أرشيف المقالات

قصات الشعر المعاصرة: أوهام وأحكام

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2قصات الشعر المعاصرة أوهام وأحكام   من الصيحات التي انتشرت في زماننا انتشارًا واسعًا يلفتُ الأنظار، ويدعو للتعجُّب والاستغراب، هذه الأنواع المتعدِّدة من حلاقة الشعر التي اكتسحَتْ صفوفَ أطفالِنا وشبابِنا، حتى ذهبَتْ بألْبابِهم، وأخَذَتْ بتلابيبهم، بعد أن انفتحوا على شبكة الإنترنت انفتاحَ المبهوت المنبهر، وتقصَّوا آثار المواقع الإلكترونية تقصُّص المسلوب المنبطح، ليقَعَ بصرُهم على رؤوس النجوم والفنانين والرياضيِّين، قد غزتها هذه القَصَّات المريبة، والتحاليق الغريبة، التي دخلت عالم الموضة والأزياء والتجميل، حتى صار ثُلُثا تلاميذ الثانويَّات والمتوسط يُفضِّلُون قصَّات شَعَر معينة عند حلَّاقين خاصِّين بهم، قد يزورونهم مرتين في الأسبوع، وصارت القصَّات لها عشرات الأسماء، وبـ"كتالوجات" متعدِّدة، اعتمادًا على نمط الحياة الذي يعيشه المعني بالأمر، وحسب نوع الشَّعر الذي يمتلكه، وحسب شكل الرأس، واستدارة الوجه، ولون البشرة؛ فصِرْنا أمام القَصَّات الرومانسية، والرياضية، والكلاسيكية، والقَصَّة البريطانية، والكندية، والبوهيمية، والقيصرية، والقنفذية...
وغيرها.   بل بلغ التعجب بهؤلاء أنْ صَنَعُوا من شَعرِهم صورًا بشعة لحشرات مُرْعبة، وحيوانات مَخوِّفة، وجماجم مُقزِّزة، وارتأى بعضُهم أن يرسم وجوه نجوم الفن، ومشاهير الرياضة، وأبطال الأفلام والمسلسلات، ومتزعِّمي الحروب، وذهب بعضُهم إلى رسم علامات ورموز تُشير إلى مذهب فكري معين، أو تصوُّر عَقَدي.   بل لم يكتفِ بعضُ الحلَّاقين باستعمال المقصِّ والموسى، حتى خرج علينا مَنْ يحلق بإشعال النار في رأس المحلوق، ومَنْ يستعمل السواطير والسيوف والمطارق والمناشير في إزالة الشعر، ومَنْ يُفضِّل الحَلْق باستعمال الشمع، وغير ذلك من الأغاريب.   وزادوا الصيحة تكثيفًا حين استعملوا الألوان، الأحمر منها والأزرق والأخضر والبنفسجي وغيرها، فرسموا على رؤوسهم خرائط البلدان، والسهول والجبال ومسيل الوديان، والزخارف المزركشة بخليط الألوان، وغير ذلك من أعاجيب هذا الزمان.   واختلطت كل هذه الوصفات الغريبة، بوضْع أعراف مصبوغة مرفوعة، تشبُّهًا بالدِّيَكة، أو ذيول خلفية مُنسابة كذيول الأحْصِنة، أو تعاقيص فوقية مكوَّمة كأسنمة الجمال المائلة.   وربما حلقوا النصف الأيمن من الرأس وتركوا الأيسر، أو حلَقُوا الأيسر وتركُوا الأيمن، أو حلَقوا الجانبين وتركوا الأعلى، أو حلَقُوا الوسط وتركوا الأطراف، أو حلَقُوا القافية وتركوا الناصية، أو حَلَقُوا الناصية وتركوا القافية.   بل أمعن بعضُهم في تشويه صورته بأن أضاف إلى ذلك حَلْق حاجبيه، وَدَهْن وجنتَيه، وتزيين عينيه، وتلوين شفتيه، ووَشْم عطفيه، واقفًا أمام المرآة الساعات ذوات العدد، معتقدًا أنه بذلك استطاع أن يلفت إليه الأنظار، وأن يتحدَّى أعراف المجتمع، وأن يثور على التقاليد، وأن يأتي بما لم يأتِ به الأوائل، وكلُّ ذلك تكلُّفٌ زائد، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "نُهِينا عَنِ التَّكَلُّفِ"؛ البخاري.   فهل هذا هو التجمُّل الحقيقي الذي أراده منا شرعُنا؟ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الرجل يُحِبُّ أن يكون ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنةً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمالَ))؛ مسلم، هذا في المظهر الغالب، وهو الثوب والنعل، أما الشَّعر ففيه من الشَّرْع تفصيل لا يدع مجالًا للتغاضي عن هديه، وادِّعاء الحرية الشخصية في مقارفة ضده؛ فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْقَزَعِ، قال عمر بن نافع لنافع: وما الْقَزَعُ؟ قال: يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبيِّ وَيُتْرَكُ بَعْضٌ"؛ متفق عليه، وفي مسند أحمد: "قال عُبَيْدُالله: وَالْقَزَعُ التَّرْقِيعُ في الرَّأْسِ، وفيه أيضًا: "قال حَمَّاد: تَفْسِيرُهُ أنْ يُحْلَقَ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبيِّ، وَيُتْرَكَ مِنْهُ ذُؤابةٌ"، وفيه أيضًا: "قال عبدالصمد: وهي الْقَزَعةُ: الرُّقْعةُ في الرَّأْسِ".   فإمَّا أن يُحلَق الشَّعرُ كاملًا، وإما أن يُترَكَ كاملًا؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى صَبِيًّا قَدْ حُلِقَ بَعْضُ شَعرِهِ وَتُرِكَ بَعْضُهُ، فَنَهاهُمْ عَنْ ذلك، وقال: ((احْلِقُوهُ كُلَّهُ، أَو اتْرُكُوهُ كُلَّهُ))؛ صحيح سنن أبي داود، قال ابن الهمام رحمه الله: "مقتضى الدليل في الحَلْق، وجوب الاستيعاب كما هو قول مالك"، ويُعضِّده قوله تعالى: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ﴾ [الفتح: 27]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((رَحِمَ اللهُ الْمُحَلِّقِينَ))؛ متفق عليه.   أما حَلْق القفا من غير حجامة، فهو تشبُّه بالمجوس والنصارى؛ قال ابن عبدالبر في التمهيد: "روينا عن مالك أنه قال: أول مَنْ حلق قفاه عندنا دراقس النصراني"، وقال فيه أحمد بن حنبل: "هو من فعل المجوس، مَنْ تشبَّه بقومٍ فهو منهم"، ولقد فصَّل شيخ الإسلام رحمه الله في أحكام حَلْق شعر الرأس، وجعلها أربعة، قال: "حلق الرأس على أربعة أنواع: أحدها: حلقه في الحجِّ والعمرة، فهذا ممَّا أمر الله به ورسوله، وهو مشروع ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة؛ قال تعالى: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ﴾ [الفتح: 27]، وقد تواتَرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حَلَقَ رأسَه في حجه وفي عُمَره، وكذلك أصحابه، منهم من حلق، ومنهم من قصَّر، والحَلْقُ أفضل من التقصير.   النوع الثاني: حلق الرأس للحاجة، مثل أن يحلقه للتداوي، فهذا أيضًا جائزٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، فإن الله رخَّص للمُحْرِم الذي لا يجوز له حَلْقُ رأسِه أن يحلقه إذا كان به أذًى.   النوع الثالث: حلقه على وجه التعبُّد والتديُّن والزُّهْد، من غير حجٍّ ولا عُمْرة؛ مثل ما يأمر بعض الناس التائبَ إذا تاب بحَلْق رأسِه، ومثل أن يُجعَل حَلْقَ الرأس شعارَ أهل النُّسُك والدين، أو من تمام الزُّهْد والعبادة، أو يُجعَل مَنْ يحلق رأسه أفضل ممَّن لم يحلقه، أو أدينَ أو أزهدَ، أو أن يُقصر من شَعر التائب، كما يفعل بعض المنتسبين إلى المشيخة إذا تَوَّب أحدًا أن يقصَّ بعض شعره، ويُعيِّن الشيخ صاحب مقصٍّ وسجَّادة، فيجعل صلاته على السجادة، وقصَّه رؤوس الناس من تمام المشيخة التي يصلح بها أن يكون قدوةً يتوِّب التائبين، فهذا بدعةٌ لم يأمر الله بها ولا رسولُه، وليست واجبةً ولا مستحبةً عند أحد من أئمة الدين، ولا فعلها أحدٌ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا شيوخ المسلمين المشهورين بالزهد والعبادة، لا من الصحابة، ولا من التابعين، ولا تابعيهم ومن بعدهم.   والنوع الرابع: أن يحلق رأسَه في غير النُّسُك لغير حاجة، ولا على وجه التقرُّب والتديُّن، فهذا فيه قولان للعلماء هما: روايتان عن أحمد، أحدهما: أنه مكروه، وهو مذهب مالك وغيره، والثاني: أنه مباح، وهو المعروف عند أصحاب أبي حنيفة والشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى غلامًا قد حلق بعض رأسه، فقال: ((احلقُوه كُلَّه، أو دعوه كُلَّه))، وأُتي بأولاد صغار بعد ثلاث، فحلق رؤوسهم، ولأنه نهي عن القَزَع، والقَزَع: حَلْقُ البعض، فدلَّ على جواز حَلْق الجميع، والأولون يقولون: حَلْق الرأس شعارُ أهل البِدَع، فإن الخوارج كانوا يحلقون رؤوسهم، وبعض الخوارج يعدُّون حَلْقَ الرأس من تمام التوبة والنُّسُك، وقد ثبَت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يُقسِّم، جاءَه رجل عامَ الفتح كثُّ اللحية محلوق"؛ انتهى كلامه رحمه الله.   أما من ترك شعره، فليُكرِمْه بالتمشيط، وليتزيَّن به بما دأب عليه أهلُ بلده بلا تشبُّه بشَرْق أو بغَرْب، غير قاصد التفات الناس إليه بما يخرج عن أعرافهم التي لا تخالف شرعًا أو هديًا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كان لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ))؛ صحيح سنن أبي داود، قال المناوي رحمه الله: "فليُكرِمْه بتعهُّدِه بالتسريح والترجيل والدهن، ولا يُهمله حتى يتشعَّثَ، لكن لا يُبالغ".   وقال ابن القيم رحمه الله: "فإن العبد مأمورٌ بإكرام شعره، ومنهيٌّ عن المبالغة والزيادة في الرفاهية والتنعُّم، فيُكرِمُ شَعْرَه، ولا يتَّخِذ الرفاهية والتنعُّم دَيْدَنَه".   وعن عطاء بن رباح قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ثائرَ الرأس واللحية، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَدِهِ أَنِ اخْرُجْ، كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل، ثم رجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أليسَ هذا خيرًا من أن يأتيَ أحدُكم ثائرَ الرأس كأنه شيطان))؛ مالك في الموطأ وهو في الصحيحة.   هذا هو الهدي النبوي في التعامُل مع الشَّعر، تجمُّل معتدل، وقَصْد حَسَن، وحِفْظ لِخَلْق الله من التغيير، وحفاظ على طبيعة الإنسان الذي خلَقه الله في أحسن تقويم، ونهي عن التشبُّه بمن يملؤون الفراغ بالفراغ، فيُضيِّعُون الأوقات الثمينة في غير طائل، ويصرفون الأموال الباهظة من غير نائل، ويتباهون أمام الجنس الآخر بتزييف زائل، لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، ولا يزيد في الهيبة ولا يرفع من القَدْر، إلَّا أن يذهب بالدِّين، ويمحق الأجر. فاللهُ يحمينا ويحفظُ ديننا من شَِّر كُلِّ مُعاندٍ سَخَّابِ ويُؤيِّدُ الدِّينَ الحنيفَ بعُصْبةٍ مُستمسكِين بسُنَّةٍ وكِتابِ لا يأخُذُونَ برأيهم وقِياسِهم ولهُمْ إلى الوحْيَينِ خيرُ مئابِ لا يشربُونَ من المكَدَّر إنَّما لهم الْمُصفَّى من ألذِّ شرابِ قد أخْبَرَ المختارُ عنهم أنَّهم غُرَباءُ بَيْنَ الأهْلِ والأصْحابِ سَلَكُوا طَريقَ التابعينَ على الهُدَى ومَشَوا على مِنْهاجِهم بصَوابِ



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣