تأملات تربوية في: (كمثل غيث أعجب الكفار نباته)
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
2تأملات تربوية في:
﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾
لقد جاء في الآية الكريمة التالية في سورة الحديد وصفُ رب العزة للحياة الدنيا:
﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20].
ولكن ما يلفت الانتباه ما جاء فيها مِن مثلٍ ضرَبه الله لنا فيها: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾.
ونحن سنتوقف فقط عند هذا المقطع نرى ما فيه من تعبير يوحي بمعنى له دلالة مهمة في فَهْم قول ربِّنا.
لقد جاء في الجملة الفعلية: (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)، كلمة (نباته) فاعل، والمفعول به كلمة (الكفار)، وهذا يدل على أن الكفار مسلوبي الإرادة، ويتم قيادتهم وسوقهم بالفاعل (نباته)، وهذا فيه تحقيرٌ وذلة لهؤلاء الكفار معدومي العقل والتفكير السليم، فهم يسيرون تبعًا لشهواتهم كما تسير الأنعام: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ [محمد: 12]. والمراد بالكفار هنا كما ذكر المفسرون: الجاحدون لنعم الله تعالى الساترون لها، وخُصُّوا بالذكر؛ لأنهم أشد إعجابًا وسرورًا وانغماسًا في زينة الحياة الدنيا من غيرهم، فهم يتزيَّنون بالدنيا ولا يعملون للآخرة، وكذلك من تزين في غير طاعة الله. لقد خلق الله هؤلاء الكفار أو الجاحدين لنِعم الله، وكرمهم وأعطاهم العقل والسمع والبصر كأي إنسان خلقه الله، ولكنهم نكسوا على أعقابهم، وساروا في طريق أهوائهم وملذَّاتهم الدنيوية. ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴾ [التين: 4، 5] ﴿ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الملك: 23]. ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]. ولكنهم غيَّبوا عقولهم وأبصارهم وسمعهم، وانجرُّوا بتزيين الشيطان لهم في الأرض، ووضَع اللجام في أفواههم، وساقَهم كأنعام حيث يشاء، وهذا ما أكدت عليه الآيات التالية. ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 39، 40]. ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 62]، هؤلاء الغافلون وصفهم الله بأنهم كالأنعام، بل هم أضل! ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]. وهذا هو واقع حال كثيرٍ من الناس الآن؛ حيث اجتاحت وسائل الإعلام التابعة لأعداء الإسلام البيوتَ وعقول الكثير؛ مما صرفهم عن العمل لآخرتهم، وأصبح همهم متاع الحياة الدنيا. فهل هذا العصر هو الذي أخبرنا عنه الحديث: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
"جعلت في هذه الأمة خمس فتنٍ: فتنة عامة، ثم فتنة خاصة، ثم فتنة عامة، ثم فتنة خاصة، ثم تأتي الفتنة العمياء الصماء المطبقة التي يصير الناس فيها كالأنعام"؛أخرجه الحاكم. فهل هذا هو الموجود وواقع من أبناء الأمة، إنك تجدهم قد قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب، والغفلة عن ذكر الله وعما أمامهم من الوعد والوعيد، وتراهم قد اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا. وهذا بخلاف القليل من أهل اليقظة الذين يعملون من أجل آخرتهم، فإن قلوبهم معمورة بذكر الله، ومعرفته ومحبته، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقرِّبهم إلى الله. اللهم اجعلنا منهم وثبِّت أمتنا على كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.