أرشيف المقالات

من معاني الاستفهام

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2من معاني الاستفهام
التشويق: قد يأتي الاستفهام للتشويق، وذلك عندما يقصد المتكلم إلى ترغيب المخاطب واستمالته إلى أمر مهم[1]؛ كما في قوله صلى الله عله وسلم لعمر رضي الله عنه حينما جاء جبريل عليه السلام يسأله عن أمر دينه: ((أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ؟))[2]، يبدو في هذا الحديث استفهامٌ خرج من معناه الأصلي إلى غرض التشويق والترغيب.   فالنبي الهادي الراشد يشوِّق عمر رضي الله عنه إلى معرفة هذا الزائر، الذي جاء في أحسن صورة، وأكمل هيئة يُحب أن يتحلى بها المسلم، ويُرغبه إلى معرفة هدف زيارته، وما يحمله من رسالة إلهية طاهرة.   ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((ألا أَدلك على أبواب الخير؟.....ألا أُخبرك برأس الأمر، وعموده، وذِورة سنامه؟...ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟[3]))، فجميعها أساليب استفهامية لغرض التشويق[4]، وهو ضرب من الاستفهام يُكثر المرشدون من توجيهه إلى أتباعهم؛ ترغيبًا لهم في معرفة الحقائق، وإثارةً لانتباههم لتلقي خفايا الأمور[5].   فلا يخفى عليك ما في الأحاديث الشريفة من ترغيب المخاطب إلى معرفة الجواب، فهو ينتظره، فحين يأتي الجواب، يكون له موقع حسنٌ في نفس المخاطب؛ لأن النفس مهيأة له.   الاستبعاد: هو عدُّ الشيء بعيدًا حسًّا أو معنى، وقد يكون منكرًا مكروهًا غير منتظر أصلًا، وربما يصلح المحل الواحد له وللاستبطاء، وعلى هذا قد يخرج الاستفهام عن معناه الأصلي للدلالة على استبعاد السائل للمسؤول عنه[6]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ)) [7]، استفهام يفيد الاستبعاد والاستحالة، إنه لتعبير بليغ، وتصوير للحالة الشديدة، يدعو بصوت مُدَوٍّ إلى اتخاذ الحذر والتحفظ بالشدة عن المحرمات والخبائث، رزَقنا الله الطيبات، وأعاذنا بها من المحرَّمات[8].   وأما الفرق بين الاستبعاد والاستبطاء: أن الاستبعاد متعلقه غير متوقع، أما الاستبطاء فمتعلقه متوقع، والمستفهم يتطلع إلى وقوعه ومجيئه[9].   الاسترشاد: وهو نوعٌ من أنواع الاستفهام يُطلَب به الرشدُ والهداية باستعمال إحدى أدوات الاستفهام المعروفة، ومنه قول جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله، فقال: ((أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَةَ وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلاَلَ، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟))[10].   وهو استفهامٌ وجَّهه الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: "أخبرني"، وهو أمر لو أُطلق لكان المقصود به استرشادًا[11] ولا غَرْوَ، فالأمر والاستفهام أخوان من الأساليب الإنشائية التي تجمع في إطار الطلب[12].   إن هذا الحديث من أمثال النصوص التي تُريك شدة رغبة الصحابة في معرفة حدود المستلزمات الدينية، والواجبات الضرورية التي تحقِّق صحة عبودية المرء لخالقه، وهو نص يعبِّر عن مدى الشجاعة الاستكشافية للصحابة في تلك الفترة الأولية من فجر الإسلام[13].   فإن مما يُعجب القارئ، ويبهر قلبه في هذه الأحاديث الشريفة: حُسن توظيف الصحابة الاستفهامَ على نمط يُخرجه من صيغته الأصلية إلى الاسترشاد والاستنصاح، وهذا يكفيك للتدليل على عُلوِّ شأن البلاغة النبوية.   تبشير المخاطَب: وهو نوع من الاستفهام المجازي، يؤتى به لتبشير المخاطب بأمر يرغبه ولا يُنْتظر منه الإجابة، وتُستعمل فيه إحدى أدوات الاستفهام، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم تبشيرًا للشاكين أن أهل الدثور ذهبوا بالأجور[14]: " أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُون"، فهو استفهام تبشيري للفقراء[15]، فإذا تأملت هذا الحديث تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أدرك نفسيَّتهم الشاكية، فطيَّب خواطرهم، وطمْأَنَ نفوسهم، وبشَّر أرواحهم باستفهام بلاغي، فهو أسلوب إنشائي في غاية السداد، لِما فيه من تبريد النفوس الساخنة، وتهدئة القلوب المضطربة، وهذا شأن كل مرشد رؤوف بأمته، "فقد واصل المصطفى الأمين بسط الخطاب[16]"؛ إذ هو استفهام لا يرجى جوابُه من المخاطب[17].   الإجابة: وهي نوعٌ من أغراض الاستفهام يؤتَى به لإجابة الاستفهام بالاستفهام، وهو غرض رشيق في منتهى البلاغة والأناقة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ)[18]، فقد جاء صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة لغرض الإجابة عن سؤالهم في قولهم: (أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْر)[19]، تأمل هذا الجواب الشافي، والرد الكافي، القائم بكل حجة دامغة ماسحة لنقطة الشك والإنكار من القلوب، تجد معجزة نبوية مفحمة للإنكار[20].   التعجب: وقد يأتي الاستفهام لغرض التعجب، ومنه قول الصحابة رضي الله عنهم وقد أُعجبوا من استماع أعمال الخيرات التي يمكن للفقير أن يَغتنمها، لا سيما ما ذكر في البضع، فوجهوا استفهامًا تعجبيًا إلى المصطفى[21]؛ حيث قالوا: (أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْر) [22]، ومنه قول معاذ بن جبل رضي الله عنهم: (وإنَّا لَمُؤاخَذُونَ بما نَتَكَلَّمُ بِهِ؟)[23]، هو تساؤل مفعم باستغراب الصحابي، فيطرح أثره تساؤلًا معبرًا عن غرابة الموقف[24].   التقرير: حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه إثباتًا ونفيًا لغرضٍ من الأغراض، على أن يكون المقرَّر به تاليًا لهمزة الاستفهام، فتقول: أفعلت؟ إذا أردت أن تقرِّره بأنه الفاعل، وتقول: أشعرًا نظمت؟ إذا أردت أن تقرِّره بأن منظومه شعر، وهكذا[25].   ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((جئتَ تَسْألُ عَنِ البِرِّ؟))[26]، فالمراد بالاستفهام في هذا الحديث التقرير، بمعنى التحقيق والإثبات، وقد وظَّف المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الصيغة لتنبيه المخاطب، وحثِّه على تأمُّل الأمر وتدبُّره، فهذا استفهام يبلغ فيه الكلام منتهى البلاغة واللطافة، وهو تعبير لو يُكثر المرشدون توظيفَه في كلامهم، لنجحوا كثيرًا في عملياتهم التعليمية.   النفي: وذلك عندما تجيء لفظة الاستفهام للنفي، لا يطلب العلم بشيء كان مجهولًا[27]، ومن أمثلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((وَهَلْ يَكُبُّ الناسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟))[28].   فالظاهر في هذا الحديث الشريف الاستفهام، والمعنى: لا يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم، "ولكن الفرق بين الدلالة عليها بالاستفهام والدلالة عليها بطريقة النفي المعهود، إن في الاستفهام تحركًا للفكر، وتنبيهًا للعقل، وحثًّا على النظر والتأمل، وهذا هو الفرق بين النفي الصريح وبين النفي عن طريق الاستفهام"[29].   وبهذا يتَّضح لك أن الأسلوب الاستفهامي يفيض بكثير من المعاني التي يستطيع أن يقف عليها الدارس بتأمُّل سياقه، وتدبُّر قرائن أحواله[30].
ووجود هذه الفنية الكلامية في هذا الحديث دليلٌ على عُلو بلاغته، وبراعة تراكيبه.


[1] بسيوني، عبد الفتاح فيود، علم المعاني دراسة بلاغية ونقدية لمسائل المعاني، ط2، 429ه- 2008م، مؤسسة المختار - القاهرة، ص327. [2] النووي، ح2، ص4، أخرجه مسلم، في صحيحه (باب معرفة الركعتين اللتين كان.....) ج2، ص703. [3] النووي، ح29، أخرجه ابن ماجه (كتاب الفتن) ج5، ص116. [4] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، ط1، 1431هـ - 2010م، ص 119. [5] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، ص 11. [6] عبد العزيز عتيق، علم المعاني، ط1، دار الآفاق العربية القاهرة، 1427ه – 2006م، ص80. [7] النووي، ح10،9، أخرجه البيهقي في سننه (باب الخروج من المظالم والتقرب...) ج3، ص346. [8] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، ط1، 1431م- 2010م، ص 43. [9] بسيوني، عبد الفتاح فيود، علم المعاني دراسة بلاغية ونقدية لمسائل المعاني، ط2، 429ه - 2008م، مؤسسة المختار - القاهرة، ص 320. [10] النووي، ح 22. [11] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، ص 84. [12] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، ص86. [13] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، ص 85. [14] النووي، ح25، ص 18، أخرجه مسلم في (باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف) ج2، ص698. [15] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، ص 100. [16] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، ص 103. [17] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، ص 103. [18] النووي، ح25، ص 18، أخرجه مسلم في (باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف) ج2، ص698. [19] سبق تخريجه. [20] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، 104. [21] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، ط1، 1431 هـ - 2010 م، ص 104. [22] النووي، ح25، ص 18، أخرجه المسلم في (باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف) ج2، ص698. [23] النووي، ح29، أخرجه ابن ماجه (باب الفتن) ج5، 116.. [24] الأويي لقمان، التحليل البلاغي للأربعين حديثاً النووية، ص123. [25] عبد العزيز عتيق، علم المعاني، ط1، دار الآفاق العربية القاهرة، 1427ه – 2006م، ص78. [26] النووي، ح 27. [27] عبد العزيز عتيق، علم المعاني، ط1، ص75. [28] النووي، ح29، أخرجه ابن ماجه (باب الفتن) ج5، 116. [29] بسيوني، عبد الفتاح فيود، علم المعاني دراسة بلاغية ونقدية لمسائل المعاني، ط2، 429ه - 2008م، مؤسسة المختار - القاهرة، ص 26. [30] بسيوني، عبد الفتاح فيود، علم المعاني دراسة بلاغية ونقدية لمسائل المعاني، ص 329.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢