أرشيف المقالات

سمو الإنسانية في قلب الرسول الأعظم

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (قرآن كريم) للأستاذ خليل هنداوي (لا يحسبن قارئ المقال أننا أردنا أن نعطل حدود الشرائع بدرسنا للعاطفة الإنسانية السامية في قلب الرسول، وإنما هو بحث جرى على القلم جواباً لمن يزعم أن تعاليم الإسلام تعاليم صارمة قاهرة لا تفيض - كالشريعة المسيحية - رحمة ومحبة وحناناً) (خ، هـ) لا تزال علة الآثمين الخارجين على حدود الشرائع علة مستحكمة، لا يبت فريق حتى يهب إلى نقضها فريق.
وكلا الفريقين له الحجة الساطعة.
فمن الشرائع ما يرى في الأثيم العدو للإنسانية، والمريض الذي يخشى انتقال جراثيمه إلى غيره، لأن الأمراض النفسية حكم أكثرها كحكم الأمراض السارية تعصف بالأجساد عصفاً.
وهذا المريض - في حكمها - لا يرجى شفاؤه، وإن فكرة الإجهاز عليه هي خير فكرة تتقي بها منه! وقد تفننت الشرائع الحديثة في تعيين هؤلاء الآثمين والمجرمين وفي عزلهم عن طبقات الناس.
ومن الشرائع ما تنظر إلى هؤلاء بعطف ورحمة.
لا تنظر إلى الإثم - كالكل في الإثم - وإنما تنظر إلى الظروف التي صاحبته، والعوامل التي ساعدت على خلقه.
وهي بعد هذا كله لا ترى في الآثم إلا إنساناً، جبل على طينة الإنسان، يخطئ ويصيب، ويفعل الشر ويصنع الخير.
هذه الشرائع التي غلبت العاطفة الإنسانية على كل عاطفة، واستمسكت بالمبدأ الإنساني الذي يعلو على مصطلحات الخير والشر.
وهذه فكرة تطير بجناحين من السمو والعلو.
ولكن علماء القانون لا يعتقدون بهذه الفكرة المجنحة لأنها بغير حدود، وتنتشر على أبعاد دونها أبعاد الفضاء.
وهم يريدون أن يحددوا لكل موقف شأنه، فإذا سرق السارق فما عسى يكون جزاؤه؟ وإذا زنى الزاني فما عسى يعامل به؟ مثل هذه الفكرة الإنسانية قد تجلت في موقف السيد المسيح حين قدموا له زانية ليرى فيها حكم الشريعة - وما كان حكم الشريعة إلا الرجم - وما كان للمسيح أن يعطل هذا الحكم، وهو لم يجيء لنقض نواميس الأنبياء؛ ولكنه تسامى في هذه المرة ما شاء له التسامي، فأمر بأن يحفروا لها حفيرة ووقف قائلاً: - ليرميها كل من لم ترتكب نفسه خطيئة بحجر! فوقف الجمع ولم يرموا، وغادروا المرأة وشأنها.
ولكن هذه الفكرة تظل جميلة ما ظلت منطلقة حرة من غير قيود، فإذا شئنا حصرها وإخضاعها للعمل ضاع رونقها وفشت الشرور بحجة أن كل نفس فيها من طينة الشر شيء.
ولذلك لم يقدر المسيح نفسه على القول بالعفو عن كل زانية وزان وسارقة وسارق، ولم يقدر غيره على القول بذلك.
ولكن المسيح أراد بضرب هذا المثل أن يحفظ للآثمين هذه الإنسانية التي تربطهم بغير الآثمين.
ويقرر بعد ذلك أن هؤلاء الذين يحكمون على الآثمين هم ملوثون مثلهم، حتى تكون العاطفة الإنسانية عندهم هي العاطفة الغالبة على كل عاطفة نظرت الشريعة الإسلامية إلى هؤلاء الآثمين كما نضر غيرها، وفرضت القصاص وفي القصاص حياة، وقام الشارع بأحكام ما تنزل، ورأى أن دفع القتل بالقتل أنفى للقتل.
وهذه الشريعة هي شريعة من جاء قبله، وهي الشريعة التي يحض عليها العقل ويبعث إليها الإنصاف ولكن الرسول - برغم لوثة هؤلاء الآثمين - قد ارتفع معهم في كثير من المواقف بعاطفة الإنسانية فوق حدود الشريعة، ونظر هؤلاء المرضى نظرة ملؤها الرأفة والإشفاق، وعطف على كل نفس ضالة - لأن الهدى والضلال على بعدهما متقاربان متلاصقان - وأن إهمال درس هذه العاطفة الإنسانية عند الرسول مما يترك ناحية العواطف الأخرى قاسية صارمة.
وأن على أرباب الفقه أن يرتبوا العقود والحدود كما رتبوها أبواباً أبواباً، وأن على آخرين أن يحللوا هذه العاطفة التي تجعل من الرسول قلباً نقياً وعاطفة إنسانية متسامحة ما عسى تبلغ إليه هذه العاطفة الإنسانية في صدر الرسول؟ أذكر عبارة تلوتها فيما كتب (رينان) عن المسيح (إن المسيح هو أول من سلك في تفهم الله مسلكا جديدا، إذ جعل علاقة الله مع الناس كعلاقة الأب مع أبنائه، علاقة كلها رأفةٍ ومحبة وحنان) وبهذه الرحمة الشاملة تفهم الرسول معنى الألوهية فقال: (جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً.
فمن ذلك الجزء تتزاحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه!) وإني لأجد الرسول في الصلاة، ومن ورائه أعرابي يدعو في صلاته: (اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً).
فقال له الرسول: (لقد حجرت واسعاً) وكأنه أراد أن يقول له: (قل اللهم ارحمني وارحم جميع الكائنات، لأن رحمة الله أوسع من جميع آثامهم وذنوبهم) وإني لأراه وهو يفكر في هذه الرحمة التي يرجو أن تشمله، وهي الرحمة التي ملكت عليه مشاعره.
أراه (وقد وجد امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فالتفت إلى أصحابه وقال: - أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقالوا: لا.
وهي تقدر على ألا تطرحه؟ فقال: - وقد طغت على قلبه هذه الرحمة الشاملة: - الله أرحم بعباده من هذه بولدها) ولقد تتمثل هذه الرحمة في كل جزء فيه، حتى ليحسب أن الكائنات كلها قد اندمجت وأحاطت بها رحمة الله.

(فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة) وهو لا يفسر الرحمة تفسيراً ضيقاً يمنحها أناساً ويحرمها على أناس لأن الرحمة الشاملة إذا دخلت في قلب غيرت فيه كل الأساليب الموروثة في تفهم الوجود، وجعلته ينظر إلى الوجود كشيء كلي ممتزج فقير إلى هذا البلسم! وجردته من كل الأهواء ليتحد مع الكائنات اتحاداً ثانياً بكل شيء فيه، لا يهدأ قلبه مادام يتعذب هنالك إنسان! وهو لا يفسر الرحمة تفسيراً رمزياً، وإنما يرمي بمختلف الأمثلة إلى تمثيل هذه الرحمة تمثيلاً واضحاً تكاد تتبينه العين وتتقراه اليد باللمس! وقد أثر هذا الفهم في نفسه تأثيراً واضحاً؛ فهو تنهمل عيناه إشفاقاً على قومه، وهو يتحمل بلاءهم بقلب صابر ولسان شاكر ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وهو يستمهل الله فيهم عندما نودي: (إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك).
فقال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) وقد ملك عليه شعور الرحمة حتى كاد يغلب على كل عاطفة فيه.
(يرى الرجل الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين رجلاً ثم خرج يسأل، فأتى راهباً فسأله فقال له: (هل من توبة؟) فقال: (لا) فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت، فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي.
وقال: قيسوا ما بينهما، فوجده إلى هذه أقرب بشبر فغفر له.) وهل غفرت لهذا الفاتك إثمه إلا عاطفة الرسول الإنسانية التي قدرت فيه قلبه النادم ونيته الساعية وراء التوبة؟ وقلب الرسول مفعم رحمة وشفقة على هؤلاء - مع قوله في معاقبتهم - ولا يستطيع الفكر أن يوفق بين الإثم الكبير البالغ تمحوه حسنة صغيرة! فمن ذلك (امرأة مومس مرت بكلب على رأس ركى يلهث قد كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك!) ذلك أن قلب الرسول يحاول أن ينقذ هذه الكائنة الشقية، ويلقي في النفس معنى الإحسان إلى الحيوان (وإن لفي كل كبد رطبة أجرا) وقد تسمو نفس الرسول في النظر إلى هؤلاء الآثمين، فهو لا يفر منهم ولا يزور عنهم لأنه يطمع في صلاحهم (قال رجل: لأتصدقن بصدقة؛ فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: (تصدق على سارق)! فقال: (اللهم لك الحمد!) لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: (تصدق الليلة على زانية!).
فقال: (اللهم لك الحمد!) على زانية! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها بيد غني، فأصبحوا يتحدثون: (تصدق على غني!) فقال (اللهم لك الحمد) على سارق وعلى زانية وعلى غني! ولقد يظن المرء لأول وهلة أن هذه الصدقات باطلة لأنها لم تقع في مواضعها، ولكن الرسول حلها من الناحية الإنسانية، فأتى فقيل له: (أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله) فلم يمنع الرسول الرفق بهؤلاء الآثمين ولم يجعل التصدق عليهم حراما.
وإذا كان السيد المسيح أطلق الزانية لأنه لم يجد من يأخذ على نفسه معاقبتها فالرسول أطلقها وأطلق السارق وأطلق الصدقة عليهما ليستعفا.

وبهذا أشفق على المريض وحارب جراثيم مرضه! وهو خلال ذلك ينتظر أن يغمرهم نور التوبة ويصرفهم عما فيه وازعُ الضمير وقد يعجب المرء من هذه العاطفة التي لو أخذنا بها لعطلت الحدود.
إذ كيف نتصدق على سارق أوجب الشرع قطع يده، أو على زانية أوجب رجمها؟ ذلك أن الرسول يدرك أن الغاية من الشريعة الهدى والرحمة، وأن القصاص سبيل يسلكه الشارع إذا عز الوصول إلى الهدى إلا به فهو بهذا دل على إنسانية سامية تفهم الوجود رحمة ومحبة، وإن روحه لتتصل بالمذنب اتصالها بالبريء، وأنه يحب الناس مهما فعلوا، وأنه يجد في نفسه ميلا إلى الرفق بالآثمين، وهذا الميل جعله يسلك السبل المتعددة ليدفع عنهم آثامهم ويطهرهم من أرجاسهم.
ونرى بعد هذا كله - هذه الكتلة من الرحمة والمحبة تقف أمام الرحمة الشاملة تدعو ربها: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد) أليست هذه الإنسانية بأسرها تتمثل في شخص الرسول تطلب إلى الله أن يشملها برحمته؛ ويغسل خطاياها برأفته حيث تغسل الأوزار وتضيع حدود العقاب في عالم تعمره الرحمة وتسكنه المحبة، لا نهايات له ولا حدود؟ (دير الزور) خليل هنداوي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١