أرشيف المقالات

الصداقة في الإسلام ومضامينها التربوية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2الصداقة في الإسلام ومضامينها التربوية   قال الله تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].   يقول ابن كثير رحمه الله: إن كل صداقة وصحابة لغير الله، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل، فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: ﴿ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 25][1].   ويقول الطبري رحمه الله: المتخالون يوم القيامة على معاصي الله في الدنيا, بعضهم لبعض عدو, يتبرأ بعضهم من بعض, إلا الذين كانوا تخالوا فيها على تقوى الله[2].   المضامين التربوية: إن الآية الكريمة تؤكد أن الصداقة والصحبة منضبطة بضوابط الحب والخير والتناصح والإخلاص والإيثار، وكل سمات النبل والطهر والعفاف، ولا يملي ذلك على الناس إلا شيئًا واحدًا، هو تقوى الله تعالى، وما كانوا عليه الأصحاب في الدنيا من حب وخير ومودة وهداية، ثم تفرقوا عليه، فإنهم يجتمعون في الآخرة على هذه الخصال متنعمين بما أعده الله تعالى لهم من رضوانه وإحسانه.   أما الصداقة والصحبة التي قامت على المصالح الدنيوية والأغراض المادية، وليس لله سبحانه وتعالى فيها نصيب - فستكون يوم القيامة وبالًا وشؤمًا وخسرانًا على أهلها جزاءَ انحرافهم وغفلتهم، وهجرهم التناصح، وعدم حب الخير لبعضهم.   وتتضمن الآية الكريمة مضامين تربوية في غاية الأهمية لموضوع مهم جدًّا، موضوع نعايشه جميعًا، ولا يستغني عنه أحد البتة، ألا وهو الصداقة أو الصحبة، ومنها: أولًا: في عصر طغى على بعض الناس التفكير المادي البحت، والوصول إلى أهدافهم وغاياتهم بأي وسيلة كانت شرعية أم غير شرعية، ولا يضعون نصب أعينهم إلا مصالحهم الذاتية دون النظر إلى مصالح غيرهم، ودون مراعاة لقيم أو مبادئ.   وفي هذا الواقع المؤسف يكون من الأهمية بمكان ضرورة انتقاء الأصحاب والأصدقاء وفق معيار التقوى التي أشارت إليها الآية الكريمة، وأكده الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة؛ منها: قوله: "لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي"[3]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"[4]، وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإمـا أن تجد ريـحًا خبيثة "[5].   ولذلك ينبغي على المؤسسات التربوية وخصوصًا الأسرة والمدرسة والمسجد - توجيه الناشئة إلى مصاحبة الأخيار من أقرانهم؛ ليكونوا عونًا لهم على طاعة الله تعالى وتقواه، وتجنُّب مصاحبة الأشرار الذين زلوا وضلُّوا، ولا هُم على الخير يتناصحون أو يُذَكِّرُون، وقد يكون همهم إيقاع غيرهم فيما هم فيه من غواية وضلال.   ثانيًا: قد يحسن في بعض الأوقات والظروف عند اختيار الأصحاب اختبارهم وامتحانهم لمعرفة مدى ما هم عليه من تقوى أو فجور؛ لكي يتحدد على ضوئه مصاحبتهم أو عدمها، وقد أكد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذلك بقوله: "فإذا أراد الإنسان أن يصاحب المؤمن أو أراد المؤمن أن يصاحب أحدًا، وقد ذُكِر عنه الفجور وقيل: إنه تاب منه، أو كان ذلك مقولًا عنه، سواءً كان ذلك القول صدقًا أو كذبًا، فإنه يمتحنه بما يظهر به بـره أو فجـوره وصدقه أو كذبه "[6].   ثالثًا: ومما غَفَل عنه بعضنا ونحن في أمسِّ الحاجة إليه، وهو من لوازم الصداقة والصحبة - التحاب في الله تعالى، والبغض فيه، وهو قُربة يتقرب بها العبد إلى ربه جل جلاله، وينال بها الأجر والمثوبة في الدنيا والآخرة، والنصوص الشرعية المؤكدة لذلك كثيرة جدًّا؛ منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم: "سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه"[7]، وأيضًا: "عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن ربه تبارك وتعالى: "حقَّت محبتي على المتحابين فيَّ، وحقت محبتي على المتناصحين فيَّ، وحقت محبتي على المتزاورين فيَّ، وحقت محبتي على المتباذلين فيَّ، وهم على منابر من نور يغبطهم النبيون والصديقون بمكانهم"[8].   وهذه الأحاديث وغيرها تؤكد فضل وعظم المصاحبة والمصادقة القائمة على الحب في الله تعالى، والبغض فيه سبحانه وتعالى، وحَري بنا معاشر المسلمين تطبيق هذا الهدي النبوي في حياتنا، والبعد عما نشاهده ونلمسه اليوم من جفاء وتناحرٍ وتباغض وأحقاد، وقطيعة بين بعضنا دونما مبررٍ شرعي، وإنما لهوى نفس وأغراضٍ دنيوية تافهة لا تستدعي كل هذا التصرفات المشينة التي تؤثر على تماسك المجتمع ووَحدة الأمة، والحمد لله رب العالمين.


[1] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج4، ص134). [2] (تفسير الطبري ج 21، ص 637). [3] (أبو داود، سنن أبي داود، باب من يؤمر أن يجالس، حديث رقم 4832،ج4، ص259)، (وحسنه الألباني في تعليقه). [4] (أبو داود، المرجع السابق، حـديث رقم 4833)، (وصححه الألباني في تعليقه). [5] (مسلم، صحيح مسلم، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء حديث رقم 2628، ج4، ص 2026).
[6] ( ابن تيمية، الفتاوى، ج15، ص 329). [7] ( البخاري، صحيح البخاري، باب الصدقة باليمين، حديث رقم 1423، ج 2، ص 111 ). [8] ( ابن حبان، صحيح ابن حبان، باب الصحبـة والمجـالسة، حديث رقم 577، ج2، ص 338)، (الألباني، صحيح الترغيب والترهيب، حديث رقم 3019، ج 3، ص 92 ).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن