أرشيف المقالات

تخفيف الإمام في الصلاة وضابطه

مدة قراءة المادة : 24 دقائق .
2تخفيف الإمام في الصلاة وضابطه   • عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنَافَقْتَ يَا فُلانُ؟ قَالَ: لاَ وَالله، وَلآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلأخْبِرَنَّهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ، نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُعَاذٍ، فَقَالَ: ((يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ اقْرَأْ بِكَذَا، وَاقْرَأْ بِكَذَا)).
وفي رواية: ((اقْرَأْ ﴿ وَالشَّمْس وَضُحَاهَا ﴾، ﴿ وَالضُّحَى ﴾، ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾، و﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴾)).
  وفي رواية البخاري: "فتجوَّز رجلٌ، فصلَّى صلاةً خفيفةً، فبلغَ ذلك مُعاذًا، فقال: إنه منافق ...".
• عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ، وَالضَّعِيفَ، وَذَا الْحَاجَةِ)).   وبنحوه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ وفيه: ((فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ، فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ)).   ولمسلم من حديث عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: ((أُمَّ قَوْمَكَ))، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا، قَالَ: ((ادْنُهْ))، فَجَلَّسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِي صَدْرِي بَيْنَ ثَدْيَيَّ، ثُمَّ قَالَ: ((تَحَوَّلْ))، فَوَضَعَهَا فِي ظَهْرِي بَيْنَ كَتِفَيَّ، ثُمَّ قَالَ: ((أُمَّ قَوْمَكَ، فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا، فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ ....)). وفي رواية: "آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".   • عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوجِزُ فِي الصَّلاةِ وَيُتِمُّ، وفي رواية: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلاةً، وَلا أَتَمَّ صَلاةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنِّي لأَدْخُلُ الصَّلاةَ أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأُخَفِّفُ، مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ))، وبنحوه عند البخاري من حديث أبي قتادة.   ترجمة رواة الأحاديث: تقدمت ترجمة رواة الأحاديث إلا عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: • عثمان أبي العاص رضي الله عنه هو: عثمان بن أبي العاص بن بشر بن دهمان الثقفي، يُكنى أبا عبدالله، نزيل البصرة، أسلم في وفد ثقيف، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف، وأقرَّه أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما، ثم استعمله عمر رضي الله عنه على عمان والبحرين سنة خمس عشرة ثم سكن البصرة حتى مات بها في خلافة معاوية، قيل: سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وكان هو الذي منع ثقيفًا عن الردة، خطبهم فقال: كنتم آخر الناس إسلامًا، فلا تكونوا أولهم ارتدادًا، وهو القائل: الناكح مغترس، فلينظر أين يضع غرسه، فإن عرق السوء لا بد أن ينزع ولو بعد حين؛ [انظر الاستيعاب (3 /1035)، والإصابة (4 /373)].   تخريج الأحاديث: حديث جابر رضي الله عنه أخرجه مسلم (465)، وأخرجه البخاري في كتاب "الأذان" "باب من شكا إمامه إذا طول" (705)، وأخرجه أبو داود في كتاب "الصلاة" "باب إمامة من يصلي بقوم وقد صلى تلك الصلاة" (600)، وأخرجه النسائي في كتاب "الإمامة" "باب اختلاف نية الإمام والمأموم" (834).   وأما حديث أبي مسعود رضي الله عنه، فأخرجه مسلم (466)، وأخرجه البخاري في كتاب "العلم" "باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره" (90).   وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأخرجه مسلم (467)، وأخرجه البخاري في كتاب "الأذان" "باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" (703)، وأخرجه الترمذي في كتاب "الصلاة" "باب ما جاء إذا أَمَّ أحدكم الناس فليخفف" (236). وأما حديث عثمان بن أبي العاص فأخرجه مسلم (468)، وانفرد به عن البخاري.   وأما حديث أنس رضي الله عنه فأخرجه مسلم (469)، وأخرجه البخاري في كتاب "الأذان" "باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي" (708)، وأخرجه الترمذي في كتاب "الصلاة" "باب ما جاء إذا أَمَّ أحدكم الناس فليخفف" (237)، وأخرجه النسائي في كتاب "الإمامة" "باب ما على الإمام من التخفيف" (823)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب "إقامة الصلاة والسنة فيها" "باب من أمَّ قومًا فليخفف" (987).   وأما حديث أبي قتادة رضي الله عنه فانفرد به البخاري عن مسلم، وأخرجه في كتاب "الأذان" "باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي" (707).   شرح ألفاظ الأحاديث: "يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ": يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فرض الصلاة، ثم تكون إمامته لقومه نافلةً له.   "فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ": ظاهره أنه لم يَبْنِ على صلاته مع معاذ؛ وإنما قطعها ثم استأنف الصلاة من أولها، ولا يفهم من قوله: "فسلم" أن من أراد قطع الصلاة شُرع له التسليم؛ لأن قوله: "فسلم" شاذة تفرَّد بها محمد بن عباد شيخ مسلم رحمهما الله.   "أَنَافَقْتَ يَا فُلانُ؟": ناداه باسمه الصريح؛ لكن الرواة كعادتهم في الستر في هذه المواضع لا يصرحون بالاسم، وهو هَدْيٌ نبويٌّ.   "إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ": جمع ناضِح؛ وهي الإبل المستعملة في سقي النخل والزرع، وأراد أنهم أصحاب عمل وتعب، فلا نستطيع تطويل الصلاة.   "أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟": الاستفهام إنكاري توبيخي؛ أي: لا ينبغي أن تكون فتَّانًا؛ أي: منفِّرًا عن الدين، قال ابن حجر: "ومعنى الفتنة ها هنا أن التطويل يكون سببًا لخروجهم من الصلاة، وللتكرُّه للصلاة في الجماعة"؛ [فتح الباري (2 /195)].   "أَجْلِ فُلانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا": المقصود به أبي بن كعب، وهي تختلف عن قصة معاذ، قال ابن حجر: "أما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب؛ لأن قصة معاذ كانت في العشاء، وكان الإمام فيها معاذًا، وكانت في مسجد بني سلمة، وهذه كانت في الصبح، وكانت في مسجد قباء، ووهم من فسَّرَ الإمام المبهم هنا بمعاذ؛ بل المراد به أبي بن كعب"؛ [فتح الباري (2 /198)]، وقوله: "مما يطيل بنا" المقصود: طول القراءة. "فَلْيُوجِزْ": والإيجاز التقليل، والمراد: التخفيف غير المخلِّ بالصلاة.   "الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ": الكبير: هو المسنُّ الذي وهن بالشيخوخة، والضعيف الذي لا يتحمَّل؛ كالمريض، وضعيف الخلقة لهزال أو كبر أو صغر ونحوها؛ للرواية الأخرى عند مسلم: "فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض"، وفي رواية: ((فإن في الناس الضعيف والمستقيم))، وذو الحاجة هو المحتاج للتخفيف لأجل الحاجة؛ كالمسافر، والعامل، والمشغول بأمر ما، ولو كان دنيويًّا كما في حديث الباب.   "فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ": الأمر للإباحة؛ أي: إذا صلَّى منفردًا، فليطل صلاته كيف شاء، وفي الرواية الأخرى: ((فليطل صلاته ما شاء)).   "إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا": قال النووي: "يحتمل أنه أراد الخوف من حصول شيء من الكبر والإعجاب له بتقدُّمه على الناس، فأذهبه الله تعالى ببركة كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه، ويحتمل أنه أراد الوسوسة في الصلاة، فإنه كان موسوسًا، ولا يصلح للإمامة الموسوس؛ فقد ذكر مسلم في الصحيح بعد هذا عن عثمان بن أبي العاص هذا، قال: قلت: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاك شيطان يُقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوَّذ بالله، واتفل عن يسارك ثلاثًا))، ففعلت ذلك، فأذهبه الله تعالى عني"؛ [شرح مسلم (4 /408)].   "ادْنُهْ ": الهاء تُسمَّى هاء السكت و(ادن): فعل أمر. "ثُمَّ قَالَ: ((تَحَوَّلْ))"؛ أي: ضع صدرك جهة ظهرك، وظهرك جهة صدرك. "آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم": لبيان أن حكم التخفيف بقي ولم يُنسَخ إلى آخر العهد.   "فَأُخَفِّفُ، مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ"؛ أي: فأخفف الصلاة، قال النووي: "الوجد يُطلق على الحزن وعلى الحب أيضًا، وكلاهما سائغ هنا، والحزن أظهر؛ أي: من حزنها واشتغال قلبها به"؛ [شرح النووي (4 /409)].   من فوائد الحديث: الفائدة الأولى: حديث جابر رضي الله عنه دليل على مشروعية مراعاة الإمام لمن خلفه من المأمومين، فلا يطول عليهم ويُلحق بهم السآمة والملَلَ، ولا يخفف تخفيفًا يُخلُّ بالصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على معاذ رضي الله عنه؛ لأنه كان يتأخَّر على قومه بالصلاة بسبب صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم أولًا، ثم يأتي ويصلي بأصحابه تلك الصلاة، ويطيل بهم القراءة حتى إنه يقرأ بهم بسورة البقرة في العشاء وهم أصحاب عمل وحرث، ويحتاجون إلى النوم والراحة.   الفائدة الثانية: حديث أبي مسعود وأبي هريرة وعثمان رضي الله عنهم دليل على أن الإمام مأمورٌ بالتخفيف؛ مُراعاة لأهل الأعذار؛ لئلا يشقُّ عليهم، فإن من ورائه الضعيف والمريض وصاحب الحاجة، والتطويل بهم يؤدي إلى المشقَّة والملَل والسآمة، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لا تُبغِضُوا الله إلى عباده، قالوا: وكيف ذاك، أصلحَكَ الله؟ قال: يكون أحدكم إمامًا فيطول على القوم الصلاة حتى يُبغضن إليهم ما هم فيه، ويقعد أحدكم قاصًّا فيطول على القوم حتى يُبغضن إليهم ما هم فيه"؛ [رواه البيهقي في الشعب (14 /292_293) بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2 /195)، وأخرجه ابن عبدالبر في التمهيد (19 /11_12)].   واختلف أهل العلم في ضابط التخفيف المأمور به على أقوال: فقيل: ليس لذلك ضابط معين؛ لأن التخفيف والتطويل أمرٌ نسبيٌّ يختلف باختلاف قراءة الأئمة وحسن قراءتهم، وباختلاف المأمومين وحالهم، فقد يقرأ إمامٌ آياتٍ يُرتِّلها بصوت تكون خفيفة على السامع ويقرؤها آخر بوقت أطول، قالوا: فالمرجع في التخفيف سنة النبي صلى الله عليه وسلم يطبقها الإمام، ويزيد وينقص لمصلحة كما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أحوال أهل الأعذار، فيجمع بين خفة الصلاة المطلوبة وتمامها، كما قال أنس رضي الله عنه في حديث الباب: "ما صلَّيْتُ وراء إمام قَطُّ أخفَّ صلاة، ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم".   وقيل: ضابط التخفيف هو الاقتصار على أدنى الكمال، فيقتصر على ثلاث تسبيحات، وكذا في سائر أجزاء الصلاة، وهذا هو المشهور عن الشافعي، وردَّه شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه لا دليل عليه من السنة؛ بل الدليل يُعارضه؛ فالثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم يسبح في أغلب صلاته أكثر من ذلك.   وقيل: حد التخفيف مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: ((أنت إمامهم واقتد بأضعفهم))؛ رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، وحسَّنه الترمذي.   وبهذا قال ابن حزم وابن حجر وهو قول قوي له حظٌّ من النظر [انظر: المحلى (4 /99)، وفتح الباري (2 /199)]. والصواب القول الأول وأن الإمام يتابع السنة، ويخفف بما يناسب الأحوال الطارئة، وهو قول شيخنا العثيمين؛ [التعليق على مسلم (3 /213)].   وعلى الإمام ألَّا يصل به حدُّ التخفيف بأن يخل بالصلاة أو يسرع فيها، فكما أن التطويل غير مراد؛ فلذا التخفيف الذي ينافي المقصود غير مراد، وعليه أن يُراعي سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قدر القراءة كما تقدم؛ لأن منها ما يشرع فيه التطويل؛ كالفجر، ومنها ما هو دون ذلك.   كما أن عليه أن يُراعي الأحوال الطارئة؛ كشدة الحر أو برد عارض أو بكاء صبي، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، أما إن كان الجماعة طلبوا منه التطويل، فلا بأس؛ لانتفاء علة التخفيف، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل؛ ففي حديث أنس رضي الله عنه في الباب قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأدخل في الصلاة أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأخفف من شدة وجد أمه به)).
ومن تأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إمامته علم أن من أهم مقاصد الإمام مع مأموميه هو تحرِّي الرفق بهم، وجمع كلمتهم، وعدم اختلافهم عليه بلا تطويل مُنفِّر، ولا تخفيف مخلٍّ.   قال شيخنا العثيمين: "مسألة: ورد في حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :((اقتد بأضعفهم))، فهل يستدل به على أن الإمام يخفف، ولو أخذ من السنة؟ الجواب: لا، السنة هي الخير؛ قال أنس رضي الله عنه: "ما صليت وراء إمام قَطُّ أخف صلاة، ولا أتمَّ صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ لكن اقتد بأضعفهم فيما لو تشاجروا في مسألة من المسائل فيُقتدى بالضعيف"؛ [التعليق على مسلم (3 /213_214)].   الفائدة الثالثة: حديث جابر رضي الله عنه دليل على جواز خروج المأموم من الصلاة لعذر؛ كأن يطيل المأموم إطالة زائدة على المشروع تشق على المأموم، أو يخفف تخفيفًا يُخلُّ بالصلاة بأركانها وواجباتها كأن يقرأ الإمام الفاتحة بسرعة بحيث لا يتمكَّن المأموم من قراءة إلا نصفها أو لا يتمكَّن من الإتيان بتسبيحة في الركوع أو السجود، فيجب على المأموم أن ينفرد؛ لأنه ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجب، وهو لا يتمكَّن من إتيانه بواجب الركن الذي في الصلاة إلا بانفراده عنه، فانفراده واجب.   الفائدة الرابعة: حديث جابر رضي الله عنه دليل على جواز اقتداء المفترض بالمتنفِّل، ووجهه أن معاذًا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم يرجع فيؤم قومه بنفس الصلاة كما في حديث الباب مما يدل على جواز اقتداء المفترض بالمتنفِّل؛ لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم فِعْلَ معاذ بن جبل رضي الله عنه، وعلى فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك، فإن الزمن زمن وحي، ولا يقع فيه التقرير على أمر لا يجوز، فلو كان منهيًّا لنزل فيه النهي، وهذا القول قال به الشافعي وأصحابه، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن قدامة، وشيخ الإسلام؛ [انظر: المغني (3 /67)، والمجموع (4 /152)، ونهاية المحتاج (2 /206)، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (23 /389)].   والقول الثاني: أنه لا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفِّل، وهو قول الحنفية والمالكية وأحمد في المشهور عنه، واختار ذلك أكثر أصحابه؛ [انظر: الهداية (1 /323_325)، مختصر الخليل (33) والمغني (3 /67)].   واستدلوا: بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه ...))، قالوا: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف عن الإمام، وكون الإمام متنفِّلًا والمأموم مفترضًا اختلاف فلا يصح ذلك.   وأجابوا عن قصة معاذ رضي الله عنه في الباب بأنها ليست صريحة في الاستدلال؛ لاحتمال أن معاذًا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فريضة، ويحتمل أنه ينويها نافلةً، وأما الفريضة فمع قومه، وعليه فلا يصح الاستدلال بقصة معاذ؛ [انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي (1 /408)].   ونوقش هذا الجواب بأنه مردود ببعض الروايات التي صرحت بأن صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت فريضة، ومع قومه نافلة، عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "وهي له تطوُّع، ولهم مكتوبة العشاء"؛ ]أخرجه الشافعي (1 /143)، والدارقطني (2 /13)، والبيهقي (3/86)، وهي زيادة صحيحة كما ذكر الحافظ في فتح الباري (2 /195_196)].   والقول الأول هو الراجح لحديث الباب، ويشهد له صلاة النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بطائفتين إمامًا لهم يصلي بكل طائفة ركعتين والفرض واحد، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فالجواب عنه: أن قوله: ((فلا تختلفوا عليه)) المراد منه: اختلاف الأفعال الظاهرة كما هو سياق الحديث وقد تقدَّم، ولو قيل بدخول النيات لعموم الحديث، فيجوز اختلاف النية، والله أعلم.   الفائدة الخامسة: حديث جابر رضي الله عنه فيه دلالة على مشروعية القراءة في صلاة العشاء من أوسط المفصل فيقرأ بـ (والشمس وضحاها) و(سبِّح اسم ربك الأعلى)، و(اقرأ باسم ربك الذي خلق) و(والليل إذا يغشى) وبنحوها من السور.   الفائدة السادسة: الحديث دليل على جواز وصف الإنسان بما يدل عليه ظاهر حاله أو فعله، وإن كان له عذر باطن، ووجهه أن معاذًا وصف الرجل بالنفاق والصحابة قالوا: "أنافقت يا فلان"، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ وإنما أنكر عليه التطويل في الصلاة، وهذا فيه دلالة أيضًا على أن التخلُّف عن صلاة الجماعة من صفات المنافقين.   الفائدة السابعة: الحديث يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يدفع عن نفسه التهمة، ووجهه أن الرجل حين قيل له: "أنافقت يا فلان"، قال: "لا والله " مؤكدًا ذلك بالقسم، ودفع التهمة هَدْيٌ نبويٌّ له عدة أمثلة، منها ما جاء في الصحيحين حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية رضي الله عنها يُشيعها مرَّ به رجلان من الأنصار فأسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها صفية)).
الفائدة الثامنة: حديث أبي مسعود رضي الله عنه دليل على جواز تأخُّر الإنسان عن صلاة الجماعة إذا كان الإمام يطيل إطالة تُخالف السنة، ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينْهَ الرجل عن تأخُّره عن الجماعة حين قال: "إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا".   الفائدة التاسعة: الحديث دليل على مشروعية الستر على المخالف ما لم يكن هناك مصلحة من عدم الستر، ووجهه أنه قيل في الحديث: "من أجل فلان مما يطيل بنا"، وهذا هَدْيٌ نبويٌّ، ففي الحديث وعظ النبي صلى الله عليه وسلم، وستر على المخالف، فقال: ((يا أيها الناس إن منكم منفرين)).   الفائدة العاشرة: الحديث دليل على جواز تطويل الإنسان صلاته على قدر زائد من السنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا صلي وحده فليصل كيف شاء))، وفي الرواية الأخرى: ((فليطل صلاته ما شاء)) إلا أن اتِّباع السنة أفضلُ من تطويل يخالفها.   الفائدة الحادية عشرة: الحديث دليل على جواز الغضب في الموعظة لما في ذلك من إظهار الاهتمام بالأمر وبلوغ وقعه في القلب.   الفائدة الثانية عشرة: حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وغيره دليل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وإرشادهم لما هو خير، وحسن تعليمه لهم، ومعالجة ما قد ينوبهم ويشتكون منه، ومن ذلك وضعه صلى الله عليه وسلم كفَّه على عثمان رضي الله عنه؛ ليذهب ما يجد ببركة يد النبي صلى الله عليه وسلم، وبركة يده من خصائصه صلى الله عليه وسلم.   الفائدة الثالثة عشرة: حديث أنس رضي الله عنه دليل على جواز صلاة النساء مع الرجال في المسجد، وصلاة الصبيان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنِّي لأَدْخُلُ الصَّلاةَ أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِه)).

الفائدة الرابعة عشرة: في الحديث دليل على أن الفاضل قد يكون مفضولًا والعكس، ووجهه أن إطالة الصلاة على وجه مشروع أفضل، فإذا طرأ ما يستدعي التخفيف؛ كبكاء الصبي صار التخفيف فاضلًا.   مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الصلاة)



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣