أرشيف المقالات

عظمة الهجرة

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 للأستاذ عبد الرحمن شكري يتخذ الناس من عبر الحوادث مثلاً للكمال في الخلق وشعاراً يذكر بما ينبغي أن يسلكوه وما يجب التنزه عنه من عمل أو قول، ويكون لهم كاللواء يجمعون أمرهم حوله، وكالحكمة يسترشدون بهداها ورشدها، وكالحداء للركب يعينهم في قافلة الحياة، وكالرمز يرجعون إلى مدلوله في كل أمر حازب، وكالعماد يعتمدون على قوته وعونه، وكالإمام يأتمون به وقد لا يستطيع المرء في كل حال من أحوال الحياة ألا يزايل شعاره، فقد تخونه نفسه أو تخونه الحوادث فيسلك مسلكاً لا يشاكل شعاره، ولكن المرء بخير إذا لم يمزق شعاره يأساً من أجل عجز عارض لا يلبث أن يزول؛ والمرء بخير أيضاً مهما تعددت سقطاته عن شعاره ومثله مادام له مثل يأتم به في فعله وقوله؛ وإذا كان اتباعه له في القول أكثر من أتباعه له في الفعل، فهذا أيضاً خير من ألا يكون له مثل يقدسه، وله نفسه أثر قل أو كثر وفي الهجرة النبوية لنا مثل وشعار ورمز إذا اعتبرنا بأسبابها وحوادثها؛ وهو رمز ذو معنيين: معنى فيما ينبغي أن نتجنبه من مشابهة المشركين في اضطهاد الحق والعقيدة النفسية والفكرة التي تنبعث منها، ومعنى فيما ينبغي أن نتخلق به من الإتمام بالنبي ﷺ في إبائه مزايلة الحق وصونه، وفي نصرته بالرغم من اضطهاد وضيق، وفي الاعتماد على الله في الشدة ولكل من المعنيين في الحياة شواهد وأمثلة وأمور تستدعي ذكرى الهجرة النبوية وذكرى حوادثها الجليلة ولو استطعنا أن نذكرها في كل أمر من أمور الحياة كان ذكرها خيراً من ذكرها في تاريخ واحد معين، على ما في ذكرها في هذا التاريخ الواحد المعين من خير وفضل وحمد أي الناس لا يضطهد الحق في أمور كثيرة من الأمور اليومية إذا كان في اضطهاده إياه كسباً ورزقاً، أو ثناء وحمداً، أو راحة ودعة، أو إرضاء عزيز، أو زلفى لدى كبير مسيطر محكم عليه؛ وحتى عند تخيل نيل الكسب غير المحقق نيله، وعند الأمل في الزلفى التي قد تخيب، يضطهد الناس الحق في أمور الحياة وروحهم روح المشركين ولفظهم لفظ المؤمنين.
ثم هم قد يعدمون حتى لفظ المؤمنين فلا يكاد يكون لهم من الإيمان إلا اسمه. هؤلاء لم يتعظوا بعظة الهجرة، ولم يتنزهوا عن الروح التي اضطهد المشركون بها النبي ﷺ.
وأمثال هؤلاء لا ينتفعون بإحياء ذكرى الهجرة النبوية مهما اشتغلت أبدانهم بإحياء من غير أن تشتغل قلوبهم بعظتها، ومن غير أن تتنزه نفوسهم عن مشابهة المشركين في اضطهاد الحق يقول المسيحيون: إن كل من يضطهد الحق في أمر من أمور الحياة يضطهد عيسى عليه السلام، ويعين أعداءه عليه، ويعادي روح الحق الذي جاء به؛ ونحن نقول مثل هذا القول عند ذكرى الهجرة النبوية وهي ذكرى اضطهاد المشركين للحق الذي جاء به النبي ﷺ، فكل من يضطهد الحق في أمر من أمور الحياة يضطهد روح الحق الذي جاء به النبي الكريم سواء أكان اضطهاد الحق في أمر من أمور الحياة طمعاً في مغنم أو في دعة أو صداقة أو زلفى وخير شعائر الدين ومواسمه وأعياده وذكره وتواريخه الجليلة مثل تاريخ الهجرة هو أن تحول بين المرء وبين عادته في قلب الفروض الخلقية إلى مسميات يحسب ترددها على لسانه عقيدة وإيماناً، وما هو بإيمان إذا كان لا يحتذيها، وإذا كان يشارك المشركين ويشابههم في اضطهاد الحق طمعاً في مغنم أو دعة أو صداقة أو زلفى، فيعادي الصدق في القول والعمل والعدل فيهما أيضاً، ويعادي الوفاء ومكارم الأخلاق، وهو إذا عاداها كان معادياً للحق الذي جاء به النبي ﷺ، وهذا هو المعنى الأول الذي نعتبر به في إحياء ذكرى الهجرة النبوية؛ والمعنى الثاني متصل به وهو قوة وعماد نصر، وهو الاعتماد على الله كما في الآية الكريمة التي وردت في حديث الهجرة: (إن الله معنا) كنت في بعض الأحايين أزور صديقاً لي من عادته إذا اتخذ شعاراً أن يكتبه في لوح كبير ويضعه أمامه ويذكر نفسه به، وكنت أرى على جدران منزله هذه الآية الكريمة مكتوبة بخط جميل في لوح كبير، وكان كلما دهمه أمر وكرثه خطب وأحس أنه لا يكاد يقوى على احتماله ينظر إلى هذه الآية الكريمة فيقوى بها على المصائب، وكانت له عوناً كبيراً في الحياة؛ وهذا من فضل إحياء ذكرى الهجرة النبوية، ومن فضل الائتمام بالنبي ﷺ، وطوبى لمن يستطيع مهما نالت منه المصائب أن يقول: (إن الله معنا)، وطوبى لمن روض نفسه على الحق والعدل والصدق في القول والعمل، وتنزه عن روح الإشراك ومعناه كما يتنزه عن لفظه واسمه، وجعل عظات الهجرة شعاراً له في كل أمر من أمور الحياة؛ بل طوبى للإنسانية لو أن كل إنسان أخذ بروح من تلك العظات ولم يجعل الغيرة على الحق والعدل حبائل كسب لا حقيقة لها في نفسه، ولم يجعل الفروض الخلقية مسميات يتباهى بترديدها.
لقد حدثت نفسي فقلت ماذا كان يكون لو أن النبي ﷺ قد رجع إلى هذه الحياة الدنيا كي يرى روح الحق الذي جاء به، ولكي يقيم الحجة على الناس.
هب أنه لم يذكر لهم اسمه وشاء أن يعرف كيف يلقون الحق في شخصه من غير أن يعرفهم بنفسه.
إنهم كانوا يرون رجلاً دأبه الحق والصدق والقصد والعدل في القول والعمل، وأنهم كانوا يرون رجلاً يطلب منهم كل هذه الصفات في أمور حياتهم وهو مطلب يثقل على نفوس الناس، وهم دنيويون يريدون من الصفات ما شابهها في المظهر وخالفها في الحقيقة، ويريدون المكسب والجاه من أي وجه وبأية وسيلة، فماذا كانوا يصنعون لو أنهم لم يعرفوا أن النبي ﷺ هو الذي يريد منهم روح الحق.
أكبر الظن أن مأساة اضطهاد الأولين له كانت تتجدد، وأكبر الظن أننا كنا نرى هجرة ثانية مثل الهجرة الأولى، ولكنها ليست هجرة على التخصيص من مكة إلى يثرب عبد الرحمن شكري

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١