أرشيف المقالات

النصيحة لا الغش!

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2النصيحة لا الغش!
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرَّ على صُبْرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟))، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس، مَنْ غشَّ فليس مني[1])).
شرح مفردات الحديث: قوله: "صُبْرة طعام" بضم الصاد المهملة، وسكون الموحدة: ما جمع من الطعام بلا كيل ووزن.
وقوله: "أصابته السماء"؛ أي: المطر؛ لأنها مكانه، وهو نازل منها، قال الشاعر: إذا نزل السماءُ بأرْضِ قومٍ *** رعيناه وإنْ كانوا غضابا[2]   فوائد من الحديث: يستفاد من الحديث تحريم الغش[3] في البيـع والشراء، وفي سائر المعاملات.   والغش معنــــاه: كتم عيب المبيع، والمراد بالعيب: كل وصف يعلم من حال آخذه، أنه لو اطَّلع عليه لم يأخذه بذلك الثمن، الذي يريد بدله فيه[4].   يقول الصنعاني: والحديث دليل على تحريم الغش، وهو مجمع على تحريمه شرعًا، مذموم فاعله عقلًا[5].   ولا يفهـــم من قوله صلى الله عليه وسلــم: ((ليس منــــا)) أن مرتكب الغــش كافــــــر، أو خارج عن الإسلام؛ قال القاضي عياض: "لا حجَّة فيه لمن يقول: إن العاصي خرج من الإيمان[6]؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد به نفيه عن الإسلام؛ بل نفي خلقه عن أخلاق المسلمين؛ أي: ليس هو على سُنَّتنا أو طريقتنا في مناصحة الإخوان كما يقول الإنسان لصاحبه: أنا منك، يريد الموافقة والمتابعة؛ قال تعالى عن إبراهيم: ﴿ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ [إبراهيم: 36] [7].
وقال الصنعاني: ومعناه ليس ممن اهتدى بهَدْيي، واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي[8].
ونستفيـــد من الحديث كذلك، أن أساس العلاقة بين المسلمين هي النصيحـــــة لهــم، ومحبَّة الخير لهــم، وأن الغش ممـــا يتنافى مــــع الأصــل؛ بـــل هو وسيلــة لهــدمه، وسبب في إشاعة العـــــداوة والبغضــاء بين المسلميـــن، فلأجـــــل المحافظة على هذا الأصــل ذمَّت الشريعة الغــشَّ بسائر أنواعه، ودعت إلى اجتنابه، فهو من أقبح الأوصاف القاطعة لرحم الإسلام، الموجبة لكون المسلم للمسلم كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا، ومن قطع رحم الإسلام خشي عليه الخروج من عدادهم[9].
ولهذا ذمَّ الله عز وجل الغش وأهله في القرآن الكريـــم، فقال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطففين: 1-3]، وإنه لا سبيــل إلى البُعْــد عن هــذا الخلق الذميم، إلا باستحضار مراقبة الله تعالى ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ﴾ [البقرة: 235].   وهنــــا يحكى عن عبدالله بن دينار رحمه الله قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة، فعرسنا في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل، فقال له: يا راعي، بعني شاةً من هذه الغنم؟ فقال: إني مملوك، فقال: قل لسيِّدك: أكلها الذئب؟ قال: فأين الله؟ فبكى عمر رضي الله عنه، ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقك في الآخرة[10].
فهـــذا الرجــل المؤمن لم يرد خــــداع وغش صاحبه لسبب وحيــد، وهو استحضاره مراقبة الباري تبارك وتعالى. فاللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك.


[1] صحيح مسلم، كتاب: الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم. [2] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ج 5، ص1935. [3] الغش: نقيض النصح؛ شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، ج7، ص2151. [4] دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين،ج8، ص423. [5] سبل السلام، ج2، ص39. [6] إكمال المعلم بفوائد مسلم، ج1، ص375. [7] فيض القدير شرح الجامع الصغير؛ للمناوي، ج6، ص185. [8] سبل السلام،ج2، ص38. [9] دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، ج8، ص423. [10] سير أعلام النبلاء، ج4ص310



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير