أرشيف المقالات

خاتمة كتاب الاجتهاد والتقليد عند الإمام الشاطبي

مدة قراءة المادة : 42 دقائق .
2خاتمة كتاب الاجتهاد والتقليد عند الإمام الشاطبي
الحمد لله المنعم بإتمام هذا البحث، والمتفضل بإعانته وتوفيقه، وصلى الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فبعد أن بلغت المراد من هذا البحث، أختم المطاف والتطواف في آراء الشَّاطبي وكتب علماء الأصول بخلاصة المقال، وأهم النتائج، وزبدة آراء الشَّاطبي في تلك المسائل المطروقة؛ لينتهي بذلك غاية القصد، ويكون بيان ذلك في النقاط الآتية: أولًا: مما استنتجته، بل ما بدا لي جليًّا واضحًا كالعيان، ما رزقه الله هذا الإمام - رحمه الله - من عقلية بارعة، وقريحة فريدة، وابتكار متميز، وعلمية واسعة؛ فهو الأصولي الثبت، والفقيه المتمكن، والنَّحْوي الحاذق.   ثانيًا: أن المسائل الأصولية بحاجة ملحة إلى أن يضفى عليها طابع المقاصد الشرعية، فينظر في تأصيلها والتدليل عليها إلى مقاصد الشريعة، وحكمها الكلية وغاياتها؛ فإن ذلك يكسبها المتانة والقوة.   وهذا ما ظهر واضحًا في بحث الشَّاطبي للمسائل الأصولية، وقد حاولت جاهدًا إظهار ذلك من خلال هذا البحث، ومن خلال المسائل المبحوثة فيه، ولك أن تلحظ - كشاهد على ذلك - ما سطر في مطالب المبحث الثالث من الفصل الرابع، وهو فيما يجب على المجتهد ملاحظته.   وهذا المنهج - ولا شك - منهج متميز عن المنهج الأصولي المعتاد، وهو ألصق بالواقع وأقرب إلى فهم الناس وعقولهم، وأبعد عن المباحث المنطقية الصرفة التي تَعِجُّ بها كتب الأصول الأخرى، ولا سيما إذا ذُلِّلَتْ عباراته، ووُضِّحت ألفاظه.   ثالثًا: يلاحظ في جملة من المسائل التي ذكرنا فيها رأي الشَّاطبي أن الشَّاطبي قبل أن يؤصل المسألة ويقسمها قد استقرأ نصوص تلك المسألة وجزئياتها المتعلقة بها، وإن مما لا يخفى أن هذا المنهج مما تميز به الشَّاطبي في نظره للمسائل التي يبحثها، وهذا مصدر قوة في الرأي، ومتانة في النظر، ولا شك أن طالب العلم بحاجة إلى معرفة هذا المنهج، وتعويد نفسه عليه؛ إذ هو منهج يكسب الثبات في العلم، وعدم التناقض في الجزئيات التي ينظُرُ فيها طالب العلم ليُعمِل فيها رأيه.   رابعًا: يلاحظ من خلال هذا البحث الترابط بين مسائل بابي الاجتهاد والتقليد، وحاجة الواقع للنظر فيهما والمعرفة بمسائلهما، ومن خلال المقارنة بين آراء الشَّاطبي في البابين يظهر مدى الترابط بين آرائه في الاجتهاد والتقليد.   خامسًا: أن الاجتهاد في اللغة مأخوذ من مادة جهد، وأن هذه المادة تفيد في اللغة معنى المشقة ذاتها، أو ما هو محصل لها، وسبب لوجودها، وأما الاجتهاد في الاصطلاح فعرَّفه الشَّاطبي بأنه استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم، وهذا التعريف ليس ببعيد عن تعريفات الأصوليين، وأن التعريف المختار للاجتهاد هو: استفراغ الوسع المعتبر لدرك حكم شرعي فروعي بالاستنباط.   سادسًا: أن الشَّاطبي يرى أن نشأة الاجتهاد كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو أول المجتهدين من هذه الأمة، والاجتهاد في استنباط الأحكام ميراث له وَرِثَتْه الأمة عنه.   سابعًا: أن الشَّاطبي يرى أن حكم الاجتهاد من حيث التشريع - أي من حيث إقرار الشرع له - يختلف باختلاف ما هو واقع فيه، فهو إما أن يقع في الكليات أو في الجزئيات.   أما الكليات فهي - فيما يرى الشَّاطبي - كل ما ثبت على جهة القطع، وهو يرى أن الكليات والأصول بمعنى واحد، فإن كان الاجتهاد في تلك الكليات فإن الشَّاطبي يرى عدم جواز الاجتهاد؛ لوضوح الحق فيها، ولِمَا ورد في الشرع من ذم الاختلاف في الأصول، وهو في ذلك موافق لجمهور الأصوليين.   وأما الجزئيات فهي على قسمين، فإن كانت ثابتة على جهة القطع، فإن الشَّاطبي يطلق عليها مسمى الجزئي، ولكنه يريد بذلك الجزئي الإضافي؛ إذ هي جزئية بالنسبة للكليات التي فوقها، والقسم الثاني هو كل ما ثبت على جهة الظن، وهي الجزئيات الحقيقية، وهي المرادة عند الإطلاق، وهذه الجزئيات يطلق عليها الشَّاطبي مسمى الفروع، ويرى الشَّاطبي أن الاجتهاد في الجزئيات جائز، وعليه تدل الأدلة الشرعية، وهو في ذلك موافق للجمهور، ويخالفهم في ذلك شِرذمة قليلون، وعلى القول بعدم الاعتبار بخلاف أهل البدع، فإن المسألة مجمَع عليها.   ثامنًا: أن حكم الاجتهاد من حيث التكليف - أي من حيث تعلقه بالمكلفين - قد بينه الشَّاطبي من خلال نظرين: الأول: من خلال النظر الكلي؛ أي: من خلال النظر لمجموع الأمة؛ فالشَّاطبي يرى أن الاجتهاد بهذا النظر فرض كفاية على الأمة، وهذا محل إجماع من القائلين بالاجتهاد.   والثاني: مِن خلال النظر الجزئي، وهو النظر إلى كل مكلف على وجه الخصوص، والشَّاطبي يرى أن الاجتهاد بهذا النظر يتنزل على الأحكام التكليفية الخمسة؛ فقد يكون واجبًا عينيًّا أو كفائيًّا، وقد يكون مندوبًا أو محرَّمًا، أو مكروهًا أو مباحًا، وهذا موافق لتقسيم الاجتهاد من حيث الحكم عند الأصوليين.   تاسعًا: أن الذي يبدو هو أن الشَّاطبي ممن يرى أن للاجتهاد ركنين، وهما: المجتهِد، والمجتهَد فيه، وهو موافق في ذلك لبعض الأصوليين، أما عامتهم فليس في صريح كلامهم ما يفيد رأيًا في المسألة، غير أنه يمكن أن يفهم من كلامهم موافقتهم لذلك.   عاشرًا: أن الشَّاطبي يرى أن للاجتهاد أهمية عظيمة، ومنزلة رفيعة في الدين؛ فهو بمنزلة الإرث للنبي صلى الله عليه وسلم، كما أنه سبيلٌ مِن سبل بقاء الدين واستمراريته وصلاحيته لكل زمان ومكان، وللمجتهد منزلة عالية في الشريعة؛ فالمجتهدون هم حُماة الدين، كما أنهم داخلون في الجماعة، وهم أصحاب الفرقة الناجية.   حادي عشر: أن الشَّاطبي قد قسم الاجتهاد من حيثيات مختلفة، وبيانها كالآتي: ♦ تقسيمه من حيث الانقطاع وعدمه: وهو يقسم الاجتهاد من هذه الحيثية إلى قسمين: الأول: اجتهاد لا ينقطع حتى قيام الساعة، وهو الاجتهاد المتعلق بالتكليف، ويعني به الشَّاطبي تحقيق المناط المتعلق بالأشخاص في قسمه العام، الذي لا يختص بفئة دون أخرى، بل هو عام لكل مكلف.   أما القسم الثاني فهو الاجتهاد الذي يمكن انقطاعه، وهو بقية أنواع الاجتهاد، وهي تنقيح المناط، وتخريجه، ونوعان من تحقيق المناط، وهما: تحقيق المناط الخاص بالأنواع، وتحقيق المناط الخاص بالأشخاص في قسمه الخاص، ولما أن كانت هذه الأنواع خاصة بفئات من الناس وليست عامة بكل مكلف، أمكن أن ينقطع الاجتهاد فيها.   وهذا التقسيم مما صرح به الشَّاطبي، وقد تميز فيه بإظهاره على هذه الصورة، والقسم الأول منه قد نقل عليه الإجماع، ولكن يبدو أن بعض الأصوليين قد خالف فيه، وأما القسم الثاني فقد وافق فيه الشَّاطبيَّ جمهورُ العلماء.   ♦ تقسيمه من حيث الاعتبار وعدمه: وهو ينقسم من هذه الحيثية إلى قسمين: الأول: الاجتهاد المعتبر شرعًا، وهو - حسب تعريف الشَّاطبي - الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد.   والثاني: الاجتهاد غير المعتبر شرعًا، وعرفه الشَّاطبي بأنه الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر إليه الاجتهاد.   وهذا التقسيم قد صرح به الشَّاطبي، وهو موجود ضمنًا عند الأصوليين، وهم متفقون مع الشَّاطبي فيما أثبته فيه، إلا أن الشَّاطبي متميز بإظهار هذا التقسيم وإيضاحه.   ♦ تقسيمه من حيث من يقوم به: وقسمه بهذا الاعتبار إلى قسمين: الأول: اجتهاد عام، والمراد به ما لا يختص بالعالم المجتهد، بل هو عام لكل مكلف، وهو في حقيقته تحقيق المناط الخاص بالأشخاص في قسمه العام، وهو المرتبط بالنظر في ارتباط المكلف بالحكم الشرعي، ومما يمكن أن يدرج تحت هذا القسم أيضًا نوع من تحقيق المناط الجزئي، وهو ما لم يكن خاصًّا بالعلماء؛ كتحقيق المثل في جزاء الصيد، وتقويم المتلفات، وأروش الجنايات، ونحو ذلك مما هو خاص بأهل الخبرة، فإن هذا النوع تحقيق مناط نوعي، وهو وإن كان خاصًّا بأهل الخبرة فإننا يمكن أن ندرجه ضمن الاجتهاد العام، باعتبار أنه غير خاص بعلماء الشريعة.   والثاني: اجتهاد خاص، وهو المرتبط بعلماء الشريعة، وهو تنقيح المناط، وتخريجه، وتحقيق المناط النوعي الخاص بالعلماء كتعيين علامات البلوغ ونحو ذلك، وتحقيق المناط الشخصي الخاص، وهو ما ينظر فيه إلى دواخل النفس البشرية ومداخلها، وطرق التحرز منها، وما يلائم تلك النفوس ويناسبها.   وهذا التقسيم لم يصرح به الشَّاطبي، ولكنه أشار إليه، ولم أرَ أحدًا صرح بهذا التقسيم، إلا أنه تبين لي أن ما فيه من أحكام أثبتها الشَّاطبي موجودة ضمنًا عند الأصوليين، أما القسم الأول فقد نقل بعضهم الاتفاق على تحقيق المناط المرتبط بكل مكلف، وأما الخاص بأهل الخبرة فإن الأصوليين يشيرون إليه، ويذكرون من أمثلة تحقيق المناط ما هو من أمثلة تحقيق المناط النوعي الخاص بأهل الخبرة؛ كتقليد التجار في تقويم المتلَفات وأروش الجنايات ونحو ذلك، ومن المعلوم أن هذا النوع ليس خاصًّا بالمجتهد، أما القسم الثاني فليس في جملته محل إشكال؛ إذ هو ما يطلق عليه الأصوليون مسمى الاجتهاد، ولا شك أنهم يقصرون الاجتهاد على العالم المجتهد.   ♦ تقسيمه من حيث الإطلاق وعدمه: والشَّاطبي يقسم الاجتهاد بهذا الاعتبار إلى قسمين: الأول: اجتهاد مطلق، وهو كاجتهاد الأئمة؛ كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي. والثاني: مقيد، وهو كاجتهاد أصحاب الأئمة؛ كأبي يوسف، وابن القاسم، والمزني، وغيرهم.   وهذا التقسيم أشار إليه الشَّاطبي، وهو موجود برمَّته عند الأصوليين.   ♦ أضرب الاجتهاد في العلة: وهو يقسمه بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام: أولها: تحقيق المناط: وعرَّفه بأن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله، وهذا النوع نقل الشَّاطبي الإجماع عليه، ووافقه غيره في ذلك، ولكن بعض الأصوليين نقل في المسألة خلافًا.   وقد قسم الشَّاطبي تحقيق المناط إلى قسمين: الأول: تحقيق مناط خاص بالأنواع، ويمكن تعريفه بأنه ما يختص بتبيين أنواع مندرجة تحت حكم مطلق أو عام، ويمكن تقسيمه فهمًا من أمثلة الشَّاطبي إلى نوعين: نوع خاص بالعلماء؛ كتعيين ما يحصل به البلوغ، ونوع يختص بأهل الخبرة؛ كتقويم المتلَفات وأروش الجنايات.   والثاني: تحقيق مناط خاص بالأشخاص أو بالأعيان، ويمكن تعريفه بأنه ما يختص بالنظر في أعيان خاصة تندرج تحت حكم مطلق أو عام، ويمكن أن يسمى بتحقيق المناط الخاص بالجزئيات؛ لأنه متعلق بالأحكام الجزئية ووجودها في الخارج، وهذا القسم قسمه الشَّاطبي إلى نوعين: نوع عام لكل المكلفين، وعرفه بأنه نظر في تحقيق المناط من حيث هو لمكلف ما، ونوع خاص، وهو إما أن يكون نظرًا بالنسبة إلى التكليف الإلزامي: وهو النظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، أو نظرًا بالنسبة إلى التكليف غير الإلزامي: وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب الأوقات والأحوال والأشخاص.   وهذا التقسيم قد تميز به الشَّاطبي، وهو مما صرح به الشَّاطبي في أغلبه، وبعضه قد فهم من كلامه ولم يصرح به، وهذا التقسيم لتحقيق المناط ليس موجودًا عند الأصوليين بهذا الوضوح، وإن كانت بعض الأمثلة التي يوردها الأصوليون لتحقيق المناط يشير بعضها إلى هذا التقسيم، بينما صرح بعض الأصوليين بجزئيات من هذا التقسيم، وقد أسهب الشَّاطبي في بيان ذلك؛ ولذا فإننا قد أطلنا في بيانه في موضعه من هذا البحث.   ثانيها: تنقيح المناط، وعرفه الشَّاطبي بأن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكورًا مع غيره في النص، فينقح بالاجتهاد؛ حتى يميز ما هو معتبر مما هو مُلغًى، وهو موافق في تعريفه هذا لأكثر الأصوليين، أما حكمه فيرى الشَّاطبي قبوله، وأنه من باب الظواهر، وليس من باب القياس، وهو في قبوله موافق للجمهور، وفي كونه من باب الظواهر وافقه عليه الحنفية وبعض الأصوليين من غيرهم، وخالفه الجمهور.   ثالثها: تخريج المناط، وعرفه بأن يكون النص الدال على الحكم لم يتعرض للمناط، فكأنه أخرج بالبحث، ويعني بذلك أنه استخراج علة الحكم الذي دل عليه النص عن طريق الاستنباط، وهذا التعريف موافق في مضمونه لتعريفات الأصوليين، ويرى الشَّاطبي أن حكم تخريج المناط كحكم القياس، وهذا ما يراه الأصوليون.   ثاني عشر: أن الشَّاطبي يرى أن محل الاجتهاد واسطة مترددة بين شيئين، وهو الظني المتردد بين أصلين واضحين، وقد وافقه في ذلك جمهور الأصوليين.   ثالث عشر: أن الشَّاطبي يرى أن مراتب طالب العلم في تحصيله للعلم ثلاثة، وهي: أولًا: ناقص العلم بالكليات والجزئيات، وهو من ينهي البحث في كل مسألة، ولكنه يبحث عن الحكم والأسرار الجزئية، وهذا لا يجوز له الاجتهاد؛ لعدم أهليته، وهذا محل وفاق.   ثانيًا: العالم بالكليات دون الجزئيات، وهو من انتهى في علمه إلى تحقيق الكليات وتعلَّق بها حتى نسي أو كاد أن ينسى النصوص والفروع الجزئية، والذي ترجح لي هو أن الشَّاطبي لا يجيز اجتهاد صاحب هذا الوصف بإطلاق، وهو بهذا يكون موافقًا لكثير من الأصوليين.   ثالثًا: العالم بالكليات والجزئيات، وهو من تبحر في كليات الشريعة وجزئياتها، ولم يغفله النظر في أحدهما عن مراعاة الآخر، وهذا هو المجتهد الحق، وهو العالم الرباني، الذي يستحق وصف الحكيم والعاقل والفقيه، وهو يجيب السائل بما يليق بحالته، كما أنه يمعن النظر في مآلات الأفعال قبل أن يحكم بالجواب؛ ولذا فلا خلاف في اجتهاده، وهذا ما قرره الأصوليون.   رابع عشر: أن الشَّاطبي سلك في تعداده لشروط الاجتهاد مسلك الاختصار والنظر إلى الغايات، مع مراعاته لشمولية الشريعة وثباتها فيما اشترط.   خامس عشر: أن الشَّاطبي يرى أن من شروط الاجتهاد فهم مقاصد الشريعة، ورأى أن فهمها هو السبب في تنزيل المجتهد منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذا فلا يمكن أن تحصل مرتبة الاجتهاد المطلق إلا بالفقه الكامل لمقاصد الشريعة، والإخلال بهذا الشرط يوقع في الضلالة والبدعة، وما اشترطه الشَّاطبي صرح به بعض الأصوليين، وهو مفهوم من كلام من لم يصرح به.   سادس عشر: أن الشَّاطبي يرى أن من شروط الاجتهاد التمكن من الاستنباط، وهو شرط متمم وخادم لشرط فهم المقاصد، وببيان درجات التمكن من الاستنباط يبين من هو الأهل للاجتهاد ممن ليس كذلك، والتمكن من الاستنباط إنما يكون بتحصيل العلوم والمعارف المعينة على فهم الأدلة الشرعية، وقد قسم الشَّاطبي تلك المعارف إلى قسمين: أولهما: قسم ضروري بالنسبة للمجتهد، ويلزمه الاجتهاد فيه. وثانيهما: قسم ضروري بالنسبة للمجتهد، ولكن لا يلزمه الاجتهاد فيه.   وقد قسمنا المعارف عند الشَّاطبي بصورة أشمل من التقسيم السابق إلى قسمين: أولهما: علوم يحتاج لها المجتهد في اجتهاده، وهي تنقسم إلى القسمين اللذين ذكرهما الشَّاطبي.   وثانيهما: علوم لا يحتاج لها المجتهد في اجتهاده، وبيان ذلك وتفصيله في النقاط الآتية: أولًا: يرى الشَّاطبي أن العلم الذي يجب الاجتهاد فيه هو علم اللغة العربية بجميع علومها إلا أنه يستثنى من ذلك ما سيأتي بيانه في الفقرة الثانية، وهو يرى أن الإخلال بالاجتهاد في اللغة موقِع في البِدَع والضلال، كما أنه يرى أنه في رأيه هذا موافق للأصوليين، وقد بينا أن الأصوليين موافقون له في اشتراط علم اللغة العربية بالنسبة للمجتهد.   ثانيًا: أن الشَّاطبي قد استثنى من علم اللغة العربية الواجب الاجتهاد فيه ثلاثة علوم، وهي: علم غريب اللغة، وعلم التصريف المسمى بالفعل، وعلم الشعر من حيث هو شعر، والشَّاطبي يعني بذلك أن هذه العلوم لا يلزم فيها الاجتهاد، وإن كان بعضها قد يحتاج إليه المجتهد في عملية اجتهاده، وقد تبين لنا أن بعض الأصوليين نص على ما ذكره الشَّاطبي في غريب اللغة، أما في التصريف فإن الأصوليين لا يفرقون بين قسميه، وأما الشعر فلم أرَ فيه تصريحًا ولا تلميحًا، إلا أن الشافعي ذكره في جملة ما يعرفه المجتهد، ولعله يريد بذلك معرفة الشعر؛ لكونه مفسِّرًا لكلام العرب.   ثالثًا: يرى الشَّاطبي أن الاجتهاد إذا كان مرتبطًا بالألفاظ الشرعية بحيث يقوم المجتهد بالاستنباط من النصوص الشرعية ففي هذه الحالة يلزم معرفة اللغة العربية، ولا يلزم معرفة المقاصد، وإن كان الاجتهاد مرتبطًا بالمعاني الشرعية مجردة عن النصوص فلا يلزم معرفة اللغة العربية، وإنما يلزم معرفة المقاصد الشرعية، وقد تبين لنا أن الاجتهاد الذي لا يلزم فيه معرفة اللغة أو المقاصد ليس هو الاجتهاد المطلق.   أما إن كان الاجتهاد مرتبطًا بتحقيق المناط فلا يلزم فيه معرفة المقاصد، ولا معرفة اللغة العربية، وإنما يلزم أن يكون مجتهدًا بما يتوصل به إلى تحقيق محل الحكم.   وما ذكره الشَّاطبي من عدم اشتراط معرفة المقاصد لم أرَ مَن صرح به، وإن كان قد يفهم من بعضهم خلاف ما ذهب إليه الشَّاطبي، أما عدم اشتراط معرفة اللغة في الموضع الذي ذكره الشَّاطبي فقد أشار بعض الأصوليين إلى موافقته على ذلك، وأما عدم اشتراطهما في تحقيق المناط فلا يبدو أن أحدًا يخالف في هذا.   رابعًا: يرى الشَّاطبي أنه لا يشترط الاجتهاد في غير علم اللغة العربية، وعلى هذا فإن بقية العلوم - في نظر الشَّاطبي - معينة في عملية الاجتهاد، إلا أنه يصح تلقيها على جهة التقليد، ومِن أمثلة هذه العلوم: علوم القرآن، وعلوم السنة، وعلم العقيدة، وعلم الأصول، وقد وافق الشَّاطبيَّ علماءُ الأصول في اشتراط معرفة هذه العلوم المعينة على الاجتهاد، وأفاد كلام بعضهم موافقة الشَّاطبي في عدم اشتراط الاجتهاد في بعض هذه العلوم، وأنه يكتفى في تحصيلها بأخذها عن طريق التقليد.   خامسًا: نص الشَّاطبي على بعض العلوم التي لا يحتاجها المجتهد في تأهله للاجتهاد، ومنها علم المنطق، وعلم الهيئة، وعلم الطبيعيات، والتعاليم، وعلم الحروف، ونحو ذلك من العلوم، ويمكن ضبط هذا القسم من خلال فهم كلام الشَّاطبي بأنه كل علم لا يؤدي إلى فائدة عملية، ولا هو مما تعرفه العرب.   سابع عشر: أن الشَّاطبي يرى أن مما يرشح لبلوغ درجة الاجتهاد معرفة مواضع الخلاف، ويعني بذلك معرفة مواقعه ومداركه، ويرى أن هذا الشرط يعتبر شرطًا كماليًّا، وهو لإيقاع الاجتهاد موقعًا صحيحًا، وقد وافقه الأصوليون على أهمية معرفة مواضع الخلاف، كما وافقه بعضهم على كونه شرطًا كماليًّا.   ثامن عشر: أن لفظ الشَّاطبي أوهم عدم اشتراط الإيمان بلوغ منزلة الاجتهاد، وهذا خلاف ما نقل من الإجماع، والذي ظهر لي أن الشَّاطبي لا يرى اشتراط الإيمان في الاجتهاد في تحقيق المناط، لا في الاجتهاد في أحكام الشريعة.   تاسع عشر: أن الشَّاطبي لا يرى اشتراط العدالة لبلوغ منزلة الاجتهاد، ولكنه يرى أن العدالة شرط لقبول قول المجتهد، وهذا موافق لما صرح به الجمهور.   عشرون: أن الشَّاطبي ليس له تعريف للمجتهد، ولكن يمكن من خلال التخريج على تعريف الاجتهاد أن يعرف المجتهد بأنه من استفرغ وسعه في تحصيل العلم أو الظن بالحكم.   حادي وعشرون: أن الشَّاطبي يرى أن من أهم أعمال المجتهد عملية الاجتهاد، وأن الاجتهاد لغير القادر عليه غير معتبر، كما أن من أهم أعماله الفتوى؛ ولذا كان المجتهد المفتي في نظر الشَّاطبي هو القائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، والوارث عنه مهمة البيان، كما يرى أن المجتهد يجب عليه الانتصاب للفتوى إن لم يكن ثم غيره ممن يقوم مقامه، وقد وافقه على ذلك الأصوليون.   ثاني وعشرون: أن الشَّاطبي يرى وجوب النظر في المآلات على المجتهد، وأن ذلك أصل من أصول الشريعة، وأنه متمم للنظر في المقاصد الشرعية، وأن النظر في المآل من صفات الراسخين في العلم، وقد أشار إلى ما ذكره الشَّاطبي من أهمية النظر للمآلات بعض الأصوليين.   ثالث وعشرون: أن الشَّاطبي يرى وجوب نظر المجتهد إلى عمل المتقدمين مما ورد في السنة، أو مما عمل به الصحابة والتابعون، وأن يتحرى في عمله واجتهاده مراعاة ما داوموا عليه من العمل، فما وافق عملهم فهو السنة، ومن خالف ما داوموا عليه من العمل فهو على خطأ وخطر، وأن من خالف عملهم عن اجتهاد قصر فيه، أو لم يكن له أهل فهو آثم، وقد صرح بعض الأصوليين بما ذكره الشَّاطبي من أهمية النظر لعمل المتقدمين.   رابع وعشرون: أن الشَّاطبي يرى وجوب معرفة الفرق بين المصالح والبدع بالنسبة للمجتهد، وأن ذلك يتلخص في أن المصالح ملائمة لتصرفات الشريعة، ولا تكون إلا فيما يعقل، وهي راجعة إلى حفظ أمر ضروري، أو إلى رفع حرج لازم في الدين، والبدع بعكس ما سبق؛ فهي غير ملائمة لتصرفات الشرع، وهي تدخل فيما لا يعقل، ولا تكون لحفظ ضروري، كما أنها مضادة للتخفيف، وقد يلتمس ممن قسم البدع إلى حسنة وقبيحة مخالفتهم لما ذكر الشَّاطبي.   خامس وعشرون: أن الشَّاطبي يرى أن التعصب لا يجوز من مجتهد أو مقلد، وهذا ما صرح به غيره من العلماء.   سادس وعشرون: أن الشَّاطبي قد وقف موقفًا صُلبًا أمام اتباع الهوى، وهو من أشد العلماء موقفًا أمام كل ما يفضي إليه؛ ولذا فإنه قد اجتهد في غلق الأبواب المفضية إليه؛ حتى يكون الإنسان عبدًا لله اختيارًا كما أنه عبد لله في حال الاضطرار، واتباع الهوى لا يجوز بحال، سواء من مجتهد أو من مقلد، وقد أفاض الشَّاطبي في حديثه عن الهوى وتبيينه لخطورة أمره.   سابع وعشرون: أن الشَّاطبي يرى وجوب حذر المجتهد من تتبع الرخص، وهي الأقوال التي تتميز باليُسر والتخفيف، ولكنها مخالفة لصحيح الأدلة الشرعية؛ وذلك لأن تتبعها مفضٍ إلى اتباع الهوى، فكان إغلاق الباب أمام اتباعها إغلاقًا للباب أمام اتباع الهوى، ولا يقتصر الأمر على المجتهد؛ إذ المجتهد والمقلد في ذلك سواء، وقد نقل على ذلك إجماع السلف، ونص بعض الأصوليين على خلاف ذلك في المقلد خاصة.   ثامن وعشرون: أن الشَّاطبي يرى أن مما يجب على المجتهد معرفة الفرق بين الاستحسان والبدع؛ وذلك أن الاستحسان المستند إلى نظر العقل المجرد ليس من جملة الأدلة الشرعية، بل هو استحسان بدعي لا يمت للدين بصلة، وأما الاستحسان الشرعي فهو ما رجع إلى العمل بأقوى الدليلين، ولما أن كان الأمر مزلة قدم، ألزم الشَّاطبي بوجوب معرفة الفرق، ولم أرَ أحدًا من الأصوليين أشار إلى هذه المسألة.   تاسع وعشرون: أن الشَّاطبي يرى جواز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم عقلًا وشرعًا، كما يرى وقوعه، وأما وقوع الخطأ في اجتهاده فهو جائز، إلا أنه لا يُقَرُّ عليه، وقد وافقه على ذلك جمهور الأصوليين.   ثلاثون: أن الشَّاطبي يرى أن المجتهد لا عصمة له، وأن العلماء قد يخطئون، بل وقد يقعون في المعاصي، وحينئذ فاتباع قول المجتهد وانقياد الناس إليه في الحكم إنما من حيث كونه مبلغًا عن الشرع ليس غير، وهذا محل وفاق، إلا ممن شذ من أهل البدع؛ كالشيعة، وغيرهم.   حادي وثلاثون: أنه يستشف من كلام الشَّاطبي عدم جواز التقليد بالنسبة للمجتهد، وهذا ما عليه الجمهور.   ثاني وثلاثون: أن الشَّاطبي يرى أن المجتهد لا يكون له قولان في مسألة واحدة في وقت واحد، وعلى هذا فهو موافق للإجماع، وإن فهم الخلاف من بعضهم.   ثالث وثلاثون: أن الشَّاطبي يرى أن تخير المجتهد بين الأقوال قول مخالف لقواعد الشريعة، ومفضٍ إلى الهوى، وقد وافقه على ذلك كثير من الأصوليين.   وبما أن الشَّاطبي يقول بالمنع من التخيير بين الأقوال، فإنه يرى أن الواجب على المجتهد عند التعارض هو التوقف والبحث عن مرجح، وقد وافقه على ذلك جماعة من الأصوليين.   رابع وثلاثون: أن الشَّاطبي يرى أن الاجتهاد في تحقيق المناط لا ينقطع إلى قيام الساعة، أما بقية أنواع الاجتهاد فيرى جواز خلو الزمان من مجتهد فيها، وقد وافقه أكثر الأصوليين في ذلك.   خامس وثلاثون: أن الشَّاطبي قد نظر إلى مسألة الحق هل هو واحد أو متعدد بنظرين: أولهما نظر كلي، وهو نظر إلى المسألة من جهة تعلقها بمقاصد الشريعة، والآخر نظر جزئي، وهو نظر للمسألة من جهة تعلقها بالمجتهدين.   أما بالنظر الكلي فإنه يرى أن الشريعة تدل على القول الواحد، وعليه فإن المصيب واحد، ومن عداه فهو مخطئ.   وأما بالنظر الجزئي فهو يرى أن كل مجتهد مصيب لا بالنسبة إلى حقيقة الأمر، ولكن بالنسبة إلى نظر المجتهد ومن قلده، وقد وافق الشَّاطبي إجماع العلماء في أن المصيب واحد في أصول الدين، وأما في الفروع فالشَّاطبي قد وافق في رأيه ذلك جمهور الأصوليين.   ويرى الشَّاطبي أن الخلاف بين المصوبة والمخطئة خلاف لفظي، من جهة أن الحق عند الله لا يتعدد، ومن حيث اتفاقهم بأن الواجب على المجتهد هو ما توصل إليه، وهو معنوي من جهة أن المصوبة لا يثبتون حكمًا لله، وإنما الحكم عندهم يتبع الاعتقاد بخلاف المصوبة، فإنهم يثبتون لله حكمًا معينًا، مَن أصابه أصاب الحق، وقد وافقه على ذلك بعض الأصوليين.   كما أن الشَّاطبي يرى أن منشأ الخلاف في مسألة التصويب والتخطئة مسألة: هل لله حكم في الوقائع الشرعية أو لا؟ وعلى هذا أكثرُ الأصوليين.   والشَّاطبي يرى أن المصالح تجري على القول بالتصويب، كما أنها تجري على القول بالتخطئة، وخالفه في ذلك العز بن عبدالسلام وتلميذه القرافي، والذي ظهر لي أن خلافهم لا يرِدُ على محل واحد؛ فالشَّاطبي يرى أن التصويب في قول مَن قال به ليس في نفس الأمر، وإنما في ظن المجتهد ومن قلده، أما العز والقرافي فإنهما يريان أن التصويب واقع في نفس الأمر، وعلى قولهما لا يمكن أن يكون القول بالمصالح موافقًا للقول بالتصويب.   سادس وثلاثون: أن الشَّاطبي يرى جواز تجزؤ الاجتهاد في فن دون آخر، أو في باب دون باب، أو مسألة واحدة دون أخرى، وقد وافقه على ذلك جمهور الأصوليين.   سابع وثلاثون: أن الشَّاطبي يرى أن خطأ الحاكم لا يخلو من حالتين: أن يكون الحكم من المسائل الاجتهادية ولم يخالف فيه نصًّا أو إجماعًا أو بعض القواطع، فهنا لا ينقض حكمه؛ لأن النقض يؤدي إلى عدم استقرار الأحكام.   أو يكون الحكم قد خالف شيئًا مما سبق، فهنا ينقض الحكم.   وعلى هذا: فالشَّاطبي يرى النقض في المسائل الاجتهادية، وما قرره الشَّاطبي في هذه المسألة هو قول الجمهور، والشَّاطبي يرى النقض بالنص، وهو حسبما ظهر لي النص القطعي ثبوتًا ودلالة، وقد وافقه على النقض بالنص جمهور العلماء، وعبارة أكثرهم تفيد قصر الحكم على النص القطعي ثبوتًا ودلالة؛ ولذا فينقض بالكتاب والسنة المتواترة حسب الشرط السابق، وهو قطعية الدلالة، ولا ينقض بخبر الآحاد، ووافقه على هذا كثير من الأصوليين، وأما الإجماع فينقض بالقطعي منه، وقد وافقه على ذلك جماعة من الأصوليين، وأما القواعد فالذي ظهر لي أن الشَّاطبي يرى النقض بها إن أفادت القطع، وقد وافقه في ذلك جماعة من المالكية وغيرهم.   ثامن وثلاثون: أن رجوع المجتهد عن رأيه الذي انتهى إليه إلى رأي آخر - حسبما يرى الشَّاطبي - لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون رجوعه عن محض الهوى، ولغير سبب شرعي، فهذا الرجوع غير جائز، والحالة الثانية: أن يكون رجوعه لسبب شرعي؛ كأن يتبين له من الأدلة خلاف ما ذهب إليه، فهذا الرجوع واجبٌ، وعلى هذا عامة العلماء.   تاسع وثلاثون: أن الشَّاطبي يرى أن الخطأ في الاجتهاد لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يقع في الكلي، والخطأ في الكلي شديد، وفي هذا الموطن ورد التحذير من زلة العالم؛ لأنها تكون معول هدم للدين، ومع كون الخطأ في الكلي يعتبر زلة لا يعتد بها؛ لوقوعها في غير موقع الاجتهاد، إلا أنه يرى أن المجتهد المخطئ غير آثم بسبب زلته، بل هو مأجور على اجتهاده، ولا يشنع عليه بسبب زلته، ولا ينتقص من أجلها، ولا يعتقد أنه أقدم عليها قصدًا، وهو بهذا مخالف لِما عليه جمهور الأصوليين، وقد وافقه في رأيه بعض الأصوليين، ونقل عن السلف.   والحالة الثانية: أن يقع في الجزئي، والخطأ في هذا أهون من سابقه؛ ولذا فخطأ العالم فيه معفوٌّ عنه، وهو مأجور على اجتهاده الذي أخطأ فيه، وهذا ما يراه الجمهور.   أربعون: أن الشَّاطبي تعرض لجملة من أسباب الخلاف، وهي مقسمة إلى قسمين: الأول: أسباب نقلها عن غيره، وأقره عليها، ويندرج ضمن هذا القسم ما نقله الشَّاطبي عن ابن السيد البَطَلْيَوْسي من الأسباب الباعثة على الخلاف؛ كالاشتراك في الألفاظ، أو دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز، أو بين الاستقلال بالحكم وعدمه، أو بين العموم والخصوص.   والثاني: أسباب ذكرها الشَّاطبي دون أن ينقلها نقلًا خاصًّا عن غيره، وهي: أولًا: ألا يبلغ العالم الأصل أو الدليل فيخالفه لعدم العلم به.   ثانيًا: أن يخالف العالم الأصل بنوع من التأويل، وهو فيه مخطئ.   ثالثًا: تحقيق المناط؛ ذلك أن كل دليل ينبني على مقدمتين: الأولى شرعية ترجع إلى نفس الحكم الشرعي، والثانية نظرية راجعة إلى تحقيق المناط، والمقدمة الثانية هي مثار كثير من الخلاف؛ إذ يقع التشابه في تطبيقها وتحقيق وجودها.   حادي وأربعون: أن التقليد في اللغة من قلد، وهي كلمة تدل على تعليق شيء بشيء، وأما في الاصطلاح فليس للشاطبي تعريف له، ويمكن تعريفه بأنه التعلق بمذهب من ليس قوله حجة بنفسه.   ثاني وأربعون: أن الشَّاطبي يقسم التقليد إلى قسمين: الأول: تقليد جائز في الجملة، ويسميه تقليدًا، واتباعًا، واقتداءً، وتأسيًا، وذلك مثل تقليد الجاهل للعالم المجتهد.   والثاني: تقليد ممنوع، ويسميه تقليدًا، واتباعًا، وتأسيًا، وذلك مثل تقليد الجاهلية الممقوت، والذي بدا لي أن الأصوليين موافقون للشاطبي في هذا التقسيم.   ثالث وأربعون: أن الشَّاطبي لا يرى فرقًا بين التقليد والاتباع، فهو يطلق على التقليد اتباعًا، والعكس، وهذا هو الواضح من صنيع أكثر الأصوليين.   رابع وأربعون: أن الشَّاطبي يطلق على اتباع مَن كان حجة في نفسه اتباعًا، ولا يطلق عليه مسمى التقليد، وقد وافقه على ذلك أكثر الأصوليين.   خامس وأربعون: أن الشَّاطبي يرى جواز التقليد في الجزئيات، وأن فرض العامي هو التقليد، وهذا موافق لرأي جمهور الأصوليين.   سادس وأربعون: أن الشَّاطبي يرى أن التقليد في البدع لا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون المقلد محصلًا لشيء من العلم، وهو مَن لم يستنبط بنفسه، وإنما اتبع غيره من المستنبطين، لكنه أقر بالشبهة واستصوبها، ودعا إليها، واستدل لها إما إجمالًا أو تفصيلًا؛ فهو في هذه الحالة آثم، وإثمه يختلف باختلاف استدلاله، فليس مَن استدل إجمالًا كمن استدل تفصيلًا.   والثانية: أن يكون المقلد عاميًّا صِرفًا، فهو يقلد غيره على البراءة الأصلية، فهنا لا يخلو: إما أن يكون ثَمَّ مَن هو أولى ممن قلده هذا المقلد، فإن كان الأمر كذلك فإن المقلد آثم، وإن كان ليس هناك مَن هو أولى ممن قلده، فحكمه كحكم أهل الفترة: وأهل الفترة محل خلاف بين العلماء؛ فمنهم مَن يعذِرهم مطلقًا، ومنهم من يفصِّل فيقول: مَن خالط أهل عصره وما هم عليه فهو آثم، ومن لم يخالطهم فهو غير آثم، ولم يرجح الشَّاطبي رأيًا له في هذه المسألة، وما ذكره الشَّاطبي في القسمين قد وافقه عليه جماعة من العلماء.   سابع وأربعون: أن الشَّاطبي يرى أن أفعال المجتهد لا تخلو من حالتين: الأولى: أن تكون بقصد الإفهام في معهود الاستعمال؛ فأفعاله في هذه الحالة كأقواله الصريحة.   الثانية: أن تكون لغير ذلك، بل بما يقتضيه كونه قدوة وأسوة يقتدى به ويهتدى به، وفي هذه الحالة يرى أن المجتهد محل للاقتداء بأفعاله كما أنه محل للاقتداء بأقواله، ولكن الشَّاطبي لا يطلق القول في التقليد بالأفعال، بل إنه أشار إلى شروط لا بد من توفرها في المقتدى به، أو فيما يحصل به الاقتداء من الأفعال، وهي: أولًا: أن يكون المجتهد أهلًا للاقتداء، بأن يكون مجريًا الأحكام الشرعية في تصرفاته على موضوعاتها في أنفسها، وفي لواحقها، وسوابقها، وقرائنها، وسائر ما يتعلق بها شرعًا.   ثانيًا: أن يكون في فعله موافقًا للشرع، فمتى ما كانت أفعاله على قانون الشرع كان مقبول الفعل.   ثالثًا: أن يتضح قصد العالم أو يتبين من خلال الموافقة لعمله، أو يغلِب على الظن قصده لذلك الفعل، وأنه لم يفعل هذا الفعل مجردًا، وإنما فعله اتباعًا.   وما ذكره الشَّاطبي في الحالة الأولى موافق لِما عليه الأصوليون، وما ذكره في الحالة الثانية وافقه عليه جماعة من الأصوليين.   ثامن وأربعون: أن الشَّاطبي يرى جواز التقليد في تحقيق المناط بأنواعه، سواء في تحقيق المناط النوعي المستند إلى أهل الخبرة أو إلى العلماء، أو في تحقيق المناط الشخصي العام أو الخاص، إلا أنه لا يجيز التقليد في تحقيق المناط العام في حالة واحدة، وهي أن يقلد العامي في تحقيق مناط مسألته شخصًا آخر في مناط حققه لنفسه؛ لأن كل مناط مرتبط بشخصه دون غيره، وما ذكره الشَّاطبي هنا قد وافقه عليه الأصوليون إما تصريحًا أو تلميحًا، كما بُيِّنَ في موضعه من البحث.   تاسع وأربعون: أن الشَّاطبي قد بين حكم تقليد طالب العلم في مراحل طلبه للعلم؛ ذلك أنه لا يخلو من حالات: أولًا: أن يكون عالمًا بالكليات والجزئيات، والشَّاطبي يرى أن هذا هو وصف العالم المجتهد؛ فهو الأحق بالتقليد؛ ولذا فلا خلاف في اجتهاده، وهذا ما قرره الأصوليون.   ثانيًا: أن يكون عالمًا بالكليات دون الجزئيات، والشَّاطبي يرى عدم جواز تقليده بإطلاق في هذه الحالة، وهو بهذا يكون موافقًا لكثير من الأصوليين.   ثالثًا: أن يكون ناقص العالم بالكليات والجزئيات، والشَّاطبي في هذه الحالة يرى عدم جواز تقليده، وقد وافقه الجمهور على هذا.   خمسون: أن الشَّاطبي يرى أن تقليد الجاهل والعامي الصرف من اتباع البدعة والضلالة، وما ذكره الشَّاطبي في هذه المسألة محل وفاق.   حادي وخمسون: أن الشَّاطبي قد فصل القول في تقليد المخالف لمقتضى العلم، فهو يرى أنه لا يخلو من حالتين: الأولى: أن تقسط به المخالفة عن رتبة العدالة، وهنا لا يصح تقليده.   الثانية: ألا تسقط به المخالفة عن رتبة العدالة، وهنا يصح تقليده فيما وافق دون ما خالف، ومع كونه صحح الاقتداء به فيما وافق، فإنه أطلق القول بأنه لا يصح الاقتداء به، والذي يريده الشَّاطبي بعدم الصحة هنا عدم الانتفاع بفتواه؛ لأنه ليس أهلًا كامل الأهلية للاقتداء به؛ ولأن الناس غالبًا لا يقلدون إلا مَن وفَّق بين قوله وفعله، وما ذكره الشَّاطبي في هذه المسألة قد وافقه عليه الأصوليون.   ثاني وخمسون: أن الشَّاطبي يرى جواز تقليد المجتهد الميت، وهو بذلك موافق للجمهور.   ثالث وخمسون: أن الشَّاطبي يرى جواز تقليد الحاكم، سواء فيما كان منتصبًا فيه للاقتداء، أو في غيره، وما ذكره من تقليد الحاكم فيما انتصب فيه للاقتداء، وهو ما كان من فعله في مقطع الحكم، محل إجماع، وأما ما ذكره من تقليده في بقية أفعاله، فقد وافقه عليه جمهور الأصوليين.   رابع وخمسون: أن الشَّاطبي يرى أن صاحب الحال إن كان ناقص العلم في الكليات والجزئيات، فإنه لا يقلد، وإن كان كامل العلم فيهما فإنه يقلد، وإن كان تام العلم بالكليات دون الجزئيات فيرى جواز تقليده فيما هو فيه صاحب حال، وممن كان صاحب حال مثله، وهذه المسألة لم يطرقها الأصوليون؛ لمخالفة نمطها لنمط الأصول، والذي يترجح أن صاحب الحال لا يجوز تقليده في هذه الحالة.   خامس وخمسون: أن الشَّاطبي يرى ضرورة اتباع المقلد لمذهب معين، وأن ذلك واجب عليه، خروجًا من اتباع الهوى واقتفاء الرخص، وما رآه الشَّاطبي خلاف ما عليه الجمهور، والذي ترجح لي في المسألة قول الجمهور، وأن التمذهب جائز وغير واجب.   سادس وخمسون: أن الشَّاطبي يرى أن للمقلد إذا تعدد عليه المفتون أن يتخير أيًّا منهم فيقلده، ولا يجب عليه البحث عن أعلمهم، وقد وافقه على ذلك جمهور الأصوليين.   سابع وخمسون: أن الشَّاطبي يرى أن المقلد إذا اختلفت عليه الفتوى فليس له أن يتخير منها، بل عليه أن يجتهد في الترجيح، وأن تخير المقلد بين الأقوال مفضٍ إلى اتباع الهوى، ومخالف لأصول الشريعة المؤصلة للقول الواحد، والناهية عن الاختلاف، كما أن الترجيح بين المجتهدين ممكن للمقلد بحسب قدرته وطاقته، ويكون ذلك بسؤاله عنهم أو نحو ذلك، وقد وافق الشَّاطبيَّ على ذلك كثيرٌ من الأصوليين.   ثامن وخمسون: أن الشَّاطبي قد بين طريقة الترجيح بين العلماء بطريقة فريدة من نوعها، وأفاض في ذلك بما لا يكاد يوجد عند غيره، وقد قسم الترجيح إلى نوعين، وهما طريقان للترجيح: وأولهما: الترجيح العام: وهو الترجيح بين المذاهب المتبوعة، والترجيح بهذا الطريق يكون على نوعين: نوع جائز: وهو الترجيح إذا كان متوجهًا على ذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة، والإعراض عن ذكر النقائص والوقوع في الآخرين، وهذا النوع من الترجيح جائز لا شبهة فيه.   ونوع فاسد: وهو الترجيح بذكر النقائص والمعايب والتعرض لمثالب الآخرين والوقيعة فيهم، وهذا الطريق طريق محرَّم، وليس من شأن العلماء، ولا من وصفهم.   وثانيهما: الترجيح الخاص: وهو الترجيح بين أعيان العلماء بحسب مطابقة قول كل منهم لفعله، والعلماء ينقسمون بحسب مطابقة القول للفعل إلى قسمين: الأول: من كان منهم قوله مطابقًا لفعله، وهو الأهل للاقتداء؛ لاتصافه بوصف العلم.   والثاني: العدل الذي لا يكون كامل الامتثال والإنصاف بوصف العلم، لكنه لم يسقط إلى حضيض الفسق، وهذا أقل شأنًا من صاحب القسم الأول، ويقتدى به فيما وافق دون ما خالف.   وقد بين الشَّاطبي كيفية النظر في مطابقة القول للفعل، وأنه ينظر إلى الأوامر والنواهي ومطابقة الفعل فيها للقول، ونتيجة النظر لا تخلو من حالتين: الأولى: أن يطابق القول الفعل فيهما؛ فاتباع هذا العالم أولى من اتباع غيره.   والثانية: أن يخالف فيهما القول الفعل، فإن كان ذلك مخلًّا بشروط العدالة فليس هذا العالم أهلًا للاقتداء به، وإنما يقلد من كان متصفًا بوصف العدالة، وإن لم يخلَّ العالمان بوصف العدالة واشتبه في نظر المقلد من هو الأولى بالتقليد فإنه يمكنه الترجيح بالنظر إلى جهة النواهي فإنها أرجح من جهة الأوامر، فمن كان منهم يجتنب النواهي - وإن كان يخل بالأوامر - فهو أولى ممن يخل بالنواهي ويتبع الأوامر.   ولم أطلع على أحد من العلماء فصل كهذا التفصيل، ولا توسع في بحث هذه المسألة كما فعل الشَّاطبي، أما أصل الترجيح وأنه يكون بالعلم وبذكر الفضائل دون التعرض للمثالب فإن العلماء يشيرون إلى ذلك، وعلماء الأصول خاصة قد أشاروا إلى أن الترجيح بين المفتين إنما يكون بالأعلمية ونحوها.   تاسع وخمسون: أن الشَّاطبي يرى أن المقلد إذا فقد المجتهد فلا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون النقل عن العلماء موجودًا، فيلزم المقلدَ في هذه الحالة أن يأخذ بفتاويهم، ولا يجوز له بحال اتباع عامي مثله. والثانية: أن يفقد النقل عنهم بالكلية، وهنا يسقط التكليف بالعمل عن المقلد.   وقد وافق الشَّاطبي في حكم الحالتين جماعة من الأصوليين.   هذا ما يمكن تلخيصه واستنتاجه من هذا البحث، ولا شك أن هذا التلخيص لا يمكن أن يكون وافيًا بالمراد؛ لِما في ثنايا البحث من آراء ونقاشات ووقفات هي من الأهمية بمكان، غير أن ما لا يدرك كله لا يترك ما أمكن منه.   ولعله قد اتضح للناظر من خلال هذا العرض أن آراء الشَّاطبي في علم الأصول قد تميزت بميزة التفريع والتقسيم، ومن خلال الاطلاع على آرائه واستدلاله في ثنايا هذا البحث يطلع الناظر أيضًا على تميزه في بيانه للمسائل، ونظرته المتعمقة في بحثه لها، والأهم من ذلك كله ربطه الواضح بين علمي الأصول والمقاصد الشرعية، وهذا غاية ما يحتاجه الناظر في الأحكام الشرعية الأصولية والفقهية؛ ولذا فإن بحث بقية آراء الشَّاطبي في علم الأصول يضفي نظرة جديدة ومحكمة لعلم الأصول، وهو أمر جدير بالعناية والاهتمام من قِبَل الباحثين.   وأخيرًا، أسأل الله أن يتقبل منا أعمالنا، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفع بهذا البحث كاتبه وقارئه ومن رام الاستفادة منه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



شارك الخبر

المرئيات-١