أرشيف المقالات

الإيمان بصفات الله من غير تحريف ولا تأويل ولا تشبيه ولا تكييف

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2الإيمان بصفات الله من غير تحريف ولا تأويل ولا تشبيه ولا تكييف   قوله: «الإيمان بصفات الله»: أي التصديق الجازم، والإقرار بصفات الله تعالى الواردة في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قوله: «من غير تحريف»: أي من غير تغيير لفظها، أو معناها الحق الذي دلت عليه.   والتحريف نوعان: الأول: تحريف لفظي، وهو تغيير لفظ الكلمة، كتغير حركة، أو زيادة أو نقصان حرف؛ كما حرَّف بعض المحرفة لفظ الجلالة في قول الله تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، إلى النصْب، ليكون الكلام من جهة موسى عليه السلام، لا من الله سبحانه وتعالى.   الثاني: تحريف معنوي، وهو إثبات اللفظ، وتغيير المعنى، كمن فسر وجه الله بثوابه، وعينيه برعايته، ويديه بنعمته أو قدرته.   قوله: «ولا تأويل»: التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. ومثاله: تأويل من تأول: استوى، بمعنى استولى، واليدين بمعنى القدرة، والقَدَم بمعنى الشدة، ونحوه.   فهذا عند السلف والأئمة باطل لا حقيقة له، بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وهذا اصطلاح حدث عند كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله؛ ولم يكن معروفا عند السلف[1].   والتأويل عند السلف له معنيان[2]: الأول: التفسير سواء وافق ظاهره أو لم يوافقه، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»[3]، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير: «واختلف علماء التأويل»، و: «القول في تأويل قوله تعالى كذا»؛ وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، وهو موافق لوقف من وقف من السلف على قول الله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران: 7].   الثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، فتأويل ما أخبر به في الجنة من الأكل، والشرب، واللباس، والنكاح، وقيام الساعة، وغير ذلك، هو الحقائق الموجودة أنفسها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان، ويعبر عنه باللسان، وهذا هو التأويل في لغة القرآن كما قال الله تعالى عن يوسف عليه السلام أنه قال: ﴿ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ [يوسف: 100].
وقال الله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 53].   وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله؛ وعليه يجب الوقف على قول الله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7].   قوله: «ولا تشبيه»: التشبيه هو التمثيل كمن يقول لله سمع كسمعنا، ووجه كوجوهنا تعـالى الله عن ذلك. وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه المثل، فقال: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، أي: ليس كخالق الأزواج كلها شيء؛ لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له[4].   وقال سبحانه وتعالى: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]، أي من يساميه ويماثله[5]. ومن العلماء من يرى أن التمثيل أعم، فالتمثيل يقتضي المشابهة من جميع الوجوه، أما التمثيل فيقتضي المشابهة من بعض الوجوه[6]، ولفظ «التمثيل» أولى من لفظ «التشبيه»؛ لأن لفظ التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، وقال: سبحانه وتعالى: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65].   أما لفظ «التشبيه»، فلم يرد في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم[7]. قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: «من شبه الله بخلقه، فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه»[8].   وقال ابن كثير: «ليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى»[9].   وقال الذهبي معلقاً على كلام نعيم بن حماد المتقدِّم: «هذا الكلام حق، نعوذ بالله من التشبيه، ومن إنكار أحاديث الصفات، فما ينكر الثابت منها من فَقُهَ، وإنما بعد الإيمان بها هنا مقامان مذمومان: المقام الأول: تأويلها وصرفها عن موضوع الخطاب، فما أولها السلف، ولا حرفوا ألفاظها عن مواضعها، بل آمنوا بها، وأمرُّوها كما جاءت.
المقام الثاني: المبالغة في إثباتها، وتصورها من جنس صفات البشر، وتشكلها في الذهن، فهذا جهل وضلال، وإنما الصفة تابعة للموصوف، فإذا كان الموصوف عز وجل لم نره، ولا أخبرنا أحد أنه عاينه مع قوله لنا في تنزيله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، فكيف بقي لأذهاننا مجال في إثبات كيفية البارئ - تعالى الله عن ذلك - فكذلك صفاته المقدسة، نقرُّ بها، ونعتقد أنها حق، ولا نمثِّلها أصلا، ولا نتشكَّلها»
[10].
قوله: «ولا تكييف»: التكييف هو تعيين كيفية الصفة، فتكييف صفات الله تعالى هو تعيين كيفيتها، والهيئة التي تكون عليها، كمن يقول: كيفية صفات الله سبحانه وتعالى كذا وكذا.   ولهذا لما جَاءَ رَجُلٌ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى؟ قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ مَالِكًا وَجَدَ مِنْ شَيْءٍ كَمَوْجِدَتِهِ مِنْ مَقَالَتِهِ، وَعَلَاهُ الرُّحَضَاءُ، يَعْنِي الْعَرَقَ قَالَ: وَأَطْرَقَ الْقَوْمُ، وَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَ مَا يَأْتِي مِنْهُ فِيهِ، قَالَ: فَسُرِّيَ عَنْ مَالِكٍ، فَقَالَ: «الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالاسْتِوَاءُ مِنْهُ غَيْرُ مَجْهُوَلٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ ضَالًّا»، وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ[11].
وهذا يقال في جميع الصفات: فنقول في صفة اليدين: اليد غير مجهولة، والكيفية مجهولة، والإيمان بها واجب. ونقول في صفة الوجه: الوجه غير مجهول، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب. ونقول في صفة العينين: العين غير مجهولة، والكيفية مجهولة، والإيمان بها واجب. ونقول في صفة الساق: الساق غير مجهولة، والكيفية مجهولة، والإيمان بها واجب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، فإنه قد عُلم بالشرع مع العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله»[12].


[1] انظر: درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/ 382). [2] انظر: التدمرية صـ (91 - 93)، والفتوى الحموية الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (287 - 290). [3] صحيح: رواه أحمد (2397)، وصحح إسناده أحمد شاكر. [4] انظر: تفسير ابن كثير (7/ 194). [5] انظر: مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم (1/ 361). [6] انظر: بيان تلبيس الجهمية، لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 134). [7] انظر: مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 166). [8] انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (10/ 610). [9] انظر: تفسير ابن كثير (3/ 427). [10] انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (10/ 610 - 611). [11] انظر: شرح أصول الاعتقاد، للالكائي (3/ 441). [12] انظر: شرح العقيدة الأصفهانية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (41).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١