أرشيف المقالات

احذروا الشرك بالله

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2احذروا الشرك بالله
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا إله سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي اصطفاه واجتباه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:   فإن الشرك بالله تعالى هو الذنب العظيم الذي لا يغفره الله تعالى لصاحبه إلا بالتوبة النصوح، فأقول وبالله تعالى التوفيق:   بسم الله الرحمن الرحيم (1) قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48]. ♦ قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدًا من المخلوقين، ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمته مغفرته، فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابًا كثيرة؛ كالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وبشفاعة الشافعين، ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحقُّ بها أهل الإيمان والتوحيد، وهذا بخلاف الشرك؛ فإن المشرك قد سدَّ على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد؛ (تفسير السعدي، صـ181).   (2) قال تعالى: ﴿ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]. ♦ قال الشيخ أحمد مصطفى المراغي رحمه الله: أي: إن كل من يشرك بالله شيئًا من ملك أو بشر أو كوكب أو حجر أو نحو ذلك فيجعله ندًّا له أو مُتَّحدًا به، أو يدعوه لجلب نفع أو دفع ضرر، أو يزعم أنه يقر به إليه زلفى فيتخذه شفيعًا ليُؤثر في إرادته تعالى وعلمه، ويحمله على شيء غير ما سبق به علمه وخصصته إرادته في الأزل من يفعل ذلك، فإن الله قد حرم عليه الجنة في سابق علمه، وبمقتضى شرعه الذي أوحاه إلى جميع رسله، فلا مأوى له إلا النار التي هي دار العذاب والذل والهوان، وما للظالمين لأنفسهم بشركهم بالله من نصير ينصرهم ولا شفيع ينقذهم مما يحل بهم؛ (تفسير المراغي، جـ6، صـ 166).   (3) قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65].   (4) روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم: ألَّا تشرك بي شيئًا، فأبيت (رفضت) إلا أن تشرك بي))؛ (البخاري، حديث: 6557/مسلم حديث: 2805). قوله: ((لأهون)): أقل. قوله: ((تفتدي به)): تخلص نفسك من العذاب. قوله: ((صلب)): ظهر. قوله: ((فأبيت)): رفضت.   قوله: ((لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟))؛ أي: لو فرض الآن أن تملِك جميع ما في الأرض، وطلب منك أن تفتدي به وتخلص نفسك من النار؟ ((مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح، علي الهروي، جـ 9، صـ 3614).   قوله: ((أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم)). ♦ قال القاضي عياض رحمه الله: يشير بذلك إلى قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ﴾ [الأعراف: 172]، فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا، فهو مؤمن، ومن لم يوف به فهو الكافر، فمراد الحديث: أردت منك حين أخذت الميثاق فأبيت، إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك، ويحتمل أن يكون المراد بالإرادة هنا: الطلب، والمعنى: أمرتك فلم تفعل؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يكون في ملكه إلا ما يريد؛ (فتح الباري؛ لابن حجر العسقلاني، جـ 11، صـ 403).   (5) روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأصابنا مطر ذات ليلة، فصلَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم أقبل علينا، فقال: ((أتدرون ماذا قال ربكم؟))، قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: ((قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله، فهو مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنجم كذا، فهو مؤمن بالكوكب كافر بي))؛ (البخاري، حديث: 4147/ مسلم حديث:71).   قوله: (فأصابنا): نزل علينا. قوله: ((أتدرون)): أتعلمون. قوله: (عام الحديبية)؛ أي: العام الذي تمَّ فيه صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة.   قوله: ((مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله)): ♦ قال الإمام الشافعي رحمه الله: من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك إيمان بالله؛ لأنه يعلم أنه لا يمطر ولا يعطي إلَّا الله عز وجل، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه أمطره نوء كذا، فذلك كفر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النوء وقت، والوقت مخلوق، لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئًا، ولا يمطر، ولا يصنع شيئًا؛ فأما من قال: مطرنا بنوء كذا على معنى: مطرنا في وقت نوء كذا؛ فإنما ذلك كقوله: مطرنا في شهر كذا، فلا يكون هذا كفر، وغيره من الكلام أحبُّ إليَّ منه، أحب أن يقول: مطرنا في وقت كذا؛ "(السنن الكبرى؛ للبيهقي، جـ3، صـ 499).   ♦ قال الإمام النووي رحمه الله: من اعتقد أن الكوكب فاعل، ومدبِّر، ومُنشئ للمطر، كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم، فلا شك في كفره، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء والشافعي منهم، وهو ظاهر الحديث.   (6) روى مسلم عن أبي زرعة، قال: دخلت مع أبي هريرة في دار مروان فرأى فيها تصاوير، فقال: سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي؟ فليخلقوا ذرةً، أو ليخلقوا حبةً أو ليخلقوا شعيرةً))؛ (مسلم حديث: 2111).   قوله: ((ذهب)): قصد. قوله: ((ذرة)): نملة صغيرة.   ♦ قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: قوله: ((ليخلقوا حبةً))، المراد: إيجاد حبة على الحقيقة لا تصويرها، والمراد بالحبة: حبة القمح بقرينة ذكر الشعير، والمراد بالذرة: النملة؛ (فتح الباري؛ لابن حجر العسقلاني، جـ 8، صـ 740).   ♦ قال الإمام ابن عثيمين رحمه الله: قوله: ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي))؛ يعني: لا أحد أظلم منه، فليخلقوا حبة أو ليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة يعني: إن كانوا صادقين يريدون أن يُضاهوا خلق الله، فليخلقوا حبة من طعام، ولتكن من البر لو اجتمع أهل الأرض كلهم بل وأهل السماء على أن يخلقوا حبة من حنطة، فإنهم لا يستطيعون حتى لو صنعوا من العجين شيئًا على صورة الحبَّة تمامًا، فإنهم لا يستطيعون أن تكون حبة لو أنهم بذروها في الأرض ما نبتت؛ لأنها ليست حبة فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يخلق الحبة أو الشعيرة أو الذرة وهو ما يضرب به المثل في القلة فما فوقها من باب أعظم وأولى؛ (شرح رياض الصالحين؛ لابن عثيمين، جـ 6، صـ435).   ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢