أرشيف المقالات

تفسير الربع الأخير من سورة ص

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [1] 3.
الربع الأخير من سورة ص
من الآية 49 إلى الآية 54: ﴿هَذَا ذِكْرٌ﴾ يعني: هذا القرآن ذِكْرٌ يُذكَر به الله تعالى، وهو شَرَفٌ لك أيها الرسول ولمَن اتَّبعك، ﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الذين يعملون بهذا القرآن ﴿لَحُسْنَ مَآَبٍ﴾ أي لَهم حُسن مصير عندنا في الآخرة، وهي ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ أي جنات الخلود ﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾: يعني أبوابها تكونُ مفتَّحةً لهم ليدخلوا منها، ثم يجلسون ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا﴾ على السُرُر المُزَيَّنة (والسُرُر جمع سرير)، ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ﴾ أي يطلبون فيها ما يشتهون من أنواع الفواكه اللذيذة والشراب، (ولَعَلّ الله تعالى قد ذَكَرَ الفاكهة دونَ سائر الطعام للإشارة إلى أن طعامهم وشرابهم لمجرد التلذذ - كما يُتلَذَّذ بالفاكهة - لا لطرد الجوع كما في الدنيا، وإلاّ، فإن الله تعالى قد قال في آيةٍ أخرى: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾، وقال أيضاً: (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)، ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ أي عندهم في مجالسهم نساءٌ لا تنظر إحداهنّ إلى غير زوجها، ولا يَنظر زوجها إلى غيرها (مِن شدة حُسنها وجمالها)، وهُنّ ﴿أَتْرَابٌ﴾ أي متساويات في السن، (إذ سِنّ أهل الجنة هو ثلاث وثلاثون سَنَة)،﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ يعني هذا النعيم هو ما توعدون به أيها المتقون يوم القيامة،﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا﴾ لكم، ﴿مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ أي ليس له فَناء ولا انقطاع.
من الآية 55 إلى الآية 61: ﴿هَذَا﴾ يعني هذا الذي سَبَقَ وَصْفه للمتقين، ﴿وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ﴾ الذين تجاوزوا الحدَّ في الكفر والمعاصي ﴿لَشَرَّ مَآَبٍ﴾: أي لهم شر مَرجع ومصير، وهي﴿جَهَنَّمَ﴾ التي ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾: أي يُعذَّبون فيها، فتغمرهم من جميع جوانبهم، ﴿فَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾: أي بئس الفراش فراشهم (لأنه مصنوع من نار)،﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾: يعني هذا حميمٌ وغَسَّاقٌ فليَذوقوه (إذ في الكلام تقديمٌ وتأخير) (والحميم هو الماء شديد الحرارة ، والغَسّاق هو الصديد الذي يسيل من أجساد أهل النار)، ﴿وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ﴾ يعني: ولهم عذابٌ آخر يُشبه الحميم والغَسّاق ﴿أَزْوَاجٌ﴾ يعني أصناف عديدة من العذاب.
♦ ثم أخبَرَ سبحانه أن رؤساء الضلال يدخلون النار قبل غيرهم، ثم تقول لهم ملائكة النار - عندما يرون أتْباعهم داخلينَ بعدهم -:﴿هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ﴾: يعني هذه جماعة من أهل النار داخلة معكم (وهم أتْباعكم في الضلال)، فيجيبون الملائكة قائلين: ﴿لَا مَرْحَبًا بِهِمْ﴾ أي لا سعة عليهم، ولا راحة لهم هنا ﴿إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ﴾ يعني إنهم سيُعانون من حرَّ النار كما عانيناه، فـ﴿قَالُوا﴾ أي قال فوج الأتْباع لرؤسائهم: ﴿بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ﴾، فـ ﴿أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا﴾: يعني إنكم الذين قدَّمتم لنا هذا السَكَن في النار (إذ كنتم تأمروننا بالشرك والفجور)، قال تعالى: ﴿فَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ يعني: فبئس المُستَقرّ الذي انتهى إليه الطاغون وأتْباعهم في النار، و﴿قَالُوا﴾ أي قال فوج الأتْباع داعينَ ربهم: ﴿رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا﴾ يعني: مَن كان سببا في عذابنا هذا (بإضلاله لنا في الدنيا): ﴿فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ﴾ أي ضاعِف عذابه في النار.
الآية 62، والآية 63، والآية 64: ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى﴾ في النار ﴿رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ﴾ أي كنا نعتبرهم في الدنيا ﴿مِنَ الْأَشْرَارِ﴾؟ (يقصدون بذلك: المسلمين الذين كانوا يَتَّهمونهم بالتُهَم الباطلة، ويلصقون بهم كل شؤم وشر وفساد)، ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا﴾: يعني هل استهزاؤنا بهم واتّهامنا لهم كان خطأً؟ ﴿أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾: يعني أم أنهم معنا في النار، لكنّ أبصارنا ضَلّتْ عنهم فلم تقع عليهم؟، ثم قال تعالى:﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾: يعني إنّ جدال أهل النار وتخاصمهم حَقٌّ واقع لا شك فيه.
الآية 65، والآية 66: ﴿قُلْ﴾ - أيها الرسول - مُخَوّفاً لقومك من هذا العذاب: ﴿إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ﴾ لكم من عذاب الله إن أشركتم به وعصيتموه، ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾: يعني ليس هناك إله يَستحق العبادة إلا الله وحده، فهو سبحانه ﴿الْوَاحِدُ﴾ في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو ﴿الْقَهَّارُ﴾ الذي قَهَرَ كل شيء وغَلَبه، وهو﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي مالك السماوات والأرض ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، وهو ﴿الْعَزِيزُ﴾ في انتقامه ممن أشرك به، ﴿الْغَفَّارُ﴾ لذنوب مَن تاب إليه ورجع إلى ما يُرضيه.
من الآية 67 إلى الآية 70: ﴿قُلْ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾: يعني إن هذا القرآن - وما يحتوي عليه من تقرير التوحيد والنُبُوّة والبَعث وعَرْض القصص والأحداث ووَصْف الجنة والنار - لَهُوَ خبرٌ عظيم الشأن ﴿أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ (لا تتفكرون في أدلته ولا تلتفتون إلى مواعظه، ولا ترغبون في سماعه وتدبُّر مَعانيه)، ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾: يعني لم يكن لي عِلم باختصام ملائكة السماء في شأن خلق آدم، عندما قال الله لهم: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾، فما كانَ لي مِن عِلمٍ بذلك لولا تعليم الله لي، ووحيه إليَّ به، ﴿إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ يعني: ما يُوحِي اللهُ إليَّ مِن عِلْمٍ إلا لأني نذيرٌ لكم من عذابه، مُبَيِّنٌ لكم الحق من الباطل، (فلم يُوحَ إليّ الأمر حتى أكون رئيساً عليكم أو غير ذلك، وإنما أوحِيَ إليّ لتقرير حقيقة واحدة، وهي أني نذيرٌ لكم ولغيركم من عذاب الله المُعَدّ لمن أشرك به في عبادته، وخرج عن طاعته).
الآية 71، والآية 72: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ أي اذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين - الذين أطاعوا عَدوّهم وعَدوّ أبيهم، وعصوا ربهم مِن أجْله - اذكر لهم حين قال ربك للملائكة: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾ ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ أي أَكْمَلتُ صورته﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ فأصبح حَيّاً: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ أي فخِرُّوا له ساجدين (سجود تحيةٍ وتكريم، وليس سجود عبادةٍ وتعظيم، لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده)، (وقد حَرَّم الله في شريعة الإسلام سجود التحية: سداً لباب الشرك).
الآية 73، والآية 74: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ كما أمَرهم ربهم، فلم يَمتنع منهم أحد ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ الذي كانَ يَعبد اللهَ معهم، فإنه ﴿اسْتَكْبَرَ﴾ أي تكَبّر عن السجود، حَسَدًا لآدم على هذا التكريم العظيم ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ أي: فصارَ إبليس بذلك من الجاحدينَ باللهِ تعالى، العاصينَ لأمره.
الآية 75: ﴿قَالَ﴾ اللهُ تعالى - مُنكِرًا على إبليس تَرْكَ السجود -: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾: يعني ما الذي مَنَعَك من السجود لمَن أكرمتُه فخلقتُه بيديَّ؟ ﴿أَسْتَكْبَرْتَ﴾ على آدم، ﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ أي المُتكبرين على ربك؟، (وفي الآية إثبات صفة اليدين لله تبارك وتعالى، على الوجه اللائق به سبحانه، وأنّ له يَدَيْن ليست مِثل أيْدي المخلوقين، لأنه تعالى ليس كمِثله شيء).
الآية 76: ﴿قَالَ﴾ إبليس: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ فقد ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ (فرأى أن النار أشرف من الطين، وفَضَّلَ ما يراه عقله على الانقياد لأمر ربه).
الآية 77، والآية 78: ﴿قَالَ﴾ اللهُ تعالى له: ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا﴾ أي اخرج من الجنة ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ أي مَطرودٌ من كل خير، ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي﴾ أي البُعد مِن رحمتي﴿إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾: يعنيإلى يوم الجزاء، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾ أي جزاءهم الحق.
الآية 79، والآية 80، والآية 81: ﴿قَالَ﴾ إبليس: ﴿رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي أخِّرني في الدنيا إلى اليوم الذي تَبْعَث فيه عبادك (وهو يوم القيامة)، فـ ﴿قَالَ﴾ اللهُ له: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ أي فإنك مِمَّن أخَّرْتُ هَلاكهم ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ وهو اليوم الذي يموت فيه جميع الخَلق بعد النفخة الأولى - لا إلى يوم البعث، (وقد أجابَ اللهُ طلبه اختباراً لعباده).
الآية 82، والآية 83: ﴿قَالَ﴾ إبليس: ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾ - يا رب - وعظمتك ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي سوف أُضِلُّ ذرية آدم جميعاً عن طريق الهُدى (انتقامًا لنفسي مِن آدم) ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ﴾ أي مِن بني آدم، ثم خَصَّهم بقوله:﴿الْمُخْلَصِينَ﴾: يعني إلا عبادك الذين أخلصوا لك العبادة، فخَلَّصتَهم من السُوء والفَحشاء، فهؤلاء لن أستطيع إضلالهم.
الآية 84، والآية 85: ﴿قَالَ﴾ الله تعالى لإبليس: ﴿فَالْحَقُّ﴾ يعني: فأنا الحقُّ (أو: فالحَقُّ قولي)، ﴿وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ يعني: ولا أقول إلا الحق: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ﴾ (والمقصود إبليس وذريته) ﴿وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ أي من بني آدم ﴿أَجْمَعِينَ﴾.
الآية 86، والآية 87، والآية 88: ﴿قُلْ﴾ أيها الرسول لمُشرِكي قومك: ﴿مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ يعني: إنني لا أطلب منكم أجرًا على تبليغ رسالة ربي (حتى لا يكون ذلك مانعاً لكم عن اتِّباعي)، ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾: يعني لا أتكلف كذباً على ربي، فأقول ما لم يَقُله، وما أنذركم به من عند نفسي ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾: يعني ما هذا القرآن إلا تذكيرٌ للجن والإنس (إذ يَتذكرون به ما ينفعهم في دِينهم ودُنياهم)، ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾: أي سوف تعلمون خبر هذا القرآن وصِدقه، حين ينتصر الإسلام، ويدخل الناس فيه أفواجًا، وحين يقع عليكم العذاب، وتنقطع عنكم الأسباب.


[1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو تفسير الآية الكريمة.
- واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن