أرشيف المقالات

حديث: من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2حديث: من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر   عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عامًا حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قال: "من اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر، فقد رأيت هذه الليلة ثم أُنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر"، فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين.   • قال البخاري: باب تحرِّي ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، فيه عن عبادة[1]. ثم ذكر حديث عائشة وحديث أبي سعيد ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم ما شاء الله، ثم قال: "كنت أجاور هذه العشر، ثم قد بدا لي أن أُجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي، فليثبت في معتكفه، وقد أُريت هذه الليلة، ثم أُنسيتها، فابتغوها في العشر الأواخر، وابتغوها في كل وترٍ، وقد رأيتُني أسجد في ماء وطين"، فاستهلت السماء في تلك الليلة، فأمطرت فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين، فبصرت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرت إليه، انصرف من الصُّبح ووجهه ممتلئ طينًا وماءً، وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي في العشر هي في تسع يمضين، أو في سبع يبقين" يعني ليلة القدر.   • قال الحافظ: (قوله: باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، في هذه الترجمة إشارة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها)[2].   قوله: فيه عن عبادة؛ أي: حديث عبادة: (التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة).   • قوله: (عن أبي سعيد)، وفي رواية عن أبي سلمة: سألت أبا سعيد: هل سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، فذكر الحديث، وفي رواية: انطلقت إلى أبي سعيد فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل، فنتحدث، فخرج، فقلت: حدثني ما سمعتُ من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر.   • قوله: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأوسط من رمضان).   • قال الحافظ: (هكذا وقع في أكثر الروايات، والمراد بالعشر الليالي، وكان من حقها أن توصَف بلفظ التأنيث، لكن وصفت بالمذكر على إرادة الوقت أو الزمان، أو التقدير الثلث، كأنه قال: الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر؛ انتهى.   ولمسلم: اعتكف العشر الأوسط من رمضان، يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له، فلما انقضينَ أمر بالبناء فقوض، ثم أُبينت له أنها في العشر الأواخر، وفي رواية: أنه اعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم اعتكف العشر الأواخر، وفي رواية: أن جبريل أتاه في المرتين، فقال: إن الذي تطلب أمامك)[3].   • قوله: (فاعتكف عامًا حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه)، في رواية: فخرج صبيحة عشرين فخطبنا. قوله: فإذا كان يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه.   • وقوله: (وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها)؛ أي: من الصبح الذي قبلها، فالخطبة كانت في صبح العشرين، ووقوع المطر كان في ليلة إحدى وعشرين.   • قال ابن بطال: هو مثل قوله تعالى: ﴿ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [النازعات: 46]، فأضاف الضحى إلى العشية وهو قبلها، وكل شيء متصل بشيء، فهو مضاف إليه، سواء كان قبله أو بعده.   • قال الحافظ: (وقد وجَّه شيخنا الإمام البلقيني رواية الباب بأن معنى قوله: حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين؛ أي: حتى إذا كان المستقبل من الليالي ليلة إحدى وعشرين.   وقوله: وهي الليلة التي يخرج الضمير يعود على الليلة الماضية، ويؤيِّد هذا قوله: من كان اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر؛ لأنه لا يتم ذلك إلا بإدخال الليلة الأولى)[4].   • قوله: (فقد أريت هذه الليلة ثم أُنسيتها): سبب النسيان ما روى عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: "خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرُفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"؛ رواه البخاري.   ولمسلم من حديث أبي سعيد: "فجاء رجلان يَحتقَّان معهما الشيطان، فنسيتُها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة".   • قوله: (وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد)؛ أي: قطر من سقفه وكان مظللًا بالجريد.   • قوله: (فأبصرتُ عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى وجهه أثرُ الماء والطين من صبح إحدى وعشرين)، وفي رواية: حتى رأيتُ أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصديقَ رؤياه.   • قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليلٌ لمن يرجِّح ليلة إحدى وعشرين في طلب ليلة القدر، ومن ذهب إلى أن ليلة القدر تنتقل في الليالي، فله أن يقول: كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين، ولا يلزم من ذلك أن تترجح هذه الليلة مطلقًا، والقول بتنقُّلها حسنٌ؛ لأن فيه جمعًا بين الأحاديث، وحثًّا على إحياء جميع تلك الليالي؛ انتهى.   • قال الحافظ: (وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافًا كثيرًا، وتحصَّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثرُ من أربعين قولًا، ثم سردها إلى أن قال: وأرجحُها كلها أنها في وترٍ من العشر الأخير، وأنها تنتقل كما يُفهَم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين، قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر؛ ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عيِّنت لها ليلةٌ لاقْتُصِر عليها.   • قال الطبري: لا يشترط لحصولها رؤيةُ شيءٍ ولا سماعه.   • قال ابن المنير: لا نعتقد أن ليلة القدر لا ينالها إلا من رأى الخوارق، بل فضل الله واسع وربَّ قائم تلك الليلة لم يحصل منها إلا على العبادة من غير رؤية خارق، وآخر رأى الخارق من غير عبادة، والذي حصل على العبادة أفضلُ، والعبرة إنما هي بالاستقامة، فإنها تستحيل أن تكون إلا كرامة، بخلاف الخارق فقد يقع كرامة وقد يقع فتنة، والله أعلم)[5].   وروى الخمسة عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القدر، ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعفُ عني".   وعن ابن عباس: دعا عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر، قال ابن عباس: فقلت لعمر: إني لأعلم أو أظن أي ليلة هي، قال عمر: أي ليلة هي، فقلت: سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر، فقال: من أين علمت ذلك؟ قلت: خلَق الله سبع سماوات وسبع أرَضين، وسبعة أيام، والدهر يدور في سبع، والإنسان خُلِق من سبعٍ، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع.   والطواف والجمار وأشياء ذكرها، فقال عمر: لَقَدْ فَطِنْتَ لِأَمْرٍ مَا فَطِنَّا لَهُ، ورواه محمد بن نصر وزاد فيه: وأن الله جعل النسب في سبع والصهر في سبع، ثم تلا: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23]، وفي رواية الحاكم: إني لأرى القول كما قلت.   • قال الحافظ: (وفي حديث أبي سعيد من الفوائد ترك مسح جبهة المصلي والسجود على الحائل، قال: وفيه جواز السجود في الطين، وقد تقدم أكثر ذلك في أبواب الصلاة، وفيه الأمر بطلب الأولى والإرشاد إلى تحصيل الأفضل، وأن النسيان جائز على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقص عليه في ذلك، لا سيما فيما لم يؤذَن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلق بالتشريع؛ كما في السهو في الصلاة، أو بالاجتهاد في العبادة كما في هذه القصة؛ لأن ليلة القدر لو عُيِّنت في ليلة بعينها، حصل الاقتصار عليها، ففاتت العبادة في غيرها، وكان هذا هو المراد بقوله: (عسى أن يكون خيرًا لكم)، كما سيأتي في حديث عبادة، وفيه استعمال رمضان بدون شهر، واستحباب الاعتكاف فيه، وترجيح اعتكاف العشر الأخير، وأن من الرؤيا ما يقع تعبيره مطابقًا، وترتب الأحكام على رؤيا الأنبياء، وفي أول قصة أبي سلمة مع أبي سعيد المشي في طلب العلم، وإيثار المواضع الخالية للسؤال، وإجابة السائل لذلك، واجتناب المشقة في الاستفادة، وابتداء الطالب بالسؤال، وتقديم الخطبة على التعليم، وتقريب البعيد في الطاعة، وتسهيل المشقة فيها بحُسن التلطُّف والتدريج إليها، قيل: ويستنبط منه جواز تغيير مادة البناء من الأوقاف بما هو أقوى منها وأنفع)[6]؛ انتهى، والله أعلم.   تتمة: • قال في الاختيارات في مسائل التفضيل: (وليلة القدر من أفضل الليالي، وهي في الوتر في العشر الأخير من رمضان، والوتر قد يكون باعتبار الماضي، فيطلب إحدى وعشرين وليال ثلاث إلى آخره، وقد يكون باعتبار الباقي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "التاسعة تبقى"؛ الحديث، فإذا كان الشهر ثلاثين، فتكون تلك من ليالي الإشفاع وليلة الثانية والعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع سابعة تبقى، كما فسَّره أبو سعيد الخدري، وإن كان تسعًا وعشرين، كان التاريخ بالباقي كالتاريخ بالماضي، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع إجماعًا، ويوم النحر أفضل أيام العام، وليلة الإسراء أفضل في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة، وخديجة إيثارها في أول الإسلام ونصرها وقيامها في الدين، لم تَشْرَكْها عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة، وإدراكها من العلم لم تشركها فيه خديجة، ولا غيرها، مما تميَّزت به عن غيرها، ومريم ابنة عمران وآسيا امرأة فرعون من أفضل النساء، والفواضل من نساء الأمة كخديجة وعائشة وفاطمة أفضل منهما، والصواب الذي عليه عامة المسلمين وحُكي الإجماع عليه - أنهما ليستا بنبيتين، وأما أزواجهما في الآخرة، فقد رُوِي في مريم أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو العباس: ولا أعلم صحةَ ذلك، ولا أعلمُ ما يقطع به، والغني الشاكر والفقير الصابر أفضلهما أتقاهما لله تعالى، فإن استوَيا في الدرجة، فصالحوا البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، وصالحوا الملك أفضل باعتبار البداية، وعشر ذي الحجة أفضل من غيره لياليه وأيامه، وقد يقال: ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل، وأيام تلك أفضل؛ قال أبو العباس: والأول أظهر ورمضان أفضل الشهور، ويكفر من فضل رجبًا عليه، ومكة أفضل بقاع الله، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، ونص الروايتين عن أحمد، قال أبو العباس: ولا أعلم أحدٌ فضَّل تربة النبي صلى الله عليه وسلم على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه إليه أحدٌ، ولا وافقه أحد، والصلاة وغيرها من القرب بمكة أفضل، والمجاورة بمكان يكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان، وتضاعف السيئة والحسنة بمكان أو زمان فاضل، وذكره القاضي وأبو الجوزي)[7]؛ انتهى.


[1] صحيح البخاري: (3/ 60). [2] فتح الباري: (4/ 260). [3] فتح الباري: (4/ 257). [4] فتح الباري: (4/ 258). [5] فتح الباري: (4/ 262). [6] فتح الباري: (4/ 259). [7] الاختيارات الفقهية: (1/ 462).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢