أرشيف المقالات

تيجان الرحمن.. وتيجان الشيطان

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
2تيجان الرحمن..
وتيجان الشيطان   الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: يلبس الناس التيجان عادة للزينة، فقد كان الملوك قديمًا يلبسونه رمزًا للملك، وتلبسه النساء حاليًّا في المناسبات والأفراح، وقد يُمنح الواحد تاجًا؛ لأنه حقَّق فوزًا ونجاحًا، فمن أُلبس تاجًا، فقد حقَّق إنجازًا عظيمًا في أمر ما.   والتَّاجُ مَا يُصَاغُ لِلْمُلُوكِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْجَواهِرِ، وهو علامة للعزِّ والشرف، والرحمن جل جلاله سيُلبس بعض أوليائه الصالحين أنواعًا من التيجان يوم القيامة؛ نظير أعمال صالحة قاموا بها، كما أن الشيطان الذي أمرنا الرب جل وعلا أن نتخذه عدوًّا، يحاول جاهدًا إضلالنا عن الصراط المستقيم، ويدفع أتباعه من الشياطين إلى بذل قصارى جهدهم؛ لإيقاعنا في شتى المعاصي والذنوب؛ بل إنه يخصُّ بعض أولئك الأتباع بمزيد من القرب والحفاوة والتكريم الشيطاني، بمنحهم تيجانًا شيطانية نظير جهودهم في إضلالنا، ولن يَمنح هذه التيجان لكل من أغوى مسلمًا؛ وإنما لكل من أوقع مسلمًا في بعض كبائر الذنوب والتي أهمُّها: الزنى والشرك والقتل.   دعونا في هذه المقالة الموجزة نتعرف على تيجان الرحمن التي ستُمنح يوم القيامة، وعلى تيجان الشيطان التي ستُمنح كل يوم في هذا الدنيا.   لمن ستكون تيجان الرحمن يا ترى؟ فهل تعرفت عليها؟ وهل حرصت على الفوز بأحدها أو بها كلها؟ ولماذا لا تشرئِبُّ نفسك وتتوق إلى لبسها؟ وما تلك الموانع التي تحول بينك وبين ذلك؟   إن التيجان التي سيمنحها الرحمن لعباده المؤمنين عديدة ومتنوعة، فهي تيجان لم تر مثلها عينٌ، ولم تخطر على قلب بشر، من أشهرها أربعة تيجان: تاج الكرامة، وتاج الوقار، وتاج الملك، وتاج النور.   ولمن تلك التيجان؟ إنها لثلاثة أصناف: لحافظ القرآن ولوالدي حافظ القرآن وللشهيد. هكذا صحَّت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان ذلكم هو الموجز، وإليكم التفصيل والبيان من أحاديث سيد الأنام صلى الله عليه وسلم.   (أولًا) تاج الكرامة وتاج الوقار وتاج الملك: فهذه التيجان الثلاثة كلها ستمنح لصاحب القرآن الملازم له؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يَجِيءُ صاحب الْقُرْآن يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ القرآن: يَا رَبِّ حَلِّهِ - أي ألبسه الحلية - فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ، وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً)) [1]. ‌   وفي رواية لأبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "اقرؤوا الْقُرْآنَ، فإنه نِعْمَ الشَّفِيعُ يوم الْقِيَامَةِ، إنه يقول يوم الْقِيَامَةِ: يا رَبِّ حَلِّهِ حِلْيَةَ الْكَرَامَةِ، فَيُحَلَّى حِلْيَةَ الْكَرَامَةِ، يا رَبِّ اكْسُهُ كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ، فَيُكْسَى كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ، يا رَبِّ البسه تَاجَ الْكَرَامَةِ، يا رَبِّ ارْضَ عنه، فَلَيْسَ بَعْدَ رِضَاكَ شَيْءٌ" [2].   فالذي يكثر من قراءة القرآن آناء الليل ويقوم به، سيُلبس تاج الكرامة، وذلك لما رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: "يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَشْفَعُ لِصَاحِبِهِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ لِكُلِّ عَامِلٍ عُمَالَةٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِنِّي كُنْتُ أَمْنَعُهُ اللَّذَّةَ وَالنَّوْمَ، فَأَكْرِمْ، فَيُقَالُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ، فَيُمْلَأُ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، ثُمَّ يُقَالُ: ابْسُطْ شِمَالَكَ، فَيمْلَأُ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَيُكْسَى كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ، وَيُحَلَّى حِلْيَةِ الْكَرَامَةِ، وَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ " [3].   وأما من يزيد على ذلك، ويكثر من قراءته في النهار أيضًا، فسيُلبس تاج الوقار، وذلك لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ أَنَا الَّذِي كُنْتُ أُسْهِرُ لَيْلَكَ، وَأُظْمِئُ هَوَاجِرَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَأَنَا لَكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تَاجِرٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا تَقُومُ لَهُمَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَيَقُولَانِ: يَا رَبِّ، أَنَّى لَنَا هَذَا؟ فَيُقَالُ لَهُمَا: بِتَعْلِيمِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ)) [4]، والوقار هو الرزانة والحلم.   فهل أنت من أصحاب القرآن الملازمين له بالليل والنهار؟ أم من أصحاب الغناء والعيدان والأوتار؟ روى بريدة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ، أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَأَنَا لَكَ الْيَوْمَ وَرَاءَ كُل تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكَسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لا تَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولانِ: بِمَ كُسِينَا هذا؟ فَيُقَالُ لَهُمَا: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ: اقْرَأ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا)) [5].   كما أن تاج الوقار سيمنح أيضًا للشهداء، والجهاد ذروة سنام الإسلام، مما يؤكد على شرف الحصول على مثل هذا التاج العظيم القدر؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سبعَ خِصَالٍ: أن يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ من دمه، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، ويحلى حلة الإيمان، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْه خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ))[6].   تأمل في فخامة هذا التاج الذي يحتوي على ياقوت، والياقوتة الواحدة منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، فما بالك بالتاج برمته، فهل يمكن مفاضلته بالدنيا؟ كلا والله وألف كلا.   فإذا لم تستطع أن تجاهد لتلبس هذا التاج، فيمكنك أن تنال منزلة الشهداء بأن تسأل الله تعالى بصدق هذه المنزلة الرفيعة، لعلك أن تحظى بهذا التاج الذي لا يُقدَّر بثمن.   فقد روى سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)) [7].   فالأمر يسير جدًّا، ويحتاج إلى صدق في النية، لتنال تاج الوقار، وما أدراك ما تاج الوقار! نسأل الله العظيم أن يمنَّ علينا بكرمه بالشهادة في سبيله، وأن يلبسنا هذا التاج بفضله.   وأما من عمل بالقرآن فيلبس تاج الملك؛ فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يتمثَّل القرآن يوم القيامة، فيُؤتى بالرجل قد كان حمله فخالف أمره، فيتمثَّل خصمًا دونه، قال: فيقول: يا رب، حملته إياي، فشر حامل، تعدَّى حدودي، وضيَّع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: فشأنك به، فيأخذ بيده ما يرسله حتى يكبه على صخرة في النار، ويُؤتى بالعبد الصالح قد كان حمله فحفظ أمره، فيتمثَّل خصمًا دونه فيقول: يا رب، حملته إياي فكان خير حامل، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، وعمل بطاعتي، وما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال له: شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكسوه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر)) [8].   فحَمَلةُ القرآن هم الذين يحفظونه ويعملون به، وقال القاري رحمه الله تعالى في معنى حامل القرآن؛ أي: إكرام قارئه وحافظه ومفسِّره؛ ا هـ [9]؛ ولذلك كان من حق حملة القرآن إكرامهم وتوقيرهم.   فعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ، غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ)) [10].   (ثانيًا) تاج النور: وهذا التاج من نصيب والدي حافظ القرآن، نعم إنها كرامة وحفاوة لولدهما الذي حفظ كلام الله وعمل به، وتكريمًا لهما؛ لأنهما دفعا ولدهما لحفظ كتاب الله، وقد يكونا جاهلين أميَّين؛ ولكن فضل الله تعالى ليس له حد، فعن بريدة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَعَلَّمَهُ وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَاجًا مِنْ نُور ضَوْءُهُ مِثْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَيُكْسَى وَالِدَيْهِ حُلَّتَانِ لَا يَقُومُ بِهِمَا الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَا كُسِينَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ)) [11].   تأمَّل رحمك الله في عبارات الحديث حين قال الوالدان: ((بما كسينا هذا))؟ فهما لم يستطيعا كتم فرحتهما وبهجتهما بهذا التاج المبهج، فاستفسرا: بما كسينا هذا؟ لعلمهما أنهما لا يستحقَّان هذا الثواب العظيم، وأنهما ليسا من حفظة كتاب الله، فكان الجواب: ((بأخذ ولدكما القرآن))، ما أعظمها فرحة! وما أجزله من ثواب! فما شعورك إذا رأيت والديك يلبسان هذا التاج يوم القيامة، وهما فرحان أشد الفرح؟ فكيف سيكون فرحك؟! وكم ستبلغ سعادتك إذا كنت أنت سبب فرحهما؟!   فإن استطعت أيها الابن البارُّ أن تُلبس أبويك تاج النور، وتكسيهما حلتين يوم القيامة لا يقوم لهما الدنيا فافعل، فمِن أعظم البر لوالديك وأفضل هدية تُقدِّمها لأبويك أن تحرص على أن تلبسهما هذا التاج، ولا يتأتَّى لك ذلك إلا بكثرة تلاوة القرآن، وتعلُّمه والعمل به، وإذا أردت أن تحظى بهذا التاج أيضًا، فاحرص على تسجيل أبنائك في حلقات تحفيظ القرآن؛ ليحفظوا كتاب الله، لتلبس أنت وزوجك تاجًا من نور، لتقولا بإذن الله: بما كسينا هذا؟ فيقال لكما: بأخذ ولدكما القرآن.   وأما من كان يصدُّ أولاده عن القرآن، ويمنعهم من التسجيل في حلقاته، فهذا إنسان محروم من هذا الثواب، وقد يناله العقاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.   تيجان الشيطان: أما الصنف الثاني من التيجان، فإني أعيذك بالله منها؛ لأنها تيجان شيطانية، يمنحها الشيطان لبعض أوليائه، فيتشرَّف لها كل شيطان أوقع مسلمًا في كبيرة من كبائر الذنوب، ولكن من الذي سيحظى منهم بذلك التاج؟ دعونا نسمع ما قاله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن مخطَّط إجرامي شيطاني يحدث يوميًّا ضد المسلمين بالذات.   فعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا أصبح إبليس بَثَّ جنوده فيقول: من أخذل اليوم مسلمًا ألبسته التاج، قال: فيجيء هذا، فيقول: لم أزل به حتى طلَّق امرأته، فيقول: يوشك أن يتزوج، ويجيء لهذا، فيقول: لم أزل به حتى عقَّ والديه، فيقول: يوشك أن يبرهما، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك، فيقول: أنت أنت، ويجيء هذا، فيقول: لم أزل به حتى قتل، فيقول: أنت أنت ويلبسه التاج)) [12].   وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ، قَالَ: فَيَخْرُجُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَيَجِيءُ هَذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَقَّ وَالِدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَبَرَّ، وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَشْرَكَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيَجِيءُ، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى زَنَى فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ)) [13].   وتأمَّل في الحديث تجد أن للشيطان تاجًا واحدًا فقط، أو نوعًا واحدًا من التيجان، فالحديث يقول: ((ألبسته التاج))، فهو مُعرَّف بالألف واللام.   ولعلَّ سائلًا يقول: كيف نجمع بين الحديثين السابقين والحديث الذي رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ))، قَالَ الأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ فَيَلْتَزِمُهُ [14].   ويمكن الجمع بين الروايتين أن إبليس يُدني منه أكثر الشياطين فتنة، بناء على أعظم الفتن كل يوم، فإذا اجتمع عقوق والدين وطلاق وزنى وقتل، كان الزنا والقتل أعظم فتنةً؛ لأنها ذنوب لا يمكن إصلاحها وترقيعها، وإذا جاءت فتن دنيا مع فتنة طلاق، كانت فتنة التفريق بين الزوجين أعظمها فتنة، وهكذا.   وتأمل في الحديث الأخير أن إبليس قرَّب إليه من فرَّق بين زوجين والتزمه، ولكن لم يلبسه التاج؛ وإنما كان التاج لمن قتل مسلمًا!   فكأنَّ الحديث يُوضِّح حرص إبليس - أعاذنا الله منه - على نشر القتل في أوساط المسلمين، وأنه هدف أسمى يسعى إليه، ويكافئ أتباعه يوميًّا عليه.   وإن ظاهرة القتل من الظواهر التي كثرت في مجتمعنا، وأصبحت الجرائد لا تخلو أخبارها اليومية عن جريمة قتل أو انتحار، مما لم نكن نسمعه من قبل.   وأشارت الأحاديث الأخرى أن أقرب الشياطين منزلةً من إبليس هم أكثرهم فتنة ونشرًا للفساد في أوساط المسلمين، خصوصًا الطلاق والعقوق والشرك والزنا والقتل.   • ثم تأمَّل مرة أخرى في أعظم الفتن والمعاصي التي يحرص عليها جنود إبليس كل يوم: الشرك والزنى والقتل وعقوق الوالدين والتفريق بين الأزواج، فكلها عظائم، وكبائر ذنوب، فجنود إبليس يتقرَّبون إلى إبليس بإضلال المسلمين، ودفعهم إلى ارتكاب كبائر الذنوب، وأعظم الفتن في المجتمع، فالطلاق تفكيك للأسرة، وتفريق بين المسلمين، وقطع للأرحام، وتشريد للأولاد، وعقوق الوالدين جحود وتنكُّر لفضلهما، والشرك انفكاك عن العبودية لله عز وجل وانقطاع عنها، والزنى هتك للأعراض، وخلط للأنساب، وتفكيك لروابط الأسرة المسلمة، والقتل قطع لحياة الفرد بغير حق.   إن تيجان الرحمن عز وجل ستُمنح يوم القيامة، فهي باقية، وتيجان الشيطان تُمنح في الدنيا، وهي فانية؛ بل ومن ورائها نارٌ حامية، فأي التيجان تريد أن تلبسها يا عبدالله؟   أدع لك اختيار الجواب، وصلِّ على النبي الأوَّاب صلى الله عليه وسلم.


[1] رواه الترمذي (2915)، والدارمي (3311)، والحاكم واللفظ له (2029)، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع (8030). [2] رواه الدارمي موقوفًا (3311)، وقال الوادعي في كتاب الشفاعة: رجاله رجال الصحيح إلا عاصمًا، وهو ابن أبي النجود، فقد رويا له مقرونًا، وهو حسن الحديث؛ ا هـ (صفحة 249). [3] رواه الدارمي موقوفًا (3312)، وحسَّنه الوادعي في كتاب الشفاعة (صفحة 214). [4] رواه الطبراني في الأوسط، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (2829). [5] رواه الدارمي (3391)، وابن أبي شيبة (30045)، وحسَّنه ابن حجر في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (3478). [6] رواه الترمذي (1663)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1374). [7] رواه الإمام مسلم (1909)، وأبو داود (1520)، والترمذي (1653)، والنسائي (3162)، وابن ماجه (2797)، والحاكم (2412)، وابن حبان (3192)، والبيهقي (18339)، والدارمي (2407)، والطبراني في الكبير (5550). [8] أخرجه ابن أبي شيبة بإسناده، وحسَّنه ابن حجر في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (3491). [9] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا علي القاري (8/ 706 ح4972). [10] رواه أبو داود (4843)، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (98). [11] رواه الحاكم، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن لغيره (1434). [12] رواه ابن حبان، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (2449). [13] التعليقات الحسان (9/ 37). [14] رواه الإمام أحمد، ومسلم واللفظ له (2813).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢