أرشيف المقالات

من أباطيل الجاهلية

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2إبطال مزاعم الجاهلية (3)[1] من أباطيل الجاهلية
دَفْع شُبهة التعارُض بين الأحاديث: بقي علينا أن ندحض شُبهةَ التعارض بين الأحاديث الصَّريحة في نفي الشُّؤم، والتحذير منه، وبين أحاديث أخرى قد يُفهم منها أنها تثبته، كحديث الشيخين: ((إنَّما الشؤم في ثلاثة: في الفرس، والمرأة، والدار))[2].
ومنشأ الشُّبهة تفسير الشؤم في هذا الحديث بالمعنى المشهور، وهو التطيُّر المنهي عنه، ولكنَّ المرادَ به هنا كراهيةُ الشيء واستثْقَالُه وحَرَجُ الصَّدر منه.

ولما كانت هذه الثلاثةُ أشدَّ ملازمةً للمرء واتِّصالًا به؛ فقلَّما يستغني عن دابَّة يركبها، وامرأةٍ يتزوَّجها، ودارٍ يسكنها، رخَّص له أن يفارقَها إلى غيرها، إذا ضاق بها ذرعًا، وماذا يصنع بامرأةٍ مُريبةٍ أو سَليطةٍ أو مُسْرِفةٍ، وبفرسٍ شَموسٍ أو مُلْهية، وبدارِ سوءٍ في نظامها أو جيرانها؟!
ليس له إلا أن يُطلِّقَ أو يبيع غير آسف؛ رفعًا للقلق الذي يُسَاور النفوس، وللوسوسة التي تحيط بالصُّدور؛ ورفقًا به أن يقعَ في هُوَّة التطيُّر المحظور[3].   ويؤيِّدُ هذا التفسيرَ أحاديثُ، منها ما رواه أحمد وصحَّحه ابنُ حبَّان والحاكم: ((من سعادة ابن آدم ثلاثةٌ، ومن شِقْوة ابن آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم: المرأةُ الصَّالحة، والمَسْكَنُ الصَّالح، والمَركَبُ الصَّالح، ومن شِقْوة ابنِ آدم: المرأةُ السُّوء، والمَسْكَنُ السُّوء، والمَرْكَبُ السُّوء))[4].

وعلى هذا فليس الترخيص بترك هذه الأشياء إقْرارًا للطِّيَرة، ولا استثناءً منها، كما قيل.
وَوَجْهٌ آخر، وهو أنَّ الشُّؤم هنا فَرَضيٌّ ليس غير، أي: إنْ فُرض في شيء مِن الأشياء شُؤْمٌ فهو في هذه الثلاثة؛ لأنها ألصق الأشياء بالإنسان، ولكنها ليس فيها شُؤْمٌ ألبتة، فأولى غيرها.
ويُؤيِّد هذا رواية الصحيحين عن سهل رضي الله عنه: ((إنْ كان في شيءٍ ففي المرأةِ، والفرسِ، والمَسْكَن))[5]؛ يعني: الشُّؤم.

ونظيرُ هذا ما وَرَد في العين عند مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((العينُ حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابق القدر سبقته العين))[6].
ومعلومٌ أنَّ شيئًا ما لا يسابق القَدَر، فالعينُ لا تسابقه، ولئن كان هذا التعليق أبلغ في إثبات العين وأنَّها حقٌّ؛ إنَّ ذلك أبْين في نفي الطِّيرة، وأنها ضلالٌ وإفك.
إبطال الهامة والصَّفَر: وأمَّا الهامةُ - وأكثرها في أشعارهم وأخبارهم - فهي وليدة الخيال، وسلالةُ الجهل والضلال، ورزيئة الأفكار والأحلام، وزريعة الخبال والأوهام[7].

وسواء أكانت هي البومة التي تنعق فتُنذر بالموت والخراب، أم كانت هي الطائر الذي ينشأ من عظام القتيل، أو روحه فلا يزال يصيح حتى يُؤْخذَ بثأره؛ فكلُّ ذلك من التُّرَّهات التي اصْطَنعتها الجاهلية الأولى، ثمَّ ورثتها القرون والأجيال.

زعمٌ جاهليٌّ باطل: ومن هذا القبيل ما زعموا أنَّ في البطن حيَّةً تلتصق بالضُّلوع فتعضُّها، وينشأ عن ذلك ما يشعر به الجائع من ألم الجوع، وهذا ما رجَّحناه في معنى الصَّفَر هنا، وهو زعمٌ جاهليٌّ باطلٌ لا دليلَ عليه إلا الزُّور والبهتان.

ومن القضايا الأوليَّة: أنَّه لا يألم جائعٌ إلا لخُلوِّ مَعِدَته، واحتياجِ شرايينه وأوردته وسائر أعضائه إلى الغذاء الذي هو قوام حياته، وعماد عيشه، وما أشْبَهَ الإنسان في حاجته إلى الغذاء بالآلة البخارية في حاجتها إلى الوقود؛ إذا نفد أو تراكم تعطَّلت أو اضْطَربت، وإذا تجدَّد باعتدال أدَّت وظيفتها وانتظمت.
النَّوْء والغول: ذلك، وفي بعض رواياتِ هذا الحديث علاوة على ما تقدَّم: نفيُ النَّوْء، وفي بعضها: نفيُ الغول.
فأما النَّوْء: فهو النَّجْم إذا مالَ للغروب، وكانوا يعتقدون أنَّ الأمطار أثرٌ لتلك الأنواء، وأنَّ الأنواء هي التي تُرسلها وتُهيمن عليها؛ فإذا أصابها الغيث كفروا بالله ونعمته، وقالوا: مُطرنا بنوء كذا.

وفي هذا جَهْلٌ بوظائف النُّجوم، وشركٌ بالواحد القيوم، وأنَّى للكواكب أنْ تصنعَ شيئًا وهي سابحةٌ في أفلاكها، مُسَخَّرةٌ بتسخير الله لها؟! لكنه ضلال الإنسان وجهله، وهو العاجزُ عن تدبير أمره، وسياسة طعامه وشرابه.

الحكمة في خلق النجوم: وقد أبان الله تعالى في كتابه أنَّه ما خلق النجوم إلا لثلاث: زينةً للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلاماتٍ يُهتدى بها في البرِّ والبحر[8]، فَمَنْ تأوَّل فيها بغير ذلك فقد أخطأ، وأضاع نفسه، وتكلَّف ما ليس له به علم، فإن اعتقد أنها تُنبئ بغيب أو تؤثِّر في سَفَر أو حَضَر، أو في سَعْد أو نَحْس؛ فقد ألغى عقله، وجَحَد ربَّه، وعكس الآية؛ إذْ نَسَبَ إلى المخلوق ما تفرَّد به الخالق.
وفي حديث الصحيحين ممَّا روى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربِّه عزَّ وجل أنه قال: ((أصبح مِنْ عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ، فأما من قال: مُطِرنا بفَضْل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكواكب، وأما من قال: مُطِرنا بنَوْء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكواكب))[9].
وما المطرُ إلا أثرٌ من آثار رحمة الله بعباده، وإنْ هيَّأته أسبابٌ وعواملُ، مُتَّصل بعضها ببعض، فذلك تقدير العزيز العليم، ﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الروم: 48 - 50].
قد أشار التنزيل في غير آيةٍ إلى كثيرٍ من أُمَّهات الحقائق الكونيَّة التي اتَّفقت عليها كلمةُ العلم الحديث، حتى حُقَّ للعلماء أن يخرُّوا عند تلاوتها سُجَّدًا، وأن يقولوا مقالة الملائكة: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32].
وأما الغول: فقد كانوا يتوهَّمون أن نوعًا من سَحَرة الجنِّ تسكن المفاوز والقِفار، ترصُدُ المسافرين فتتغوَّل لهم تغوُّلًا؛ أي تتلوَّن لهم ألوانًا مُختلفةً مُرْهبة؛ لتُضِلَّهم عن الطريق فيهلكوا، ولهم في ذلك أحاديثُ وأساطير كلُّها منسوجةٌ على منوال الخيال.

وقد ألمَّ صاحب "بلوغ الأَرَب"[10] بطائفةٍ ممَّا زَعَموا من أخبار الغِيلاَنِ، ومحادثتِهم للجانِّ. ومن هذا القبيل ما يتخيَّل العامَّة عندنا من العفاريت والمَرَدَة التي تتمثَّل على صورٍ شتى في الأمكنة المُوحشة، لا سيِّما التي تنكبُ بحادثٍ مروِّع، من قتل أو حريق.
ولا ريْبَ أنَّ الجنَّ ومنهم الشياطين ثابتون بنصوصٍ صريحة من الكتاب والسنة، وأنَّ الإيمانَ بهم أصلٌ من أصول الدين، ولكنَّ المنفيَّ هو تلك الأقاصيص التي لم يُنزل الله بها من سلطان.

هذه بعض الأباطيل التي حاربها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ وتابعوه، وجدُّوا في القضاء عليها بعد أن اسْتَوْلت على الجاهليين فعشَّشَتْ، ثمَّ باضَتْ وفرَّختْ، فلم تُنتج إلا الوَبَال والضلال.

آثار الخرافات والتغافل عنها: وها هي ذي - والأسف يملأ القلوب - تفشُو في العالم كافَّة، وفي الشَّرق خاصَّة، فتلدُ شرورًا وآثامًا، وتملأُ الدنيا ظلامًا وقتامًا، وتقف سدودًا منيعةً في طريق الهُدى والرَّشاد، وتُعطِّل مصالح العباد والبلاد، وما ذلك إلا أثرٌ من آثار التغافل عن الدعوة أو التهاون بها؛ فإنه لن يقومَ باطل إلا في غفلة حق.

وممَّا زاد الأمر عُسْرًا والداء رَهَقًا، أن تَغَلْغَلَت هذه الأباطيل في الناس، وألفت منهم مَرتعًا خصيبًا، فلم تَدَعْ منزلًا إلا سكنت فيه، ولا مُجتمعًا إلا أَوَتْ إليه، حتى هالَ أمرُها المُصلحين، وظنُّوا أن لا خَلاصَ للإنسان من وبائها بعد أن نَبتَتْ فيهم وشبَّت معهم، وأَضْحَت عقائدَ موروثةً لديهم، وتقاليدَ مختلطةً بلحومهم ودمائهم.

لا جَرَم أنَّ الداء جِدُّ خطير، وأنَّ الدواء جِدُّ عسير، ولكن ما كان هذا ومثله معه ليحول بين المصلحين وبين مهمَّتهم في إنقاذِ البشريَّة، والعمل على الخير للإنسانية، وإلا فما هو حقُّ الرعاية التي اسْتَرعاهم الله إيَّاها، وما هو شكر النِّعمة التي فضَّلهم الله بها، فجعلهم على الناس قوَّامين، وإلى الخير والهدى دُعاةً مرشدين؟!
التَّخلية قبل التحلية: لن تقومَ للأفراد ولا للأمم قائمةٌ ما دامت الأمراض تَنْتَابُها، فَلْنَحْسم الداء قبل أن نصفَ الدواء، ولنبدأ بأنفسنا فلنُعالجها قبل أن نُعالج المرضى، وإلا استهزؤوا بنا، وسَخِروا منا، وردُّوا بضاعتنا، فخسرنا وخسروا، وكنا في البلاء شركاء. تصفُ الدواء لذي السقام وذي الضَّنا   *** كَيْما يَصِحّ به وأنت سقيم؟!
لقد كانت عناية الأنبياء صلواتُ الله وسلامه عليهم بمحو الرذائل أشدَّ من عنايتهم ببناء الفضائل - وهكذا يفعل المُصلحون المُخلصون، ولن يَيْئَسوا من رَوحْ الله؛ ذلك لأنَّ الرذائل رجْسٌ وقَذَرٌ، والفضائلَ طُهْرٌ وعفاف، ولن ينبت الطهرُ في حَمأَةِ الرِّجس، إلا أن ينبت الزَّهر في الأرض السَّبخَةِ والملح الأُجاج.

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، لم يألوا جهدًا في محاربة هذه التُّرَّهات والقضاء عليها، فحقٌّ على وَرَثَتِهِ، والأمناء على مِلَّته..
ألَّا يَنُوا في إبادتها قولًا وعملًا، بالحكمة والموعظة الحَسَنة والقُدوة الصَّالحة في أنفسهم وأهليهم ومَنْ يمتُّ إليهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.



[1] مجلة الأزهر، العدد الرابع، السنة السادسة عشرة (1364-1945). [2] أخرجه البخاري (5753)، ومسلم (2225). [3] أخرج عبدالرزاق (19526)، وأبو داود (3924)، والبخاري في "الأدب المفرد" (918) بإسناد حسن عن أنس بن مالك قال: قال رجل: يا رسول الله، إنا كنَّا في دار كثير فيها عددنا، وكثيرٌ فيها أموالنا، فتحوَّلنا إلى دار أخرى، فقلَّ فيها عددنا، وقلَّت فيها أموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذروها ذميمة))، قال البغوي: فأمرهم بالتحوُّل عنها؛ لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال لظلِّها واستيحاش بما نالهم فيها، فأمرهم بالانتقال؛ ليزول عنهم ما يجدون من الكراهية، لا أنها سببٌ لذلك. [4] أخرجه أحمد 1: 168 (1445)، وابن حبان (4032) بلفظ: ((أربع من السعادة: المرأةُ الصَّالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاوة: الجار السُّوء، والمرأة السُّوء، والمسكن الضيِّق، والمركب السُّوء))، وإسناده صحيح على شرط البخاري، وأخرجه ابن حبان (6127) من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هام، فإن تكُ الطِّيَرة في شيءٍ، ففي المرأة والفرس والدار)). [5] أخرجه البخاري (2859)، ومسلم (2226). [6] أخرجه مسلم (2188)، انظر حديث: ((العين حقٌّ))، ص189.
الرابط: https://www.alukah.net/sharia/0/52319/ [7] الزَّريعة، كسَفينَة: الشيءُ المزروع، والزُّرْعة - بالضمِّ - كغرفة: البَذْر. [8] قال تعالى: ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾ [الصافات: 6]، وقال أيضًا: ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِير ﴾ [الملك: 5]، وقال أيضًا: ﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [النحل: 16]. [9] أخرجه البخاري (1038) في صلاة الاستسقاء، و (4147) في المغازي، ومسلم (71) في الإيمان. [10] هو العلامة محمود شكري الآلوسي المتوفى سنة 1342 رحمه الله تعالى، وقد فاز كتابه "بلوغ الأرب في أحوال العرب" المطبوع في ثلاثة أجزاء بجائزة ملك السويد والنرويج، كما في "أعلام العراق" للأثري ص93 - 97.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن