أرشيف المقالات

العام والخاص والمطلق والمقيد

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2العام والخاص والمطلق والمقيد   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول وآله وصحبه، وبعد: العام والخاص والمطلق والمقيد من المفاهيم اللغوية والأصولية التي اعتنى بها علماء الأصول، وضبْطُها ضروري من أجل استنباط الأحكام، فهو علم جليل مستنبَط من كتاب الله المنان وسنة نبيه العدنان، ومن اللغة العربية ومنطق الإنسان، وهي من المفاهيم التي أسهب فيها الأصوليون مع اختلافاتهم فيها.   فما أهم معاني هذه المفاهيم؟ وما فروقها؟ العام: كما يدل عليه اسمه لغة، فهو ما يشمل أو كما قال الجويني ما عمَّ شيئين فأكثر من غير حصر، واصطلاحًا: هو اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [الحجر: 45]، فلفظ المتقين يعُم فردين فما فوق.   وللعام ألفاظ موضوعة له من أكثرها تداولًا: أولًا: الاسم المعرف بالألف واللام؛ كقوله تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [العصر: 1 - 3]، واسم الجمع المعرف باللام؛ نحو قوله تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 5]، والأسماء المبهمة (كمَن) فيما يعقل، و(ما) فيما لا يعقل؛ كقوله تعالى: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 197]، فهذا عام يشمل جميع الخلق"؛ والنفي في النكرات، وهي من ألفاظ العموم؛ كقولنا: "لا أحد في الدار"؛ انظر: شرح ورقات الإمام الجويني في أصول الفقه.   والنهي في النكرات؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجلس حتى تصلي ركعتين"، والمفرد المضاف؛ كقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَ ﴾ [النحل: 18]؛ أي: جميع نِعم الله.   تنبيه: أنواع العام: ينقسم العام إلى عام غير مخصوص، وعام مخصوص، وعام يُراد به الخصوص، وخاص يُراد به العمومُ.   العام غير المخصوص: هو الذي لم يُستثنَ منه شيء؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 75]، فلا يوجد شيء لا يعلمه الله.   وأما العام المخصوص، فهو الذي استُثني منه بعضُ أفراده؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى..."، فعموم الأمة في الجنة والذين أبَوا اتباع النبي في النار.   وأما العام المراد به الخصوص، فهو العام في لفظه الخاص في معناه؛ كقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا ﴾ [آل عمران: 173]، فالمقصود بالناس هنا رجل واحد، وهو نُعيم بن مسعود الثقفي، الذي ثبت أنه صاحب هذا القول.   وأما الخاص الذي يُراد به العموم، فهو الخاص في لفظه العام في معناه؛ كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ [الأحزاب: 1]، فهذا الأمر في لفظه خاص بالنبي، وفي معناه موجَّه لعموم الناس.   أما الخاص لغةً، فهو ضد العام، واصطلاحًا هو "اللفظ الدال على محصور بشخص أو عدد؛ كأسماء الأعلام والإشارة والعدد"، انظر تعريف الشيخ العثيمين في "الأصول من علم الأصول" (من مكتبة الشيخ، إعداد موقع روح الإسلام).   أما التخصيص الذي ضد التعميم، فهو إخراج بعض أفراد العام، انظر تعريف الشيخ العثيمين في المرجع السابق، فهو قصر العام على بعض أفراده، أو تمييز بعض الجملة؛ أي: إخراجه كإخراج للمعاهدين من قوله تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 5]، وأما المُخصص، فيُطلق على الدليل الذي حصل به التخصيص.   وأقسام المخصص نوعان: الأول: المخصص المتصل، وهو ما لا يستقل بنفسه بل يكون مذكورًا مع العام، وهذا المخصص المتصل على ما ذكره الإمام الجويني ثلاثة أنواع: أحدها: الاستثناء؛ نحو: جاء الفقهاء إلا زيدًا، وثانيها: الشرط، نحو: أكرِم العلماء إن صلحوا، وثالثهما: التخصيص بالصفة؛ نحو: أحسِن إلى الفقراء المتعففين.   الثاني: المخصص المنفصل، وهو ما يستقل بنفسه، ولا يكون مذكورًا مع العام، بل منفردًا؛ انظر: التحقيقات في شرح الورقات؛ للحسين الكيلاني المعروف بابن قاوان، ص (259-279) في مقال في "إسلام ويب"، بعنوان "العام والخاص..
معناهما..
وأقسامهما".   ويكون بالقرآن أو السنة، أو الإجماع أو القياس، أو العُرف أو العقل والحواس؛ مثال القرآن: قوله تعالى: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ [القصص: 88]، خصَّص قوله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]؛ أي: باستثناء الله تعالى، ومثال السنة: قوله عليه الصلاة والسلام: "أحل لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد، والكبد والطحال"، خصَّص قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ﴾ [المائدة: 3]، وأما مثال الإجماع، فقد أجمع العلماءُ على أن الماء الذي غيَّرت النجاسة لونَه أو طَعمه أو رائحته، لا يصلح للعادة ولا العبادة، خصَّص قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الماء طَهور لا يُنجسه شيء".   وأما مثال القياس، فذهب العلماء إلى أن العبد الزاني له نصف جلد الحرِّ؛ قياسًا على الأمَة التي صرَّح القرآن أن عليها نصف حدِّ الحرة إن ارتكبت فاحشة، في سورة النساء، فهذا القياس خصَّص قوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [النور: 2].   وأما العرف، فقد تعارف الناس على أن الدابة هي الحيوان صاحب القوائم الأربعة، خصَّص قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ﴾ [النور: 45].   وأما التخصيص بالعقل والحواس، فقد دل العقل والحواس على أن الريح التي أُرسلت على القوم الظالمين لم تُدمِّر الجبال والأرض، خصَّص قوله تعالى: ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ [الأحقاف: 25].   أما المطلق والمقيد اللذان يعتبران ضروريان كما ذكرنا في استنباط الحكم من النص الشرعي، فهما قد يلتبسان على طالب العلم ولا يفرِّق بين الكلام مطلقًا، كان أم عامًّا، أم مقيدًا، أم خاصًّا، والتفريق بينهما سهل ويسير، فالعام ما شمل فردين فما فوق، والمطلق يشمل شيئًا واحدًا، فإذا قلت: الرقاب، فهو عام يشمل رقبتين فما فوق، وإذا قلت: رقبة، فهو مطلق يشمل رقبة واحدة، أو نقول العام والخاص في الأفراد، والمطلق والمقيد في الأوصاف.   والمطلق لغة هو الإرسال؛ أي: الذي ليس فيه قيدٌ، وله تعريفات اصطلاحية متنوعة، منها ما عرَّفه ابن قدامة بقوله: "المطلق المتناولُ لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه"، انظر مقال بشبكة الألوكة بعنوان: المطلق والمقيد في الشريعة، مفهومهما، وحكمهما، والعلاقة بينهما لإبراهيم السلمي.   ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ [يس: 20]، فلفظ رجل مطْلق غير مقيد باسم ولا عِرق، ولا سن ولا لون، ولا حالة اجتماعية.   أما المقيد، فهو لغة مقابل للمطلق، إذا قُيِّدت البهيمة فيعني أنها كُبحت حتى لا تتحرك بحرية، واختلف فيه الأصوليون اصطلاحًا؛ لكونهم اختلفوا كذلك في تعريف المطلق، فعرَّفوه مثلًا بوجود عارض يقلل من شيوع المطلق، انظر المقال المذكور بشبكة الألوكة.   فالمقيد واجب العمل به إذا كان النص مقيدًا، إلا إذا ثبت دليلٌ يفيد عدم اعتبار القيد؛ كتقييد الصيام بالتتابع في كفَّارة الظهار، وكفارة القتل خطأً؛ يقول الله تعالى: ﴿ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ﴾ [النساء: 92]، حيث هاتان الآيتان مستقلتان، وتحويان تقييد الصيام بالتتابع، وعليه ينبغي في هذه الحالة العمل بالقيد، ولا يجزئ إلا صيام شهرين متتابعين، ولو فرَّقهما لم يكن مجزئًا؛ انظر المرجع السابق.   وهناك تفاصيل وصور لحمل المطلق على المقيَّد؛ فإذا اتفقا مثلًا في الحكم والسبب، فإنه حينئذٍ يُحمل المطلق على المقيَّد بالاتفاق؛ كما في قوله جل وعلا: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ ﴾ [المائدة: 3]، هذا مطلق، وفي قوله جل وعلا: ﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ﴾ [الأنعام: 145]، هذا مقيَّد بالمسفوح، فهو المحرم؛ لأن الوصف هذا قَيْد، فيُحمل المطلق على المقيَّد بالاتفاق؛ للاتحاد في الحكم والسبب، انظر فتوى في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور عبدالكريم بن عبدالله الخضير بعنوان: الفرق بين العام والمطلق، والمقيد والخاص، والشرط والركن.   ووجه اتفاق الحكم في كلا الآيتين تحريم الدم، وأما وجه اتفاق السبب، فكلاهما في بيان حكم الدم الذي يُعد واقعة الحكم؛ أي: سببه.   ويُحمل المطلق على المقيد إذا اتَّفقا في السبب، واختلفا في الحكم؛ كتقييد قطعية السارق في ربع دينار؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُقطع يد السارق في أقل مِن رُبع دينار"، فهذا النص متفق مع الآية في السبب الذي هو السرقة، ومختلف معها في الحكم، فالآية أطلقت المسروق والحديث قيَّده في ربع دينار فما فوق.   وأما إذا اختلفا في الحكم والسبب، فلا يُحمل المطلق على المقيد إجماعًا؛ كغسل اليدين في الوضوء مع موضع القطع في السرقة، فلا يمكن أن نحمل آية قطع اليد على غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء، لاختلافهما في السبب والحكم.   فاختلاف السبب في الآية الأولى السرقة، وفي الآية الثانية الوضوء، واختلاف الحكم في الآية الأولى القطع، وفي الآية الثانية الغسل.   ولا يُحمل المطلق على المقيد إن اتفقا في الحكم، واختلفا في السبب على القول الراجح؛ كآية التيمم مع آية الوضوء، فحكمهما واحد الذي هو الطهارة، وسببهما مختلف، فسبب التيمم المسح، وسبب الوضوء الغسل، فلا يمكن أن يُحمل التيمم على صفة الوضوء.   وعمومًا فهذا المبحث في علم أصول الفقه، العام والخاص والمطلق والمقيد، ضروري في منطق تنزيل الأحكام من النصوص الشرعية، بالرغم من الاختلافات بين علماء هذا العلم، ولا يستطيع أصولي ضبطه ضبطًا منضبطًا إلا بضبطه لفنون اللغة والمنطق.   فاللهم علِّمنا ما جهلنا، وهيِّئ لنا ما يُيسر فَهمنا، والحمد لله رب العالمين.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣