أرشيف المقالات

إن الله يحب المحسنين

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2إن الله يحب المحسنين   الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لا إله سواه، حمدًا يُوافي نِعَم الله علينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
أخي الحبيب، قد يظلمك إنسان لا يتقي الله فيك أو يعتدي عليك أو يضُرُّك، ثم أنت مع ذلك لا تظلمه ولا تغتابه؛ وإنما تعذره وتدعو له، فهذا منك إحسان يُجازيك الله عليه خيرًا.

• قد تُسيء إليكَ زوجتُك بكلمة أو فعل؛ ولكنك تصبر وتأبى الرد؛ لأنها زوجتك وأُمُّ أولادك، وتقول لنفسك الأمَّارة بالسوء: لعلَّها غاضبة مني لسبب ما، ولعلَّني أخطأتُ في حقِّها، فلا تغضب ولا تضرب ولا تهجر؛ وإنما تعاملها بالمودَّة والرحمة رغم كل ذلك، فهذا إحسان يجازيك الله عنه خيرًا، والإنسان عمومًا لا تخلو حياته من الهموم والغموم، ومن المشاكل مع خلق الله تعالى، ويتعامل معهم بما يرضي الله عنه، لا يسألهم أجرًا إلَّا رضا ربِّه، فهذا إنسان يعرف حقيقة العبودية لله في الإحسان، فما هو الإحسان؟ ومتى يكون مقبولًا أو مرفوضًا؟
الإحسان معناه في اللغة: إتقان الشيء وإتمامه، وهو مأخوذ من الحُسْن، وهو الجَمَال، وضد القبح، وهو في الشرع، كما قال النبي في حديث جبريل الذي أخرجه مسلم من طريق عمر بن الخطاب، وأخرجه البخاري عن طريق أبي هريرة رضي الله عنهما، عرف النبي الإحسان بكلمات جامعة راقية "مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك))،ولنسمع قول الله عز وجل: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، وقال تعالى: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].

وكن أخي الحبيب على يقين إن أنت أحسنتَ مع الناس أحسَن الناس إليك؛ لأن الجزاء من جنس العمل، واسمَع هذه القصة اللطيفةالتي ذكرَها بعض أهل الفضل:
*يذكر أن رجلًا نزل هو وولده واديًا، انشغل الرجل بعمله، وأخذ الولد الصغير يلهو بكلمات وأصوات، فُوجئ الولد أن لهذه الأصوات صدًى يعود إليه، فظنَّ أن هناك من يُكلِّمه أو يرد عليه، فقال: من أنت؟ فعاد الصدى: من أنت؟ قال الولد: أفصح لي عن شخصك؟ فردَّ عليه: أفصح لي عن شخصك؟
فقال الولد غاضبًا: أنت رجل جبان وتخفى عني، فرجعت إليه العبارة نفسها، فقال الولد: إن صاحب الصوت يستهزئ بي ويسخَر مني، فانفعل وخرج عن طوره، وبدأ يسبُّ ويلعن، وكلَّما سبَّ أو لعن رجَعت عليه مثلها، جاء الوالد ووجد ولده منهارًا مضطربًا، فسأله عن السبب، فأخبره الخبر، فقال له: هوِّن عليك يا بني، وأراد أن يُعلِّمه درسًا عمليًّا، فصاح بأعلى صوته: أنت رجل طيِّب، فرجع إليه الصوت: أنت رجل طيب، ثم قال: أحسن الله إليك، فكان الردُّ: أحسن الله إليك، وكلَّما قال كلامًا حسنًا كان الرد بمثله، سأل الولد والده بدهشة واستغراب: لماذا يتعامل معك بطريقة مؤدَّبة، ولا يُسمعك إلَّا كلامًا حسنًا؟! فقال له الأب: يا بني، هذا الصوت الذي سِمعته هو صدى عملك، فلو أحسنتَ المنطِق لأحسن الردَّ؛ ولكنَّك أسأت فكذلك.
أحبَّتي في الله، الإحسان صفة نبيلة، وخصلة جليلة، يحبُّها الله، ويحبُّ أهلها، إذا أحسن المسلم إلى الآخرين في هذه الدنيا، كانت النتيجة إحسانَ الله إليه في الدنيا والآخرة، وحبَّبَ إليه خلقه، ولا ريب عند العقلاء أن أول المستفيدين من الإحسان هم المحسنون أنفسهم، يجنون ثمراته في نفوسهم وأخلاقهم وضمائرهم؛ فيجدون الانشراح والسكينة والطُّمَأْنينة والراحة التي لا يحدُّها حدُّ.   جرِّب أخي الحبيب ولن تخسر شيئًا، فإن كنت مهمومًا أو تشعُر بالإحباط من مشاكل البيت والأولاد أو العمل، أو جار سيئ أو مرض أو غير ذلك، فجرِّب الإحسان.   أعطِ محرومًا ما يُسعده أو تصدَّق على مسكين بما يُعينه أو عُدْ مريضًا لتُخفِّف عنه، أو انصُر مظلومًا ورُدَّ الحق لأهله، أو غير ذلك من أعمال الخير والإحسان، وأنت على يقين أن الله يراك، فأخلص النية والعبودية له جلَّ في عُلاه، والله الذي لا إله إلا هو، ليجعل لك الله تعالى من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ويرزقك من حيث لا تحتسب، فالجزاء من جنس العمل، هذه سُنَّة في خلقه وأبدًا ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43].
  ♦ واسمَع هذا الحديث الجميل الذي يزيد نشاطك لثمرات الإحسان وعمل الخير، ولو كان الإحسان لأهلك وأولادك، فلكل عمل أجر، والحديث في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُها ثَلاثَ تَمَراتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدةٍ مِنْهُما تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّت التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّار))".   هذا هو ثواب الإحسان حتى على الأهل، فماذا ننتظر، اللهم اجعلنا من المحسنين وتقبَّل منا يا رب العالمين.   أخي الحبيب، اعلم أن للإحسان المقبول عند الله تعالى شروطًا، ومن أهم الشروط شرطان لعدم إحباط العمل وضياع ثواب إحسانك، وهما. 1 - إخلاص النية لله. 2 - أن يكون العمل موافقًا للشرع، ولا يكون مُحرَّمًا في نفسه بمعنى أن يكون كما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.

ونقولها مرارًا وتكرارًا: العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعفيك الله منهم.
وتذكروا دومًا أن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

أما الشرط الثاني فيحتاج إلى بيان، فما معنى أن يكون موافقًا للشرع، وأن يكون مباحًا غير محرَّم في نفسه؟ أنت مثلًا عندما يسألك سائلٌ كوبَ ماء، أو ضيف عندك تعطيه كوب مياه غازية أو عصيرًا، فهذا كله لا شيء فيه، ومن كرم الضيافة، والمسلم كريم مضياف، والنبي صلى الله عليه وسلم قال - كما جاء في البخاري عن أبي هريرة -: ((وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)) ، فإكرام الضيف ومساعدته وتلبية طلبه موافق للشرع، أما لو كان الرجل المضيف أو الضيف ما يشربه خمر بدل الماء صار محرَّمًا رغم أن الكرم موافق للشرع، فهذا الإحسان لا يقبله الله، وهذا مقصودي من إحباط العمل.

♦ مثال آخر: احتفال الناس بعادة - أو قل بدعة ما أنزل الله بها من سلطان - كعيد الحب على سبيل المثال، وهو بدعة فلم يأمر النبي بالاحتفال به، بل قال: ((مَنْ أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ))؛ مسلم.

لكن الحب على إطلاقه بلا قيودٍ موافق للشرع، فأنت تحبُّ النبي وهو القائل في مسلم من حديث أنس: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))، وكذلك حب الزوجة وحب الأولاد، وحب النجاح، وحب التفوُّق، وغير ذلك من الحب مباح شرعًا؛ ولكن إن كان محرَّمًا وغير جائز؛ كالحب الذي يتحدثون عنه في الأفلام والقصص، ويخلو فيها الرجل بالمرأة الأجنبية، فهذا لا شك في تحريمه، وقِس على ذلك كل عمل لا بد أن يُوافق الشرع، وأن يكون جائزًا وغير محرَّم في نفسه.
وبعد: خلاصة ما سبق آنفًا أن الإحسان معناه أن يبتغي كل واحد منا رضا الله بالعمل بما أمره به في عبادته وتوحيده، والبعد عمَّا نهاه عنه، وكل إنسان له مقام عند الله، وقد تقول: وما مقامي عند الله، وهذا صعب، فكيف ندري؟ ولكن قيل: إن أردت أن تعرف مقامَكَ عند الله، فانظر فيما أقامَكَ.
واعلم أنك العبد الفقير، وهو الرب الغني، وجميعًا نفتقر إلى رحمته وعدله وكرمه، والله سبحانه وتعالى من إحسانه علينا أنعَم علينا بنعمٍ لا تُحصى؛ كنعمة الإيمان والإسلام، ونعمة العقل والسمع والكلام، ونعمة الزوجة الصالحة والأبناء البررة، ونعمة المال، ونعمة الصحة والعافية، وغير ذلك كثير، فما هو المقابل منا لله تعالى؟
هل أنت عاجز عن الصلاة، عاجز عن الصدقة، عاجز عن إخلاص التوحيد والنية لله بلا شوائب شركية؟
والحاصل: أن الكثير منا لا يحسن شكر الله على نعمه، والكثير يشتكي لماذا يا رب تبتليني بكذا وكذا؟ لماذا هذا الفقر؟ لماذا ولماذا؟!
وتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك، تشكو ربك للعبد الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضُرًّا، فأين شكر الله على نعمه التي لا تحصى ولا تُعَدُّ؟
قال بعض الأفاضل: إننا ننسى أن نشكر الله تعالى؛ لأننا لا نتأمَّل في البركات، ولا نحسب ما لدينا؛ ولأننا نرى المتاعب فنتذمَّر، ولا نرى البركات.
وها هو الحسن البصري يقرأ هذه الآية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90] الآية، ثم وقف فقال: إن الله جمع لكم الخير كله والشرَّ كله في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان شيئًا من طاعة الله عز وجل إلَّا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئًا، إلَّا جمعه.
وبعدُ، ليعرف كلُّ واحد منا الله في الرخاء، ليَعرفه في الشدة، ولنداوم على عبادته وطاعته في الصحة والعافية، ليعيننا في مرضنا وعجزنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
فأكثروا من ذكره بلسانكم والشكر له من قلوبكم، ولن تجدوا إلَّا المزيد من النِّعَم، ولن ترضوا إلا بالقناعة، والله المستعان وعليه التُّكلان.




شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢