أرشيف المقالات

مفاتيح القلوب

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2مفاتيح القلوب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد: اعلموا يا سادة يا كرام أن القلوب كالخزائن المقفلة، فلا تُفتَح إلا بمفاتيحها، ولكن مفاتيحها كثيرة وأنواعها مختلفة حسب أنواع القلوب التي يتعامل معها كلُّ إنسان، وهنا نذكر بعضًا من هذه المفاتيح؛ لعلَّ كلَّ واحدٍ يستخدم منها ما ينفع معه في فتح القلب الذي يتعامل معه، والله الموفِّق والمعين.   المفتاح الأول: السلام: فأوَّل هذه المفاتيح وأكثرها أثرًا ونفعًا هو: إلقاء السلام، ويكفي أنه اسم من أسماء الله، فالله هو السلام، ومنه السلام، والسلام فضله عظيم عند الله، وفوائده للمسلم جمَّة وغفيرة، فالآيات والأحاديث في فضله والحث عليه كثيرة؛ ولكن نكتفي هنا بذكر ما نستشهد به على ما نتحدَّث عنه؛ قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [النور: 61].   فهو تحية مباركة طيبة، وماذا تتوقَّع لك ولمن سلمت عليه أن يحدث لكما إثر هذه التحية المباركة الطيبة؟! يكفي منها اسمها، فهذا قول الله عنها، أما أقوال الرسول عن السلام، فمنها: عن البراء رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أفشُوا السلامَ؛ تسلموا))؛ [ابن حِبَّان].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحابَبْتُم؟ أفشُوا السلام بينكم))؛ [رواه مسلم]، وإفشاؤه سبب لبركة الله؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بني، إذا دخلت على أهلك فسلِّم؛ يكن بركةً عليك وعلى أهل بيتك))؛ [الترمذي].   وفي موطأ مالك أن الطفيل بن أبي بن كعب أخبره: أنه كان يأتي عبدالله بن عمر، فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمرَّ عبدالله بن عمر على سَقَّاط، ولا صاحب بيعة، ولا مسكين، ولا أحد إلا سلَّم عليه، قال الطفيل: فجئت عبدالله بن عمر يومًا، فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: وما تصنع في السوق وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟! قال: وأقول: اجلس بنا ها هنا نتحدَّث، قال: فقال لي عبدالله بن عمر: يا أبا بطن - وكان الطفيل ذا بطن - إنما نغدو من أجل السلام، نسلم على من لقينا.
فالسلام مفتاح عظيم من مفاتح القلوب، وبه تُطفأ حرارة الغضب، وتزيد المحبة، ويرتفع الإيمان، فلا تتخلَّوا عنه ما حييتم، ولا تستبدلوا به أي لفظ ما بقيتم، جعلني الله وإياكم من أهل السلام.   الجميع سواء: السلام على الكبير والصغير، والحر والعبد، والأبيض والأسود، وعلى مَنْ عرَفتَ، ومَنْ لم تعرف، هو منهج سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.   أثر السلام على الصغير: كان عليه الصلاة يمرُّ على الصغار، فيُسلم عليهم ويُداعبهم، وربما أركبهم معه على راحلته ليُدخل السرور في قلوبهم، فكثيرٌ من الناس لا يعرف المعاني التي يغرسها السلام في قلوب الآخرين، وربما دخل المجلس فسلم على الكبير وتجاوز الصغير، بدون مصافحة ولا سلام، فكسر خاطره، وغرس في قلبه كرهًا لا ينساه ما دام حيًّا؛ لأنه جعله أقل الحاضرين قيمةً وقدرًا، ومَنْ يُعامل الصغير بالسلام مع بسمة لطيفة وأحلى كلام، نال منه التقدير والاهتمام.   المفتاح الثاني: الهدية: فهي أدب حسن، وخلق جميل، هذه الهدية التي تهدي القلب، وترشده إلى سبيل المودَّة والتآلف، وتولد الودَّ والمحبة، هذه الهدية التي تجتذب القلوب. هدايا الناس بعضهم لبعض تُولِّد في قلوبهمُ الوِصالا وتزرع في الضمير هوًى ووِدًّا وتكسُوهم إذا حضروا جمالا
إنها تستخرج ما في الصدور من الوحر، والغيظ، والبغضاء، فتخلصه من ذلك، فالهدية لها أثر فعَّال، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُهدي غيره، ويقبل الهدية من غيره كما في السنة المطهرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها (ومعنى يثيب عليها؛ أي: يجازي المهدي بهدية أيضًا).   وفي الصحيحين (البخاري:2576، ومسلم:1077) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صَدَقة؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: ((كلوا))، ولم يأكل، وإن قيل: هدية، ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم.   وقال عليه الصلاة والسلام: ((يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة))، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تهادوا تحابُّوا))، وفي رواية: ((تهادوا؛ فإن الهدية تذهب وحر الصدر))، فالهدية عملية اجتماعية مهمة، وهي تفاعلية متبادلة بين أفراد المجتمع الواحد.   "الهدايا هي التي تصنع الأصدقاء"، وكلما كان مع الهدية كلمات جميلة فيها من التقدير والتعبير عن الحب والمودَّة مع ابتسامة جميلة من غير مَنٍّ ولا أذى، صنعت الأعاجيب في قلب المهدَى إليه، وفتحت لك قلبه أضعافًا مضاعفةً، ولن يزول أثر هذه الهدية من قلبه، فالهدية مغناطيس القلوب وممحاة غِلِّ الصدور، خاصة أن تكرَّرت مرات ومرات، فحافظ على هذا المفتاح العظيم، بارك الله فيك.   المفتاح الثالث: بالحلوى تفتح القلوب: هل جربت يومًا أن تملأ جيبك بقطع الحلوى التي لا تثقلك وتُكلِّفك مالًا كثيرًا، فكلما مررت على عامل نظافة أو طفل أو دخلت مكان عملك أو مسجدك، وبعد السلام والابتسامة اللطيفة تبذل له قطعة من الحلوى التي معك؛ لتبرهن أن له في القلب مكانةً وقدرًا، وتُكرِّر هذه التجربة بين آونة وأخرى، فتأكَّد تمامًا حينها أنك ستجد أثرًا بالغًا لتلك الحلوى الرخيصة في قلب ذلك الشخص الذي غرست في قلبه بسببها حبًّا عميقًا تجاهك، وهكذا أثر بعد أثر حتى تكون الرجل الأول والأخير في حياته من بين الآخرين.   يذكر الدكتور عبدالكريم بكار حفظه الله قصة رجل كبير تعوَّد على أن يملأ جيبه بقطع من حلوى السكاكر رخيصة الثمن، فما أن يقابل صديقًا أو يجد طفلًا إلا ويُعطيه منها، حتى عُرِف بها، فأصبح كلما زار أحد أصدقائه أو أقاربه تُسارع الأطفال إليه؛ بل ويُدخلون أياديهم في جيبه قبل يده بحثًا عن تلك الحلوى التي عوَّدهم على بذلها لهم، فصار محبوبًا للأطفال خاصة، وشخصية جذَّابة لكل مَنْ يعرفه، يا لها من براعة في التعامُل وذكاء في سحر القلوب وجذبها، فلا تنسى هذا المفتاح فتح الله عليك.   المفتاح الرابع: بالمحادثة تفتح قلوب العمال: هل خطر ببالك أختي الفاضلة أن تجلسي مع خادمتك يومًا من الأيام جلسة انفراد على أنها صديقة لك مقربة لا خادمة، لتسأليها عن ظروفها وظروف أسرتها المعيشية في بلادهم، وما هي المعاناة التي تُواجههم في حياتهم هناك، ثم اتركيها لتُنفِّس عن نفسها، فتُخرج ما في قلبها من شكوى وآلام وهموم، وشاركيها الدمعة والأحزان، ثم ُخصِّصي بعد ذلك جلسةً للحديث والسَّمَر معها ولو مرة كل أسبوع؛ لتشعُر أنها إنسانة مكرَّمة، لها قيمةٌ وقَدْرٌ عندك، وأنها تعيش وكأنها بين أسرتها.   وهل حاولت أخي الفاضل أنت أيضًا أن تجلس مع أي عامل من عمَّالِكَ، أو غيره من سائر العُمَّال الأشقاء من أي جنسية كانت، لتسأله عن ظروفه، وتشاركه أحزانه ودمعته، وتدعو له بالفرج القريب لهمِّه وأحزانه، وتُمازحه وتُضاحكه، وتطلب منه العودة مرة بعد مرة للحديث معه، فكيف يكون شعوره تجاهك يا ترى، إن هؤلاء العُمَّال المساكين عندما يفقدون منا المشاركة لهمومهم وأحزانهم ولم يجدوا منا تواضُعًا للجلوس معهم، فمهما بذلنا لهم من عطاء لن يكون له الأثر في قلوبهم بقدر ما نشاركهم في مشاكلهم وأحزانهم؛ لأنهم يتصوَّرون أننا نحتقرهم، وأنهم عندنا خدمٌ وعبيدٌ مُهانون، وعندما نُشاركهم ونُجالسهم، ونضحك معهم من قلوبنا، ونستشيرهم في بعض الأعمال الخاصة بنا، تنفتح لنا قلوبهم بالمودَّة والحب، وهو الذي نريده منهم لا غير ذلك، فالدين المعاملة يا أيها القُرَّاء الأعزَّاء، كما أخبرنا بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم.   المفتاح الخامس: الكلمة الطيبة: في الحديث: ((الكلمة الطيبة صَدَقةٌ))، هل فكرت أخي الحبيب يومًا أن تُغيِّر من عادتك اللفظية؛ ليكون شعارك ((الكلمة الطيبة صَدَقةٌ))، وهل عزمت أن تحذف كل كلمة سلبية تعوَّدت على نُطْقها بلسانك، وأن تستبدل بها كلمة طيبة، جرِّبها مع أبنائك أولًا؛ ثم أصدقائك، جرِّب كل أسبوعين تكرار كلمتين جميلتين على لسانك بدل تلك الكلمتين البذيئتين اللتين كنت تقولهما سابقًا حتى تلازمهما فتتخلَّق بهما؛ "إنما العلم بالتعلُّم، والحِلْم بالتحلُّم".   المفتاح السادس: الزيارة: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا، غير أني أحبُّه في الله، قال: فإني رسول الله إليك، إن الله قد أحبَّك كما أحبَبْتَه فيه))؛ (رواه مسلم).
فهي دليل على محبَّتك للمزور، وسبب في حبِّه لك، فتخيَّل أخي الحبيب أنه كلما أخطأ عليك أخوك في الله، ذهبت وزُرْتَه، وسلَّمت عليه، وتحدَّثت معه من غير عتابٍ، ولا خصام؛ وإنما حديث لطيف وضحك ومزاح، هل سيحمل في قلبه عليك حقْدًا، أو يكن لك عداوة، لا شكَّ أن أثر الزيارة هو العفو، والمسامحة، والحب، والود بينكما، فإياك أن تنسى هذا المفتاح العظيم.   هذه بعض المفاتيح التي تُعين على فتح القلوب، وكسر الحواجز بين المتنافرين، وإلا فإن غيرها كثيرٌ ولكن هذه أهمها، جعلني الله وإيَّاكم ممن يستمع القول فيتَّبِع أحسنه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١