أرشيف المقالات

فثم وجه الله (سلسلة آيات العقيدة المتوهم إشكالها "11")

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
2سلسلة آيات العقيدة المتوهم إشكالها (11) ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]   وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: بيان وجه الإشكال في الآية. المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال. المطلب الثالث: الترجيح.
♦♦♦♦   المطلب الأول: بيان وجه الإشكال في الآية: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 115]. يتمثَّل وجه توهُّم الإشكال في الآية في قوله تعالى: ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ هل هي من نصوص الصفات؟ فتفيد إثبات صفة الوجه لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه؟ أم أنها ليست من نصوص الصفات؟[1]، وهل مَنْ حملَها على غير نصوص الصفات داخل في باب التأويل المذموم؟   هذا ما أحاول بيانه في المطالب التالية: المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال: تعدَّدت أقوال أهل العلم في المراد بلفظ "وجه" في هذه الآية على أقوال أهمها ما يلي: القول الأول: أن هذه الآية من نصوص الصفات، والمراد بالوجه هنا صفة الله على الوجه اللائق به، وممن قال بهذا القول: أحمد بن حنبل[2]، والدارمي [3]، وابن خزيمة [4]، والأصبهاني [5]، وابن عبدالبر [6]، والسمعاني [7]، وابن تيمية في قول له [8]، وابن القيم [9]، والسفاريني [10]، والسعدي [11]، وأكثر مثبتة الصفات [12].   قال ابن القيم: "الصحيح في قوله تعالى: ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ أنه كقوله في سائر الآيات التي ذكر فيها الوجه، فإنه قد اطَّرد مجيئه في القرآن والسنة مضافًا إلى الرَّبِّ تعالى، على طريقة واحدة، ومعنى واحد، فليس فيه معنيان مختلفان في جميع المواضع غير الموضع الذي ذُكِر في سورة البقرة، وهو قوله: ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾، وهذا لا يتعيَّن حملُه على القِبْلة والجهة، ولا يمتنع أن يُرادَ به وجْهُ الرَّبِّ حقيقةً، فحملُه على غير القِبْلة كنظائره كلِّها أولى" [13].   ومما استدلوا به: 1- "أنه لا يُعرف إطلاق "وجه الله" على القِبْلة لغةً ولا شرعًا ولا عُرْفًا؛ بل القِبْلة لها اسم يخصُّها، والوجه له اسم يخصُّه؛ فلا يدخُل أحدهما على الآخر، ولا يُستعار اسمه له، نعم القِبْلة تُسمَّى وِجْهة، كما قال تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ [البقرة: 148]، وقد تُسمَّى جهة"[14].   2- السياق فإن "الله سبحانه أخبر عن الجهات التي تستقبلها الأُمَم مُنكَّرةً مطلقةً غير مضافةٍ إليه...، فقال تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 148]، فتأمَّل هذا السياق في ذكر الوجهات المختلفة التي تولِّيها الأُمَم وجوههم، ونزل عليه قوله: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 115]، وانظر: هل يلائم السياقُ السياقَ، والمعنى المعنى ويُطابقه، أم هما سياقان دلَّ كلٌّ منهما على معنى غير المعنى الآخر؟ فالألفاظ غير الألفاظ، والمعنى غير المعنى" [15].   3- "أن تفسير القرآن بالقرآن هو أَولى التفاسير ما وُجِد إليه السبيل؛ ولهذا كان يعتمده الصحابة والتابعون والأئمة بعدهم، والله تعالى ذكر في القرآن القِبْلة باسم القِبْلة والوِجْهة، وذكر وجهه الكريم باسم الوجه المضاف إليه، فتفسيره في هذه الآية بنظائره هو المتعيَّن" [16].   4- أن السُّنة دلَّتْ على أن المصلي إذا قام يُصلِّي فإن الله قِبَلَ وجهه، وهي بمثابة التفسير لهذه الآية [17]، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان أحدُكم يُصلِّي، فلا يَبْصُق قِبَلَ وجهه؛ فإنَّ الله قِبَلَ وَجْهِهِ" [18].   القول الثاني: أن هذه الآية المراد بها القِبْلة والوِجْهة، وممَّن قال بهذا القول مجاهد [19]، وعكرمة [20]، والحسن البصري [21]، وقتادة [22]، ومقاتل [23]، والشافعي [24]، وابن تيمية في قول له [25]، والشوكاني [26]، وجمهور السلف [27]، ويُنسَب هذا القول لابن عباس [28].   قال ابن تيمية: "ليست هذه الآية من آيات الصفات، ومن عدَّها في الصفات فقد غلط" [29]، وقال: إنها قد تدلُّ على الصفة لكن "بوجه فيه نظر" [30].   ومما استدلوا به: 1- السياق، "فإن سياق الكلام يدلُّ على المراد؛ حيث قال: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]، والمشرق والمغرب الجهات، والوَجْه هو الجهة؛ يُقال: أي وجْهٍ تريده؟ أي: أي جِهة، وأنا أريد هذا الوَجْه؛ أي: هذه الجِهة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ [البقرة: 148]، ولهذا قال: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]؛ أي: تستقبلوا وتتوجَّهوا" [31].   2- أن الوجه يراد به "الجهة في لغة العرب، يُقال: قصدت هذا الوَجْه، وسافرت إلى هذا الوَجْه؛ أي: إلى هذه الجِهة، وهذا كثير مشهور، فالوَجْه هو الجِهة" [32].   المطلب الثالث: الترجيح: مما سبق من عرض الأقوال في المسألة، فإن أقرب الأقوال هو أن الآية تدلُّ على الأمرين جميعًا؛ تدلُّ على القِبْلة، وتدلُّ على صفة الوجه، ومعنى الآية: "لا يجوز حمله على الوِجْهة فقط، وكذلك لا يجوز حملُه على صفة الله فقط" [33].   ومما يؤيد ذلك: 1- أن العرب لا تُطلِق لفظ الوجه إلَّا لمن له وجه حقيقةً، وأن هذا أسلوب من أساليب العرب في الخطاب [34].   2- أن "من نُقِل عنهم أن الآية تدل على القِبْلة، لم يُنقَل عنهم نفي دلالة الآية على الوجه؛ بل غاية ما نُقِل إثباتهم لدلالة الآية على القِبْلة، وهذا لا يُنازِعهم فيه القائلون بإثبات الصفة من الآية؛ فإن الآية تدلُّ على القبلة وعلى صفة الوجه" [35].   3- أن من قال بدلالة الآية على القِبْلة "من السلف والأئمة، لم يقولوه؛ لأنهم ينفون وجه الله الذي يراه المؤمنون في الآخرة؛ بل قالوه لأن ذلك ظاهر الخطاب عندهم" [36].   4- أن "الصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها - القطع بالطريقة الثابتة؛ كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى فوق عرشه، ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك؛ دلالة لا تَحتمل النقيض، وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردُّد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان، ومَن لم يجعل الله له نورًا فما له من نورٍ، ومَن اشتَبه عليه ذلك أو غيره، فليدْعُ بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي من الليل قال: ((اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكُم بين عبادِكَ فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحَقِّ بإذْنِكَ، إنَّكَ تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))[37]" [38].   5- أن كثيرًا مِن ردود ابن تيمية في هذه المسألة متوجِّهة إلى من قَصَر دلالة الآية على الصفة فقط، دون دلالتها على القِبْلة؛ ولذلك يُقرِّر أن "من الناس من يُسَلِّم أن المراد بذلك جهة الله؛ أي: قِبْلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة، وعلى أن العبد يستقبل ربَّه...
ويقول: إن الآية دلَّتْ على المعنيَينِ، فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه.   والغرض أنه إذا قيل: "فثم قِبلة الله"، لم يكن هذا من التأويل المتنازَع فيه؛ الذي يُنكِره منكرو تأويل آيات الصفات، ولا هو مما يَستدِلُّ به عليهم المثبتة، فإن هذا المعنى صحيح في نفسه، والآية دالة عليه، وإن كانت دالة على ثبوت صفة، فذاك شيء آخر، ويبقى دلالة قولهم: ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ على "فثمَّ قبلة الله"، هل هو من باب تسمية القِبْلة وجْهًا باعتبار أن الوجه والجهة واحد؟ أو باعتبار أن مَن استقبَل وجهَ الله، فقد استقبل قِبْلة الله؟ فهذا فيه بحوث ليس هذا موضِعها"[39].


[1] يُنظَر: تفسير البحر المحيط؛ لأبي حيان 1/ 531. [2] يُنظَر: السنة لعبدالله بن أحمد 2/ 514. [3] يُنظَر: نقض الدارمي 2/ 710. [4] يُنظَر: كتاب التوحيد؛ لابن خزيمة 1 / 25. [5] يُنظَر: الحجة في بيان المحجة 1/ 199. [6] يُنظَر: التمهيد 7/ 151. [7] يُنظَر: تفسير السمعاني 1/ 129. [8] يُنظَر: بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 79، 81. [9] يُنظَر: إعلام الموقعين 6/ 53، ومفتاح دار السعادة 2/ 248، ومختصر الصواعق المرسلة؛ للموصلي 3/ 1011. [10] يُنظَر: لوامع الأنوار 1/ 228. [11] يُنظَر: تفسير السعدي، ص 64. [12] يُنظَر: بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 81، ومختصر الصواعق؛ للموصلي 3/ 1021. [13] مختصر الصواعق؛ للموصلي 3/ 1011. [14] مختصر الصواعق؛ للموصلي 3/ 1011. [15] المرجع السابق 3/ 1015. [16] المرجع السابق 3/ 1020، ويُنظَر: بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 78. [17] يُنظَر: مختصر الصواعق؛ للموصلي 3/ 1021. [18] أخرجه البخاري، رقم (406) 1/ 90، كتاب: الصلاة، باب: حك البزاق باليد من المسجد، وأخرجه مسلم، رقم (547)، ص 248. [19] يُنظَر: سنن الترمذي 5/ 206، وابن أبي حاتم، رقم (1122) 1 / 212، والأسماء والصفات؛ للبيهقي 2/ 106، ومجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 3/ 193. [20] يُنظَر: زاد المسير 1/ 135. [21] يُنظَر: ابن أبي حاتم، رقم (1122)، 1/ 212، تفسير البغوي 1/ 139. [22] يُنظَر: تفسير الطبري 2/ 451، تفسير البغوي 1/ 139. [23] يُنظَر: تفسير البغوي 1/ 139. [24] يُنظَر: الأسماء والصفات؛ للبيهقي 2/ 106، مجموع الفتاوى 3/ 193، 6/ 15، ومختصر الصواعق المرسلة 3/ 1011. [25] يُنظَر: مجموع الفتاوى 2/ 429، 3/ 193، 6/ 15-16، والجواب الصحيح 4/ 414. [26] يُنظَر: تفسير الشوكاني 1/ 258. [27] يُنظَر: مجموع الفتاوى 2/ 429. [28] يُنظَر: تفسير ابن أبي حاتم، رقم (1124) 1/ 212. [29] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 3/ 193. [30] المرجع السابق 2/ 429. [31] المرجع السابق 3/ 193، ويُنظَر: مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 6/ 16. [32] المرجع السابق 6/ 16. [33] بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 79. [34] يُنظَر: بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 5/ 470، مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 6/ 370. [35] يُنظَر: بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 74، 78. [36] يُنظَر: المرجع السابق 6/ 74. [37] أخرجه مسلم، رقم (770)، ص 350. [38] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 5/ 117. [39] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 6/ 17.




شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣