أرشيف المقالات

التفكر في عجائب خلق الله جل جلاله

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
2التفكر في عجائب خلق الله جل جلاله
الحمد لله الذي بهرت العقول حكمتُه، ودلَّت مخلوقاتُه على عظمته وقُدْرته، وعِلْمه وحِكْمته، ورحمته، وأنه أحسن كلَّ شيءٍ خلقه، وأتقن كلَّ شيءٍ صنعه، وأنه العليم الحكيم، الذي خلق فسوَّى، وقدَّر فهدَى، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد الذي كان إذا قام من الليل للتهجُّد نظر إلى السماء، وقرأ الآيات العشر من آخر سورة آل عمران: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191]، أما بعد:   فهذه كلمات يسيرة عن عبادة جليلة، يغفل عنها الكثيرون؛ ألا وهي: التفكُّر في عجائب خلق الله عز وجل، أسأل الله الكريم أن ينفع بها، ويبارك فيها.   حث العباد على التفكُّر: قال العلامة السعدي رحمه الله: يخبر تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، وفي ضمن ذلك حثَّ العباد على التفكُّر فيها، والتبصُّر بآياتها، وتدبُّر خلقها.   أهمية التفكُّر في حياة المسلم: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال الحسن، عن عامر بن عبد قيس، قال: سمِعتُ غير واحد، ولا اثنين، ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان: التفكُّر.   وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ركعتان مقتصدتان في تفكُّر، خيرٌ من قيام ليلة والقلب ساه.   وقال وهب بن منبِّه رحمه الله: ما طالت فكرة امرئ قطُّ إلَّا فهم، ولا فهم امرؤ قطُّ إلا علم، ولا علم امرؤ قط إلا عمل.   وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: إذا المرء كانت له فكرة *** ففي كل شيء له عبرة   وقال أبو سليمان الدارني رحمه الله: إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليَّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة، وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة، انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة.   التفكُّر عبادة يُثاب عليها العبد: وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: الفكرة في نعم الله أفضل العبادة. وقال العلامة السعدي رحمه الله: التفكُّر عبادة، من صفات أولياء الله العارفين.   معنى التفكُّر: قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: التفكُّر إعمال الفكر، وذلك بأن يفكر في خلق السماوات والأرض، لأي شيء خلقت؟ وكيف خلقت؟ وكيف رفعت السماء؟ وكيف سطحت الأرض؟ وما أشبه ذلك، فهم يعملون أفكارهم.   التفكُّر من أفضل ما أنفقت فيه الأوقات: قال العلامة ابن القيم رحمه الله عنها: فأحسن ما أُنفقت فيه الأنفاسُ التفكُّر في آيات الله وعجائب صُنْعه.   أنواع التفكُّر: التفكُّر نوعان: النوع الأول: تفكُّر غير نافع لأصحابه، وهو تفكُّر بعض الكفَّار في مخلوقات الله الكونية، فهم وإن تفكَّروا في عظيم مخلوقات الله جل جلاله، فتفكُّرهم تفكُّرٌ ماديٌّ، الغاية منه ما يفيد في الدنيا، فلا يقودهم تفكُّرهم إلى ما ينفعهم في الآخرة، فكل ملحد أو شاكٍّ، فلن ينفعه تفكُّره إن وجد منه، يقول الله عز وجل: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴾ [الذاريات: 20]، قال العلامة العثيمين رحمه الله: ﴿ لِلْمُوقِنِينَ ﴾؛ أي: لمن أيقن بوجود الله عز وجل، وعظمته وجلاله، أما من شكَّ - والعياذ بالله - فإنه لن ينتفع بهذه الآيات.   النوع الثاني: التفكُّر النافع، وهو التفكُّر الذي يؤدي بصاحبه إلى اليقين بأمور منها: معرفة عظمة الله عز وجل: قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: سرنا على طريق خيبر، فرأيت من الجبال الهائلة، والطرق العجيبة ما أذهلني، وزادت عظمة الخالق عز وجل في صدري، فصار يعرض لي عند ذكر تلك الطرق نوع تعظيم، لا أجده عند ذكر غيرها، فصحت بالنفس: ويحكِ، اعبري إلى البحر، وانظري إليه وإلى عجائبه بعين الفكر، تُشاهدي أهوالًا هي أعظم من هذه؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في خلق السماوات والأرض آيات، والذي يطَّلع على ما صوَّره العلماء من هذه الآيات العظيمة يتبيَّن له عظمة الله عز وجل في هذا الخلق.   وهذه المعرفة بعظمة الله عز وجل تجعله يُجاهد نفسه في عدم عصيانه؛ قال بشر بن الحارث الحافي رحمه الله: لو تفكَّر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه.   ومنها: أن هناك دارًا ثانية غير هذه الدار، فيها حساب وجزاء، وفيها نعيم وعقاب؛ ولهذا يقول أصحاب هذا التفكر: ﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 193، 194].   ومنها: أن الله عز وجل لم يخلق هذا الكون باطلًا: ولهذا يقول أصحاب هذا التفكر: ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ ﴾ [آل عمران: 191]، فينزهون الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بجلاله، وأنه خلق هذه المخلوقات باطلًا، فهذا ظنُّ الكفَّار؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص: 27].   وهذا التفكُّر يقوم به أصحاب العقول الذين يذكرون الله عز وجل على كل حال: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191]، فهم ينظرون إلى صنع الله بعقولهم لا بأبصارهم؛ قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: من لا عقل له، فإنه لا ينتفع بهذه الآيات، ولا يعتبر بها، وتمرُّ عليه وكأنها مظاهر طبيعية لا علاقة بفعل الله تعالى بها، وهذا - والعياذ بالله - من الطمس على القلوب وعمى الأبصار، وكلما كان الإنسان أعقل كان بالله وآياته أعلم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، والحكم المعلَّق على وصف يثبت لثبوته، ويعدم بعدمه، فإذا كان أصحاب العقول هم الذين ينتفعون بهذه المخلوقات ويستدلُّون بها على الخالق عز وجل، وعلى ما له من صفات الكمال، فإن من عقله عقل بهيمي لا ينتفع بهذه الآيات؛ لأنه ليس من ذوي الألباب.   من عجائب خلق الله جل جلاله: الشمس: قال العلامة ابن القيم رحمه الله: كلُّ موضع لا تقع عليه الشمس لا يعيشُ فيه حيوان ولا نبات؛ لفرط برده ويُبسه، وكل موضع لا تفارقه كذلك؛ لفرط حرِّه ويُبسه، والمواضع التي يعيش فيها الحيوان والنبات هي التي تطلعُ عليها الشمس وتغيب.   الشمس تبعد عن الأرض مسافات طويلة، ولو كانت أقرب إلى الأرض مما هي عليه الآن، لأحرقت كل شيءٍ عليها لشدة حرارتها، فيتفكَّر المسلم أن هذه الشمس ستُدنى يوم القيامة حتى تكون على بعد ميل من رؤوس الخلائق؛ فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه، قال: سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا))، قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه؛ [أخرجه مسلم]، قال الإمام القرطبي رحمه الله: وهذا العرق لشدة الضغط، وحرِّ الشمس التي على الرؤوس بحيث تغلي منها الهام، وحرارة الأنفاس، وحرارة النار المحدقة بأرض المحشر.   يتفكَّر المسلم في هذا الموقف العصيب، فيجتهد في الطاعة والعبادة؛ لعلمه أنه على قدر عمله يكون العرق منه، فإذا أكثر العمل وأحسن فيه، خفَّ عنه حرُّ ذلك اليوم، وإذا كثر وساء عمله كثُر عرقُه، أسأل الله الرحيم الجواد الكريم أن يرحمنا وألَّا يكلنا لأنفسنا، إنه سميع قريب مجيب.   القمر: أحوال الإنسان كأحوال القمر، ينبغي للعبد المسلم أن يتفكَّر فيها، ويستفيد منها؛ قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: إن الله عز وجل جعل لأحوال الآدمي أمثلة؛ ليعتبر بها، فمن أمثلة أحواله القمر، الذي يبدأ صغيرًا ثم يتكامل بدرًا، ثم يتناقص بانمحاق، وقد يطرأ عليه ما يفسده؛ كالكسوف، فكذلك الآدمي أوله نطفة، ثم يترقَّى من الفساد إلى الصلاح، فإذا تمَّ كان بمنزلة البدر الكامل، ثم يتناقص أحواله بالضعف، فربما هجم الموت قبل ذلك هجوم الكسوف على القمر".   فالإنسان مثل القمر، يُولد صغيرًا ضعيفًا، ثم يكون شابًّا قويًّا، ثم يعود شيخًا ضعيفًا؛ قال الله عز وجل: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54]، وإذا أمدَّ الله عز وجل للإنسان في العمر، عاد إلى حالته الأولى ضعيفًا، تضعف همَّتُه وحركته وبطشه، وتتغيَّر صفاته الظاهرة والباطنة؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾ [يس: 68]، قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله؛ أي: يعود إلى الحالة التي ابتدأ منها؛ حالة الضعف، ضعف العقل، وضعف القوة، فيتفكر المسلم في هذا ويقوده ذلك إلى أمور: ♦ عدم استخدام قوَّته في ظُلْم العباد، والإفساد في البلاد، فقد تأتيه العقوبة في دنياه، بسلب هذه القوى منه عند تقدُّم العمر به، ويحلُّ بدلًا عنها أضدادُها من الضعف والمرض والوهن، وكم من إنسان كان في مقتبل عمره قويًّا صحيحًا، فصار في نهاية عمره، ضعيفًا مريضًا مهمومًا.   ♦ استغلال قواه البدنية والعقلية في طاعة الله وعبادته، فاليوم هو قوي وغدًا هو ضعيف؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحَّتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك))؛ [أخرجه الحاكم، والبيهقي].   ♦ الوجل والخوف أن يردَّ إلى أرذل العمر؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ [الحج: 5]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾، وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقُص الأحوال من الخرف وضعف الفكر.   وهذا الخوف من أن يردَّ إلى أرذل العمر، يجعله يُكثِر من الدعاء بالوقاية منه، فيتعوَّذ بالله من الهرم وسوء الكبر، ثم يتفكَّر أن الكسوف يُذهِبُ نور القمر، وهو في قمة إبداره، فيتفكَّر أن الموت قد يأتيه وهو في حال شبابه ومقتبل عمره؛ قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ [الحج: 5].   قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ﴾؛ أي: في حال شبابه وقواه.   فإذا تفكَّر المسلم في هذا أكثر من التزوُّد من الطاعات، وإن كان لا يزال شابًّا وفي مقتبل العمر، ليكون على أهبة، فالموت ليس له سِنٌّ معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، يأتي في أي وقت، وقد يأتي في حال القوة والصحة والشباب.   الأرض: قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وإذا نظرت إلى الأرض كيف خلقت، رأيتها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقها سبحانه فراشًا ومهادًا، وذلَّلَها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم، وتصرُّفاتهم، وأرساها بالجبال، فجعلها أوتادًا تحفظها لئلا تميد بهم، وجعل ظهرها وطنًا للأحياء، وبطنها وطنًا للأموات، وقد أكثر تعالى من ذكر الأرض في كتابه، ودعا عباده إلى النظر إليها والتفكُّر في خلقها، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الجاثية: 3].   يتفكَّر المسلم في هذه الأرض التي أُرسيت بالجبال العظام، كيف تحدث فيها الزلازل المدمِّرة، وذلك بسبب ذنوب ومعاصي العباد، قال بعض السلف وقد زُلزلت الأرض: إن ربكم يستعتبكم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد زُلزلت المدينة، فخطبهم، ووعظهم، وقال: لئن عادت لا أساكنكم فيها.   قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الناس الآن يسمعون بالزلازل؛ ولكنهم لا يرونها أنها غضب من الله عز وجل؛ ولكن يرون أنها أمر طبيعي، ولهذا لا يتأثَّر الإنسان بها إطلاقًا، وكأنَّها لا شيء، بينما ونحن صغار كنَّا إذا سمِعنا أن الأرض زُلزلت في أُحدٍ نرتجف ونحن في بيوتنا آمنون؛ لأنه ما كان أحد يقول لنا: إنه هذا طبيعي، وهذا أمر لا يهم، وهذا أمر كائن لا محالة.   فإذا تفكَّر المسلم في ذلك، جاهد نفسه فابتعد عن ارتكاب الذنوب، حتى لا يكون سببًا في حدوث الزلازل التي تُدمِّر البلاد، وتقتل العباد.   النفس البشرية: قال الله عز وجل: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وآيات النفس ليست في تركيب الجسم فحسب؛ بل حتى في تقلُّبات الأحوال، فالإنسان تجده يتقلَّب من سرور إلى حزنٍ، ومن غمٍّ إلى فرحٍ، ويتقلَّب تقلُّبات عجيبة عظيمة، حتى إن الإنسان في لحظةٍ يجد نفسه متغيرًا بدون سبب، يكون منشرح الصدر، واسعَ البال مسرورًا، وإذا به ينكتم ويغتمُّ بدون سببٍ، وأحيانًا بالعكس، هذا بالنسبة للأحوال النفسية.
كذلك أيضًا بالنسبة للإنسان من حيث الأحوال الإيمانية، وهي أعظم وأخطر، حيث تجد الإنسان في بعض الأحيان يكون عنده من اليقين كأنه يُشاهد أُمور الغيب مُشاهدةً حسيةً، كأنما يرى العرش، وكأنما يرى السماوات، أو يرى الملائكة، أو يرى كلَّ ما أخبر الله به من الغيب، وفي بعض الأحيان يقلُّ هذا اليقين لأسباب قد تكون معلومةً؛ لكن من الأسباب المعلومة قلَّة الطاعة، فإن قلة الطاعة من أسباب ضعف اليقين؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾ [المائدة: 49]، وهناك أسباب لا يدري الإنسان ما هي، ومنها: اللهو، والغفلة، وهكذا الإنسان كلما لَهَا قلَّ يقينُه وإيمانُه، ومن ثمَّ نهى الشرع عن الألعاب واللهو الباطل، الذي يزداد به الإنسان بُعْدًا عن طاعة الله، وعن التفكير في آيات الله، ومن أراد المزيد من هذا، والاطِّلاع على قُدرة الله تعالى في أنفسنا من الآيات، فعليه بمطالعة كلام ابن القيم رحمه الله في " مفتاح دار السعادة" يجد العجب العجاب، وكذلك في كتابه الصغير، وهو كبير في المعنى، وهو " التبيان في أقسام القرآن" ذكر من ذلك العجب العجاب.   وختامًا: فالموفق من كان ذاكرًا لله في كل شيءٍ، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الموفق هو الذي يذكر الله عز وجل في كل شيء، ولو كانت القلوب حيَّةً، لكنا نذكر الله في كل شيء: وفي كل شيءٍ لهُ آية *** تدُلُّ على أنه واحدُ   فإذا رأيت أطفالًا في السوق فاذكر الله، وتأمَّل الخلق، هذا صغير، وهذا كبير، قد بلغ من الكبر عتيًّا، وهذا متوسط، وإذا رأيت الأشجار وأنواع الأزهار، تقول: سبحان الله العظيم! شجر يُسقى بماء واحد، ويختلف هذا الاختلاف! ولو أن أهل الأرض كلهم جميعًا أرادوا أن يحولوا هذه الزهرة من هذا اللون إلى لون آخر ما استطاعوا إلى هذا سبيلًا!   وإذا فتح الله على الإنسان باب الذكر، صار كل شيء يراه يمكن أن يذكر الله عز وجل فيه، ولا يلزم الذكر أن يقول الإنسان مثلًا: ((لا إله إلا الله)) ((الله أكبر)) ((لا حول ولا قوة إلا بالله))؛ بل الذكر بالقلب قد يكون أهمَّ من ذكر اللسان، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾ [الكهف: 28].   اللهم يا رحمن يا رحيم، وفِّقنا للتفكُّر في آياتك الكونية والشرعية، واجعل هذا التفكُّر مما يزيد عظمتك في قلوبنا، ويدفعنا للمسارعة والمسابقة في طاعتك، وتجنُّب معصيتك.




شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن