أرشيف المقالات

العجوزان

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 3 - العجوزان للأستاذ مصطفى صادق الرافعي قال المحدِّث: وتبين في العجوز (ن) أثرُ التعب فتوجع وأخذ يئنُّ كأن بعضه قد مات لوقته.

أو وقع فيه اختلالٌ جديد أو نالته ضربةُ اليوم؛ والشيخ متى دخل في الهرم دخل في المعركة الفاصلة بينه وبين أيامه ثم تأفف وتململ وقال: إن أولَ ما يظهر على من شاخ وهرم، هو أن الطبيعة قد غيرت القانون الذي كانت تحكمه به قال الأستاذ (م): إن صاحبنا كان قاضياً يحكم في المحاكم، وأرى المحاكم قد حكمت عليه بهذه الشيخوخة (مُطَبَّقةً فيها) بعض المواد من قانون العقوبات، فما خرج من المحكمة إلا إلى الحبس الثالث فضحك (ن) وقال: قد عرفنا (الحبس البسيط) و (الحبس مع الشغل) فما هو هذا الحبس الثالث؟ قال: هو (الحبس مع المرض).
قال (ن): صدقتَ لعمري فأن آخر أجسامنا لا يكون إلا بحساب من صنعة أعمالنا؛ وكأن كرسي الوظيفة الحكومية قد عرف أنه كرسيُّ الحكومة، فهو يضرب الضرائب على عظام الموظفين.

أتدري معنى قوله تعالى: (ومنكم من يُردُّ إلى أرذل العُمُر) ولِمَ سماه الأرذل؟ قلنا: فلم سماه كذلك؟ قال: لأنه خَلْطُ الإنسان بعضه ببعض، ومسخُه من أوله إلى آخره، فلا هو رجلٌ ولا شاب ولا طفل، فهو أردأ وأرذل ما في البضاعة.
فاستضحك الأستاذ (م) وقال: أما أنا فقد كنت شيخاً حين كنت الثلاثين من عمري، وهذا هو الذي جعلني فتىً حين بلغت السبعين قال (ن): كأن الحياة تصحح نفسها فيك قال: بل أنا أكرهتها أن تصحح نفسها؛ فقد عرفتُ من قبل أن سَعَةَ الإنفاق في الشباب هي ضائقة الإفلاس في الهرم، وأيقنتُ أن للطبيعة (عدَّادا) لا يخطئ الحساب، فإذا أنا اقتصدت عدَّت لي، وإذا أسرفتُ عدَّت عليَّ؛ ولن تعطيني الدنيا بعد الشباب إلا مما في جسمي، إذ يعطي الكون حياً أراد أن ينتهي منه، فكنت أجعل نفسي كالشيخ الذي تقول له الملذات الكثيرة: لستُ لك، ومن ثم كانت لذاتي كلها في قيود الشريعتين: شريعة الدين وشريعة الحياة قال: وعرفت أن ما يسميه الناس وَهَنَ الشيخوخة لا يكون من الشيخوخة ولكن من الشباب؛ فما هو إلا عملُ الإنسان في تسميم ثلاثين أو أربعين سنة بالطعام والشراب والإغفال والإرهاق والسرور والحزن واللذة والألم؛ فكنت مع الجسم في شبابه ليكون معي بعد شبابه، ولم أبرح أتعاهدُه كما يتعاهد الرجلُ داره، يزيد محاسنها وينفي عيوبها، ويحفظ قوَّتها ويتقي ضعفها، ويجعلها دائماً باله وهمه، وينظر في يومها القريب لغدها البعيد، فلا ينقطع حسابُ آخرها وإن بعُدَ هذا الآخر، ولا يزال أبداً يحتاط لما يخشى وقوعه وإن لم يقع قال الجوز (ن): صدقت والله فما أفلح إلا من اغتنم الامكان؛ وما نوع الشيخوخة إلا من نوع الشباب.
وهذا الجسم الإنساني كالمدينة الكبيرة فيها (مجلسها البلديُّ) القائم على صيانتها ونظامها وتقويتها، ورئيس هذا المجلس الإرادة، وقانونه كله واجبات ثقيلة، وهو كغيره من القوانين إذا لم ينفذ من الأول لم يُغن في الآخر فال الأستاذ (م): وكل جهاز في الجسم هو عضو من أعضاء ذلك (المجلس البلدي)؛ فجهاز التنفس وجهاز الهضم والجهاز العضلي والجهاز العصبي والدورة الدموية، هذه كلها يجب أن تترك على حريتها الطبيعية وأن تعان على سنتها، فلا يحال بينها وبين أعمالها برشوة من لذة أو مفسدة من زينة أو مطمعة في رفاهية أو دعوة إلى مدنية أو شيء مما يفسد حكمها أو يعطل عملها أو يضعف طبيعتها والقاعدة في العمر أنه إذا كان الشبابُ هو الطفولة الثانية في براءته وطهارته، كانت الشيخوخة هي الشباب الثاني في قوتها ونشاطها.
وما رأيت كالدين وسيلة تجعل الطفولة ممتدة بحقائقها إلى آخر العمر في هذا الإنسان؛ فسرُّ الطفولة إنما هو في قوتها على حذف الفضول والزوائد من هذه الحياة، فلا يُطغيها الغنى، ولا يكسرها الفقر، ولا تذلها الشهوة، ولا يُفزعها الطمع ولا يهولها الإخفاق ولا يتعاظمها الضر، ولا يخفيها الموت.
ثم لا تملُّ وهي الصابرة، ولا تبالغ وهي الراضية، ولا تشك وهي الموقنة، ولا تسرف وهي القانعة، ولا تتبلد وهي العاملة، ولا تجمد وهي المتجولة.
ثم هي لا تكلف الإنسانية إلا العطف والحب والبشاشة وطبائع الخير التي يملكها كل قلب؛ ولا توجب شريعتها في المعاملة إلا قاعدة الرحمة، ولا تقرر فلسفتها للحياة إلا طهارة النظر؛ ثم تتهكم بالدنيا أكثر مما تهتمُّ لها، وتستغني فيها أكثر مما تحتاج، وتستخرج السعادة لنفسها دائماً مما أمكن؛ قلَّ أو كثر وبكل هذا تعمل الطفولة في حراسة الحياة الغضة واستمرارها ونموها؛ ولولا ذلك لما زها طفل ولا شبَّ غلام ولا رأت العيون بين هموم الدنيا ذلك الرُّواء وذلك المنظر على وجوه الأطفال يثبتان أن البراءة في النفس أقوى من الطبيعة وكل ذلك هو أيضاً من خصائص الدين وبه يعمل الدينُ في تهذيب الحياة واطّرادها على أصولها القوية السليمة، ومتى قوى هذا الدين في إنسان لم تكن مفاسد الدنيا إلا من وراء حدوده، حتى كأنه في أرض وهي في أرض أخرى؛ وأصبحت البراءة في نفسه أقوى من الطبيعة ثم قال: والعجيب أن اعتقاد المساواة بين الناس لا يتحقق أبداً بأحسن معانيه وأكملها إلا في قلبين: قلب الطفل لأنه طفل، وقلب المؤمن لأنه مؤمن فقال العجوز (ن): إنه لكما قلت، ولعنة الله على هذه الشهوات الآدمية الباطلة.
فأن الشهوة الواحدة في ألف نفس لتجعل الحقيقة الواحدة كأنها ألف حقيقة متعادية متنازعة.
والطامعان في امرأة واحدة قد تكون شهوة أحدهما هي الشهوة وهي القتل.
ولعنة الله على الملحدين وإلحادهم، يزْرون على الأديان بأنها تكاليف وقيود وصناعة للحياة، ثم لا يعلمون أن كل ذلك لصناعة الآلة النفسية التي تستطيع أن تحرك المختلفين حركة واحدة، فما ابتليت الإنسانية بشيء كما ابتليت بهذا الخلاف الذي يفتح من كل نفس على كل نفس أبواب التجني، ويجعل النَّفرةَ وسوء الظن أقرب إلى الطبيعة البشرية من الألفة والثقة لقد جاء العلم بالمعجزات ولكن فيما بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان ومنافعه، وبين الإنسان وشهواته؛ فهل غير الدين يجيء بالمعجزات العملية فيما بين النفس والنفس، وبين النفس وهمومها، وبين ما هو حق وما هو واجب؟ قال المحدث: ثم نظر إليَّ العجوز (ن) وقال: صِلْ عمك يا بني بالحديث الذي مضى، فأين بلغنا آنفاً من التجديد والمجددين وماذا قلنا وماذا قلت؟ أما إن الحماقة الجديدة والرذيلة الجديدة والخطأ الجديد، كل ذلك إن كان جديداً من صاحبه فهو قديم في الدنيا؛ وليس عندنا أبداً من جديد إلا إطلاق الحرية في استعمال كل أديب حقه في الوقاحة والجهل والخطأ والغرور والمكابرة قال الأستاذ (م): وليس الظاهر بما يظهر لك منه ولكن بالباطن الذي هو فيه؛ فمستشفى المجاذيب قصر من القصور في ظاهره ولكن المجاذيب هم حقيقته لا البناء.
وكل مجدد عندنا يزعم لك أنه قصر عظيم وهو في الحقيقة مستشفى مجانين، غير أن المجانين فيه طباع وشهوات ونزَوات.
وعلى هذا ما الذي يمنع الفجور المتوقح أن يسمي نفسه الأدب المكشوف؟ قال (ن): وإذا أنت ذهبت تعترض على هذه التسمية زعموا لك أن للفن وقاحة مقدسة.

.
وأن (لا أدبية) رجل الفن هي (اللا أخلاقية العالية).

. قال الأستاذ (م): فوقاحة الشهوة إذا استعلنت بين أهل الحياء وأهل الفضيلة ودعت الى مذهبها، كانت تجديداً ما في ذلك ريب.
ولكن هذا المذهب هو أقدم ما في الأرض إذ هو بعينه مذهب كل زوجين اجتمعا من البهائم منذ خلق الله البهائم.
قال (ن): وقل مثل ذلك في متسخّط على الله وعلى الناس يخرج من كفره بين أهل الأديان أدباً جديداً، وفي مغرور يتغفل الناس، وفي لص آراء، وفي مقلد تقليداً أعور؛ كل واحد من هؤلاء وأشباههم مبتلي بعلة، فمذهبه رسالة علته؛ وأكثرهم لا يكون ثباته على الرأي الفاسد إلا من ثبات العلة فيه قال المحدِّث: وكنتُ من المجددين فأرمضني ذلك، وقلت للعجوزين: إن هذا نصف الصحيح؛ أما النصف الآخر فهو في كثير من هؤلاء الذين ينتحلون الدفاع عن الدين والفضيلة.
نعم إنهم لا يستعملون حقهم في الوقاحة، ولكن القروش تستعمل حقها.
فضحك العجوز (ن) وقال: يا بني إن الجديد في كل حمار هو أن يزعم أن نهيقه موسيقى.

فالحمار والنهيق والموسيقى كل ذلك لا جديد فيه، ولكن التسمية وحدها هي الجديدة.
ولو كان البرهان في حلق الحمار لصح هذا الجديد، غير أن التصديق والتكذيب هنا في آذان الموسيقيين لا في حلق حمارنا المحترم.
قال (م): وزعموا أن رجلاً نصب فخاً لصيد العصافير، فجاء عصفور فنظر من هذا الفخ الى شيء جديد فقال: يا هذا! مالك مطمورا في التراب؟ قال الفخ: ذلك من التواضع لخلق الله.
قال: فممَّ كان انحناؤك؟ قال الفخ: ذلك من طول عبادتي لله.
قال: فما هذه الحبة عندك؟ قال الفخ: أعددتها لطيور الله الصائمين يفطرون عليها.
قال العصفور: فتُبيحها لي؟ قال: نعم فتقدم المسكين اليها، فلما التقطها وقع الفخ في عنقه، فقال وهو يختنق: إن كان العُبّاد يخنقون مثل هذا الخنق فقد خلق إبليس جديد قال (ن): فالحقيقة أن إبليس هو الذي تجدد ليَصْلح لزمن الآلات والمخترعات والعلوم والفنون وعصر السرعة والتحول.
وما دام الرقي مطردا وهذا العقل الإنساني لا يقف عند غاية في تسخير الطبيعة، فسينتهي الأمر بتسخير إبليس نفسه مع الطبيعة.
.
لاستخراج كل ما فيه من الشر قال (م): ولكن العجب من إبليس هذا.
أتراه انقلب أوربيَّا للأوربيين؟ وإلا فما بالُه يخرج فيهم مجددين من جبابرة العقل والخيال ثم لا يؤتينا نحن إلا مجددين من جبابرة التقليد والحماقة؟ قال المحدث: فقلت لهما: أيها العجوزان القديمان، سأنشر قولكما هذا ليقرأه المجددون قال الأستاذ (م): وانشر يا بني أن الربيع صاحب الإمام الشافعي مر يوماً في أزقة مصر فنثرت على رأسه إجانة مملوءة رمادا، فنزل عن دابته وأخذ ينفض ثيابه ورأسه فقيل له: ألا تزجرهم؟ قال: من استحق النار وصولح بالرماد فليس له أن يغضب.
ثم قال محدثنا: واستولى عليَّ العجوزان ورأيت قولهما يعلو قولي وكنت في السابعة والعشرين وهي سن الحِدَّة العقلية فما حسبتُني معهما إلا ثُلث عجوز.

.
مما أثرا علي، وانقلبت لا أرى في المجددين إلا كل سقيم فاسد، واعتبرتُ كل واحد منهم بعلته، فإذا القول ما قال الشيخان وإذا تحت كل رأى مريض مرضٌ، ووراء كل اتجاه إبرة مغناطيسية طرفها إلى الشيطان.
وفرغنا من هذا فقلت للشيخين: لقد حان وقت نزولكما من بين الغيوم أيها الفيلسوفان؛ أما كنتما في سنة 1895 من الجنس البشري.
؟ (لها بقية - طنطا) مصطفى صادق الرافعي

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير