًا مستقلًّا؛ ولذا فالأظهر أن حالة الضرورة مندرجة في محل الخلاف.   ثالثًا: بناءً على ما سبق، فإن محل النزاع بين الأصوليين هو في حكم تقليد الميت، سواء وجد المجتهد الحي أم لا.   رأي الشَّاطبي: يرى الشَّاطبي جواز تقليد الميت، ويظهر هذا من قوله: "ومراعاة الدليل، أو عدم مراعاته، ليس إلينا معشر المقلدين، فحسبنا فهم أقوال العلماء، والفتوى بالمشهور منها"[5].   فالشَّاطبي يرى أن الفتوى والتقليد إنما يكون بالمشهور من المذهب الملتزم، ومما لا يخفى أن الشَّاطبي مقتفٍ للإمام مالك، متبعٌ له، متمذهب بمذهبه، وقد اعتمد الشَّاطبي في كثير من فتاويه على مذهب مالك، وما نقل عنه[6]، قال الشَّاطبي: "وأنا لا أستحل - إن شاء الله - في دين الله وأمانته أن أجد قولين في المذهب، فأفتي بأحدهما على التخيير، مع أني مقلد، بل أتحرى ما هو المشهور والمعمول به، فهو الذي أذكره للمستفتي، ولا أتعرض له إلى القول الآخر، فإن أشكل عليَّ المشهور، ولم أَرَ لأحد من الشيوخ في أحد القولين ترجيحًا، توقفتُ"[7].   وقال في إحدى فتاويه: "فإن نكل عن اليمين، فقال مالك في آخر قوليه: يحبس حتى يحلف"[8]، وقال في أخرى: "أما مسألة مخالفة بعضهم لبعض في اللبَن لاستخراج جبنه، فلا أعرف فيه لأحد نصًّا"[9].   فأقواله هذه تدل على أن الأقوال تبقى، ولو بعد موت أصحابها، وأن الشَّاطبي يجيز للمقلد أن يتبع قول الإمام الميت.   وقد وافق الشَّاطبيَّ في ذلك: الحنفية[10]، والمالكية[11]، وأكثر الشافعية[12]، وأكثر الحنابلة[13]. ونقل عن الشافعي قوله: "المذاهب لا تموت بموت أربابها، ولا بفَقْد أصحابها"[14].   وقد حُكي عليه الإجماع[15]، وذكر ابن الصلاح أن عليه العمل[16]، وقال ابن القيم: "وعليه عمل جميع المقلدين في أقطار الأرض، وخيار ما بأيديهم من التقليد تقليد الأموات، ومن منع منهم من تقليد الميت، إنما هو شيء يقوله بلسانه، وعمله في فتاويه وأحكامه بخلافه، والأقوال لا تموت بموت قائله[17]، كما لا تموت الأخبار بموت رواتها وناقليها"[18].   وخالفه القائلون بمنع تقليد الميت: وهو وجه عند الشافعية[19]، اختاره الرازي[20]، وتبعه مختصرو المحصول[21]، وقال الروياني: إنه القياس[22]، وهو وجه عند الحنابلة[23]، اختاره أبو الخطاب[24]، واختاره أبو الحسين البصري[25] من المعتزلة، ونقله ابن حزم عن الباقلاني، وقال: "ما نعلم قاله مثله أحد"[26]، وحكى عليه الغزالي إجماع الأصوليين[27]، وقيل: هو المشهور[28]. ووصف النووي[29]، والمرداوي[30] هذا القول بالضعف.   والقول الثالث في المسألة: يجوز تقليد الميت بشرط فَقْد الحي: اختاره الجويني[31]،والغزالي[32]، وإلكيا الهراسي[33]، وابن برهان[34]، والعز بن عبدالسلام[35]، وحمل الكوارني كلام الرازي عليه[36].   وحكى الصفي الهندي قولًا رابعًا في المسألة، واختاره، وهو إن كان الناقل أهلًا للمناظرة مجتهدًا في مذهب ذلك المجتهد الذي يحكي عنه، فيجوز، وإلا فلا[37].   وتعقبه ابن السبكي، فقال: "هذا التفصيل غير واقع في محل النزاع؛ لأن الكلام فيما إذا ثبت أنه مذهب الميت، فإن فرض أن الناقل بحيث لا يوثق بنقله فهمًا، وإن وثق به نقلًا، تطرق عدم الوثوق بفهمه إلى عدم الوثوق بنقله، وصار عدم قبوله؛ لعدم صحة المذهب عن المنقول إليه، لا لأن الميت لا يقلد، فليس التفصيل واقعًا"[38].


[1] انظر: البحر المحيط (6/ 297). [2] انظر: البحر المحيط (6/ 300) تشنيف المسامع (4/ 609) العقد الفريد (5/ أ). [3] حاشية البناني على شرح المحلي وجمع الجوامع (2/ 610). [4] انظر: غياث الأمم (186). [5] المعيار المعرب (11/ 103) فتاوى الإمام الشاطبي (119). [6] انظر: المعيار المعرب (5/ 214، 9/ 228) فتاوى الإمام الشاطبي (126، 140، 175). [7] المعيار المعرب (9/ 227) فتاوى الإمام الشاطبي (176). [8] فتاوى الشاطبي (142) والمراد مَن أبى أن يحلف هل طلق زوجته أم لا؟ [9] المعيار المعرب (5/ 215) فتاوى الإمام الشاطبي (157). [10] انظر: كتاب في أصول الفقه (201) نهاية الوصول لابن الساعاتي (2/ 694) التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 347) الوجيز (86) فتح الغفار (3/ 42) تيسير التحرير (4/ 250). [11] انظر: مختصر المنتهى مع بيان المختصر (3/ 365) تقريب الوصول (454 - 455) نشر البنود (2/ 338) نثر الورود (2/ 651). [12] انظر: البرهان (2/ 885) أدب الفتوى (138) روضة الطالبين (8/ 87) المجموع (1/ 92) منهاج الوصول مع الإبهاج (3/ 268) جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني (2/ 610) البحر المحيط (6/ 297) العقد الفريد (5/ أ) تشنيف المسامع (4/ 609) سلاسل الذهب (448) غاية الوصول (151). [13] انظر: العدة (4/ 1109، 1235) صفة الفتوى (70) المسودة (521 - 522) إعلام الموقعين (4/ 165، 200) الإنصاف (11/ 193) شرح الكوكب المنير (4/ 513). [14] انظر: شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 610) البحر المحيط (6/ 297) سلاسل الذهب (448). [15] انظر: المحصول (6/ 71) البحر المحيط (6/ 297) واعترض عليه بأنه إجماع مقلدة، فليس بإجماع؛ انظر: نهاية الوصول (8/ 3885) الإبهاج (3269). [16] انظر: أدب الفتوى (138). [17] كذا، ولعل الصواب: قائلها، أو قائليها. [18] إعلام الموقعين (4/ 165). [19] انظر: روضة الطالبين (8/ 87).
[20] انظر: المحصول (6/ 71)، وذكر الزركشي في تشنيف المسامع (4/ 610) أن مَن حَكى عنه خلاف ذلك فقد غلط. [21] التاج الأرموي في الحاصل (2/ 1021) والسراج الأرموي في التحصيل (2/ 301) والتبريزي في تنقيح المحصول (3/ 744). [22] البحر المحيط (6/ 298). [23] انظر: الإنصاف (11/ 193) شرح الكوكب المنير (4/ 514). [24] انظر: التمهيد (4/ 415) وانظر: المسودة (521) الإنصاف (11/ 193). [25] انظر: المعتمد (2/ 933). [26] الإحكام لابن حزم (2/ 264). [27] ذكره في البحر المحيط (6/ 298) فهمًا منه عن المنخول (591) وما في المنخول هذا نصه: "وقد قال الفقهاء: يقلِّده وإن مات؛ لأن مذهبه لم يرتفع بموته، وأجمع علماء الأصول على أنه لا يفعل ذلك، ولو اتبع الآن عاميٌّ مذهبَ أبي بكر معرضًا عن سائر المذاهب لا يجوز له ذلك..."، ولما أن كان ما في المنخول هو في حقيقته اختصارًا للبرهان، فإن أصل البرهان (2/ 885) كما يلي: "وقال آخرون: يتبع المجتهد الحي، إذا أجمعت الأمة على أن واحدًا لو أراد أن يتبع مذهب أبي بكر لم يجُزِ الآن"، وعلى هذا فالإجماع ليس في محل النزاع، وإنما هو في أمر آخر، وكيف ينقلان الإجماع فيما نقلا فيه الخلاف؟! [28] انظر: تنقيح المحصول (3/ 744) شرح المعالم (4/ 1659). [29] انظر: المجموع (1/ 92). [30] انظر: الإنصاف (11/ 193). [31] انظر: غياث الأمم (186 - 188). [32] انظر: المنخول (591 - 592). [33] انظر: البحر المحيط (6/ 299). [34] انظر: البحر المحيط (6/ 299) سلاسل الذهب (448). [35] انظر: البحر المحيط (6/ 300). [36] انظر: الآيات البينات (4/ 369). [37] انظر: نهاية الوصول (8/ 3884 - 3885). [38] نقله عنه في تشنيف المسامع (4/ 611) وانظر: البحر المحيط (6/ 300).



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير