أرشيف المقالات

بيان الربا وأحكام بيع الذهب والفضة وصرف العملات النقدية

مدة قراءة المادة : 22 دقائق .
2بيان الربا وأحكام بيع الذهب والفضة وصرف العملات النقدية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فهذه رسالة مختصرة فيها بيان معنى الربا، أنواعه وصوره، وأحكام بيع الذهب والفضة، وأحكام صرف العملات النقدية، حرصت فيها على توضيح هذه الأحكام وتيسير فهمها على من يقف على هذه الرسالة، فإن كثيراً من المسلمين يقعون في الربا وهم لا يشعرون، ويتلطخون بالحرام وهم لا يعلمون، وأحكام البيع مأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بينها فقهاء المسلمين رحمهم الله، ولكن كثيراً من المسلمين غافلون عنها، ولا يسألون أهل العلم عما أشكل عليهم منها، وهذا أوان الشروع في المقصود: يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278، 279].   هذه الآية فيها إعلام صريح بأن من لم يترك الربا فعليه حرب من الله ورسوله، ومن حاربه الله ورسوله فقد خسر وشقي في الدنيا والآخرة.   ويقول الله عز وجل: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 275، 276].   يذكر الله في هذه الآية الكريمة أن آكل الربا عندما يقوم من قبره يوم القيامة لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وذلك بسبب كذبهم على الله واستحلالهم الربا الذي حرمه الله، ثم ذكر الله أنه يمحق الربا، أي: يُذهبه ويُهلكه، ويُربي الصدقات أي: يُنميها ويزيدها، فالحلال القليل خير من الحرام الكثير، يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 100].   فآكل الربا يحاربه الله ويعذبه بماله في دنياه وهو لا يشعر، وينزع البركة من ماله وولده وأهله وهو لا يعلم، ويجعل معيشته ضنكاً، وكل هذا من شؤم الربا، فهو من كبائر الذنوب، ومن الموبقات المهلكات، وكل من أكل الربا أو أعان عليه ملعون في الدنيا والآخرة، فعن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: ((هم سواء)).
رواه مسلم في صحيحه (1598).
أي: هم سواء في الإثم والذنب.   تعريف الربا وأنواعه: يجب على المسلم أن يعرف الربا وأنواعه وصوره ليحذر منه، كما قال الشاعر: عرفت الشر لا للشرِّ لكن لتوقيهِ ومن لا يعرف الشرَّ من الخيرِ يقع فيهِ   الربا: هو مقابلة عوض بآخر مجهول التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في العوضين أو في أحدهما.   والربا نوعان: 1- ربا الفضل: وهو ربا الزيادة، مثل أن يبيع 5 جرامات ذهب بـ 6 جرامات ذهب، ومثل أن يصرف 1000 ريال بـ 950 ريالاً.   2- ربا النسيئة: وهو ربا التأخير، مثل أن يبيع 5 جرامات ذهب بـ 5 جرامات ذهب بلا تقابض في مجلس البيع، ومثل أن يصرف 1000ريال سعودي بـ 50000 ريال يمني من غير تقابض في المجلس.   أحكام بيع الأجناس الربوية: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ مِثْلا بِمِثْل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد)) رواه الإمام مسلم في صحيحه (1587).   هذا الحديث أصل في باب الربا، وقد نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه على ستة أصناف ربوية، وقاس الفقهاء عليها غيرها مما يشترك معها في العلة، وهذه الأصناف الربوية من حيث العلة قسمان: 1- قسم العلة فيه الثّمنية، وهو الذهب والفضة وما يجري مجراهما من الأوراق النقدية كالريال اليمني والريال السعودي والدولار الأمريكي.   2- قسم العلة فيه الطُّعم مع الكيل أو الوزن وهو البر والشعير والتمر والملح، وما يجري مجراهما مما يُكال أو يُوزن من المطعومات كالزبيب والذرة والأرز واللحم والسمك والتفاح، وبعض الفقهاء رحمهم الله جعل العلة في هذا القسم الطُّعم فقط، ولم يعتبر الكيل والوزن، فأدخل في هذا القسم كل ما يُطعم وإن كان لا يُكال ولا يُوزن كالبيض والبطيخ.   وقد أخذ العلماء من هذا الحديث العظيم ثلاث قواعد يتبين بها أحكام بيع الأجناس الربوية، وهذه القواعد هي: 1- إذا اتحد الجنس يُشترط التقابض والتماثل؛ مثل: بيع الذهب بالذهب أو بيع التمر بالتمر، فلا يجوز في بيع الجنس بجنسه النسيئة ولا التفاضل، مثل أن يبيع 10 جرامات ذهب بـ 10 جرامات ذهب بلا تقابض أو يبيع 10 جرامات ذهب جديد بـ 12 جرام ذهب مستعمل أو يبيع صاع تمر بصاع تمر بلا تقابض، أو يبيع صاع تمر جيد بصاعين تمر رديء، فكل هذا ربا محرم، فإن لم يحصل التقابض فهو ربا نسيئة، وإن لم يحصل التماثل فهو ربا فضل، وإن لم يحصل التقابض ولا التماثل فهو ربا نسيئة وفضل، وكل هذه البيوع محرمة باطلة، حتى وإن رضي المتبايعان؛ لأنها مخالفة لشرع الله، ورضا المتبايعين لا يحل ما حرم الله ورسوله.   2- إذا اتحدت العلة واختلف الجنس يُشترط التقابض فقط، ولا يُشترط التماثل، مثل: بيع الذهب بالفضة، فعلتهما واحدة وهي الثمنية، لكنهما جنسان مختلفان، فيجوز بيع 5 جرامات ذهب بـ 100 جرام فضة مثلاً لكن لا بد من التقابض يداً بيد، ويجوز بيع التمر بالبر مثلاً 10 أصواع تمر بـ 50 صاعاً بر يداً بيد، ولا يجوز التأخير في قبض أحدهما.   3- إذا اختلفت العلة لا يُشترط التقابض ولا التماثل، مثل بيع الذهب بالتمر أو بيع الفضة بالبر، فالعلة في إحدى السلعتين الثمنية، والعلة في السلعة الأخرى الطُّعم مع الكيل أو الوزن، فلا يُشترط التماثل ولا التقابض، فيجوز مثلاً بيع 5 جرامات ذهب بـ 10 أكياس بُر بلا تقابض، والأوراق النقدية مثل الذهب، فيجوز مثلاً بيع كيس بر بخمسة آلاف ريال يمني بلا تقابض لاختلاف العلة، فالعلة في البُر (القمح) هي الطُّعم مع الكيل، والعلة في الريال هي الثمنية.   أحكام صرف العملات: اعلم أن العملات المختلفة تعتبر أجناساً مختلفة، فالريال اليمني جنس، والريال السعودي جنس، والجنيه المصري جنس، والدولار الأمريكي جنس...
وهكذا، والعلة في جميع العملات واحدة، وهي الثمنية، فتجري عليها القواعد الثلاث السابقة: • إذا اتحد الجنس يُشترط التقابض والتماثل، مثل صرف ورقة ألف ريال يمني بألف ريال يمني من المعدن أومن فئة مائة أو فئة خمسين، فلا يجوز صرف الألف الريال اليمني مثلاً بألف ريال يمني مع التأخير، فهذا ربا النسيئة، فلابد من التماثل والتقابض مثلاً بمثل يداً بيد.   • إذا اختلفت الأجناس يُشترط التقابض فقط، ولا يُشترط التماثل، فيجوز صرف ألف ريال يمني بـ (20) ريالاً سعودياً، لكن لا بد من التقابض يداً بيد، ويجوز صرف 100 دولار بـ (20) ألف ريال يمني مع التقابض يداً بيد، وأما إذا حصل التأخير في قبض إحدى العملتين فهو ربا النسيئة.   • إذا اختلفت العلة لا يُشترط التقابض ولا التماثل، مثل بيع التمر بالريال، وهذا جائز كما لا يخفى.   الخلاصة   القواعد الثلاث: 1- إذا اتحد الجنس يُشترط التقابض والتماثل، مثل بيع الذهب بالذهب. 2- إذا اتحدت العلة واختلف الجنس يُشترط التقابض فقط ولا يُشترط التماثل، مثل بيع البر بالتمر. 3- إذا اختلفت العلة لا يُشترط تقابض أو تماثل، مثل بيع البر بالذهب.   مسائل مهمة: 1- لو كان معك 5 جرامات ذهب عيار 18 لا يجوز أن تبدله بـ 4جرام ذهب عيار 21، ولكن بِع ما معك من الذهب بنقود ثم اشتر بالنقود التي قبضتها ذهب عيار 21، ولا بد أن تستلم النقود كلها وتقبضها كاملة من الصائغ الذي اشترى منك الذهب، ثم تشتري بها الذهب من نفس الصائغ أو من غيره، ولو كان مع المرأة خاتم ذهب نوعه رديء وتريد أن تبدله بخاتم ذهب نوعه جيد، وتزيد الصائغ مالاً مقابل الفارق؛ لا يجوز هذا، ولكن عليها أن تبيع خاتمها بنقود، وتستلم النقود كاملة، ثم تشتري الخاتم الجيد بسعره، فعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب (أي: جيد) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكل تمر خيبر هكذا؟)) فقال: لا، والله يا رسول الله إنَّا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاع بالثلاثة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلا تفعل، بِع الجمع (أي: التمر الرديء) بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً) رواه البخاري (2201) ومسلم (1593).   2- يجوز أن تبيع صاع زبيب أخضر بصاع زبيب أسود إذا كان يداً بيد، فإن كان أحدهما أكثر من الآخر أو لم يحصل التقابض في المجلس فلا يجوز، ويجوز أن تبيع صاع أرز نوعه بسمتي بصاع أرز نوعه مزة إذا كان يداً بيد، وإذا كان أحدهما أكثر من الآخر فهو ربا فضل، وإذا كانا متساويين ولكن حصل التأخير في قبض أحدهما فهو ربا نسيئة، ويجوز أن تبيع كيلو لحم بقري بكيلو لحم غنمي سواءً بسواء، يداً بيد، فإن كان أحدهما أكثر من الآخر أو لم يحصل التقابض فلا يجوز.   3- لا يجوز أن تشتري من صاحب المجوهرات قطعة ذهب بالدين ولو كان الصائغ أباك أو ابنك أو أخاك، فلا بد في شراء الذهب من التقابض الكامل، فيقبض البائع جميع المال ويقبض المشتري جميع الذهب، ولا يجوز أن يبقى عند أحدهما شيءٌ من المال أو الذهب؛ لأن الذهب والعملة يعتبران جنساً واحداً، فيُشترط في بيعهما التماثل والتقابض، والسَّلف غير البيع، فيجوز أن تتسلف 5 جرامات ذهب وتردها 5 جرامات ذهب من نفس العيار، سواءً غلي الذهب أو رخص، ومن أراد أن يتسلف قطعة ذهب من صاحب المجوهرات أو من زوجته أو أخته فعليه أن يعرف وزنها وعيارها ثم يردها بنفس الوزن والعيار سواءً غلي الذهب أو رخص، ومن تسلف 1000 ريال سعودي مثلاً فعليه أن يردها 1000 ريال سعودي سواءً ارتفعت قيمتها أو انخفضت، وهكذا جميع العملات، فمن تسلف بعملة معينة فعليه أن يردها بنفس العملة، ويجوز أن يردها بعملة أخرى لكن بقيمتها في يوم القضاء، فمن تسلف مثلاً 100 دولار فيجوز أن يردها بالريال اليمني إذا رضي الدائن بذلك لكن بقيمة المائة الدولار في يوم القضاء.   4- إذا أردت أن تصرف 1000 ريال من شخص وليس عنده إلا 500 ريال فأعطاك 500 وبقي عنده 500 فهذا ربا نسيئة، فلا بد من التقابض الكامل، والمخرج من ذلك - كما أفتى الفقهاء - أن تتسلف منه الخمسمائة ريال وتعطيه الألف ريال على أنها رهن، فإذا قضيته الدين الذي عليك وهو الخمسمائة ريال أخذت منه الرهن وهو الألف ريال، ولا بأس أن تقضيه من الرهن الذي عنده وهو الألف ريال، وإنما ذكر العلماء هذا لأن صرف العملة بنفس العملة يُشترط فيه التماثل والتقابض ((سواءً بسواء، يداً بيد)) كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم.   5- قال الفقهاء: الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، فلا يجوز بيع صاع تمر بصاع رُطَب لأنهما جنس واحد، ولا بد في بيعهما من التقابض والتماثل، والتماثل مجهول؛ لأن الرُّطَب ينقص إذا يبس، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن اشتراء التمر بالرُّطَب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أينقص الرطب إذا يبس؟)) فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك.
رواه الإمام مالك في الموطأ (952) وصححه الألباني، وهذا الحديث أصل في عدم جواز بيع شيء من المطعوم بجنسه أحدهما رطب والآخر يابس، مثل بيع صاع عنب بصاع زبيب؛ لأن العنب ينقص إذا يبس، فلا يُعلم التماثل بينهما، وهما جنس واحد، ومثل بيع صاع بر حبوب بصاع دقيق فلا يجوز ذلك؛ لأنهما جنس واحد، ولا يُعلم التماثل بينهما؛ لأن الحب إذا طُحِن زاد.   6- يجوز بيع ساعة بساعتين أو سيارة بسيارتين أو سيارة بسيارة مع زيادة نقود، ويجوز بيع سيارة بسيارة بلا تقابض، وكبش بكبش بلا تقابض، وكذلك يجوز بيع كبش بكبشين وكتاب بكتابين، فكل هذه بيوع جائزة؛ لأن هذه الأصناف ليست ربوية، فليس فيها إحدى العلتين المذكورتين في الأصناف الربوية وهما: الثمنية أو الطُّعم مع الكيل أو الوزن.   7- يجب على المسلم أن ينقاد لأحكام الشرع وإن لم يعلم الحكمة من التشريع، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينً ﴾ [الأحزاب: 36]، ويجب أن يعلم المسلم أن الله حكيم لا يُشرِّع لعباده شيئاً إلا لحكمة، عَلِمها من عَلِمها، وجَهِلها من جَهِلها، ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ [التين: 8].
وقد تكلم العلماء في الحكمة من تحريم الربا، وذكروا حِكَماً كثيرة، منها رفع الظلم عن الناس، وسد كل طريق يؤدي إلى العداوة والبغضاء بين المسلمين، فلو أن إنساناً صرف مثلا 1000 دولار بعملة أخرى من أحد الصرافين، ولم يحصل التقابض بينهما، ثم بعد ساعة ارتفعت قيمة الدولار ارتفاعاً كبيراً أو انخفضت انخفاضاً شديداً، فالذي خسر مالاً كثيراً لعله يسعى لإرجاع ماله، ولن يرضى الآخر الذي ربح مالاً كثيراً بالإقالة، فيحصل الخصام بينهما، وتقع العداوة والبغضاء، ولو أنهما عملا بالشريعة الربانية، فقبض كلٌ منهما ماله كاملاً لاقتنعا بالربح أو الخسارة، ولم يكن للشيطان عليهما سبيل.   8- لا يجوز وضع المال في البنوك الربوية، ولا في صناديق التوفير الربوية في البنوك، ولا في صناديق التوفير البريدي، سواء أخذ المالك عليها الربا الذي يسمونه فائدة وربحاً أو جعلها في حساب جارٍ، فهذا من التعاون على الإثم والعدوان، ولا يجوز للمسلم أن يعين المرابين على الربا، وآكل الربا وموكله كلاهما ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمال الموضوع في البنك الربوي أو التوفير البريدي يُعتبر قرضاً ربوياً للمتعاملين بالربا، فهم يعطونه ربحاً محدداً على رأس ماله، مثل أن يُقرضهم مائة ألف ويردونها مائة ألف وزيادة عشرة آلاف، ويضمنون له رأس ماله، فالواقع أنه يقرضهم ماله حتى لو لم يأخذ عليه زيادة، وهو لا يضع ماله عندهم وديعةً أمانة، ولو كان أمانة لما ضمنوه له، فإن الأمين الذي يُوضع المال عنده أمانة لحفظه لا يضمن الوديعة إلا بالتعدي أو التفريط، وهم يضمنون له ماله على كل حال؛ لأنهم يقترضونه منه بزيادة معلومة، وهذا هو الربا الصريح الذي حرَّمه الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب على المسلم أن يتوب إلى الله من هذا الربا الصريح، ولا يجوز أن يُبقي ماله في مكاتب البريد وإن لم يأخذ الربا، يقول الله: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، ومن أراد حفظ ماله فليحفظه في البنوك الإسلامية، والواجب على القائمين على مكاتب البريد أن يتقوا الله ويتوبوا من هذا الربا الملعون أصحابه، وليحذروا من حرب الله ورسوله لهم إن لم يتوبوا من هذا المنكر العظيم والإثم الكبير، وبإمكانهم أن يقتدوا بالبنوك الإسلامية فيستثمروا الأموال في مشاريع مباحة، ثم يشتركون في الربح هم وأصحاب الأموال على حسب ما يتفقون عليه، فهذه مضاربة جائزة في الشريعة، حيث يشترك اثنان في التجارة أحدهما بماله والآخر بجهده وعمله، والربح بينهما على حسب ما يتفقان عليه، ولا يضمن العامل رأس المال إلا بالتعدي أو التفريط، فإن لم يربح شيئاً رد رأس المال إلى صاحبه، ويكون العامل قد خسر جهده، وإن قدّر الله وقوع خسارة في رأس المال بلا تعدي العامل ولا تفريطه فيرد إلى صاحب المال ما بقي له من رأس ماله، ويكون قد خسر جزءاً من رأس ماله، وخسر العامل جهده، وهذه هي المضاربة المشروعة التي تعملها البنوك الإسلامية، أما البنوك الربوية ومكاتب البريد فإنهم يحددون لصاحب المال نسبة من رأس ماله وليس من الربح؛ لأنهم اقترضوا ماله قرضاً ربوياً، ولذا يضمنون ماله على كل حال، وكلما أبقى ماله عندهم مدة أطول أعطوه زيادة أكثر، وهذا هو عين الربا، وقد أجمع الفقهاء على تحريمه، وصرَّحت بتحريمه كل المجامع الفقهية المعاصرة، ومع هذا لا يزال هذا الربا منتشراً بين كثير من المسلمين الغافلين، يقول الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 130 - 132].   9- البنوك الإسلامية تُعتبر ضرورة من ضرورات هذا العصر، وينبغي تشجيعها وحث القائمين عليها على تحري موافقة الشريعة في جميع معاملاتها، وما أعظم أجرهم إذا استقاموا على الشريعة، وأخلصوا لله أعمالهم، ولا شك أن البنوك الإسلامية قد نجحت نجاحاً عظيماً في جعل كثير من معاملاتها على وفق الشريعة الإسلامية، إلا أنها لا تزال تواجه مشاكل كبيرة، وعقبات كثيرة، وعلى القائمين عليها أن يتقوا الله، ويحرصوا على حل تلك المشاكل، وتجاوز تلك العقبات، وأن يسألوا أهل العلم عن كل صغيرة وكبيرة مما يُشكِل عليهم، وأن يستفيدوا من نصح العلماء الذين ينتقدون عليهم بعض المعاملات المشتبهة، وعلى المسلم أن يتحرى الحلال ويتجنب الحرام، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن أراد أن يتعامل مع بنك إسلامي فننصحه أن يعرض العقد على عالم رباني قبل أن يقدم على تلك المعاملة، فإن البنوك الإسلامية غير معصومة من الخطأ، ونسأل الله أن يوفق القائمين عليها لكل ما يحب ويرضى، وأن يجنبهم الربا والشبهات، ونسأل الله أن يهدي ولاة أمور المسلمين لإبطال الربا وتحقيق التقوى، ونسأل الله أن يحبب إلينا الإيمان، وأن يزينه في قلوبنا، وأن يُكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين. ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].   وكتب / محمد بن علي بن جميل المطري 5 شوال 1430 هـ • • • • تقريظ العلامة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني هذه خلاصة لأحكام الربا المحرم، كتبها ولدي العزيز الولد العالم النشيط محمد بن علي بن جميل المطري، فلله دره، وجزاه الله خيراً، ويُرجى منه نشرها لتعم الفائدة للجميع. محمد بن إسماعيل العمراني



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١