أرشيف المقالات

المعاملة في الإسلام

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2المعاملة في الإسلام
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.   ربَّنا هب لنا حكمًا وألحقنا بالصالحين، واجعل لنا لسان صدق في الآخرين، واجعَلنا من ورثة جنة النعيم، واغفر لآبائنا يا خير الغافرين، ولا تُخزنا يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.   لم يأمر الإسلام المسلمَ أن يؤدي الفرائض فحسب، بل أمره كذلك أن يحسن معاملته مع الناس، حتى جعل المقياس الذي يقاس به المسلم هو معاملته لا صومه ولا صلاته، فمن حسُنت معاملته، دل ذلك على حُسن إسلامه، وإلا فليراجع المرء نفسه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا، ومَن غشَّنا فليس منا)؛ رواه مسلم.   والمراد: أنه من غشنا لا يعد امرأً سائرًا على طريقتنا وهدينا، فهو تعبير يراد به الزجر والتخويف، وعنه أيضًا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام (أي: مر على كومة طعام)، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله (يعني أصابه ماءُ المطر)، قال صلى الله عليه وسلم: أفلا جعلته فوق الطعام (ظاهرًا مكشوفًا غير مدفون)؛ حتى يراه الناس؟ مَن غشنا فليس منا؛ رواه مسلم وابن ماجه والترمذي، وعنه: من غشنا فليس منا، وأبو داود، ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعامًا، فسأله: كيف تبيع؟ فأخبره، فأوحى الله إليه أن أدْخِل يدك فيه، فإذا هو مبلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس منا من غش، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن غشنا)؛ يعني: من غش المسلمين، أما قوله صلى الله عليه وسلم في رواية الترمذي (من غش)؛ يعني: مَن غشَّ أي إنسان كان.   وروِي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام وقد حسَّنه صاحبُه، فأدخل يده فيه، فإذا طعام رديء، فقال: بِعْ هذا على حدة، وهذا على حدة؛ (فمن غشنا فليس منا)؛ رواه أحمد والبزار، والطبراني، ورواه أبو داود بنحوه عن مكحول مرسلًا، وقوله رضي الله عنه: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام وقد حسَّنه صاحبه؛ "معناه أنه زيَّن ظاهره كما هي عادة الباعة المتجولين؛ حيث يعمِدون إلى جيد الثمار، فيرصونها بعضها فوق بعض رصًّا بديعًا يُغري المشتري بالشراء، فإذا ذهبت لتشتري منه عمد الى الرديء، فوزن لك منه دون أن يضع لك من الجيد ثمرة واحدة، ومثل هذا الغش شائع جدًّا في أسواقنا؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: بع هذا على حدة وهذا على حدة، يعني: أن يجعل الجيد في جهة لبيعه بسعر، ويجعل الرديء في جهة أخرى ليبيعه بسعر آخر؛ لأن بيع الرديء بثمن الجيد غش وخداع للمشتري.   وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق، فرأى طعامًا مصبرًا (مبتلًّا بالماء)، فأدخل يده، فأخرج طعامًا رطبًا قد أصابته الماء- (أي: أصابته مطر السماء) - فقال صلى الله عليه وسلم لصاحبها: ما حملك على هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق إنه لطعام واحد، قال: أفلا عزلتَ الرطب على حدة، واليابس على حدة، (فيكون كل منهما منعزلًا عن الآخر مستقلًّا عنه)، فتبايعون ما تعرفون (حتى يكون البيع والشراء على شيء مشاهد معروف)، من غشنا فليس منا"؛ رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد.   وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار؛ رواه الطبراني في الكبير والصغير بإسناد جيد، وابن حبان في صحيحه، فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغش في البيع والشراء والمعاملة مكرًا وخداعًا، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: 43]، فمثل هذه الصفات لا تليق إلا بأهل النار.   وعن قيس بن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يبيع طعامًا، فقال: يا صاحب الطعام، أسفل هذا مثل أعلاه؟ فقال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من غش المسلمين فليس منهم؛ رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات.   وعن صفوان بن سليم (وهو من كبار التابعين) أن أبا هريرة رضي الله عنه مر بناحية الحرة[1]، فإذا إنسان يحمل لبنًا يبيعه، فنظر إليه أبو هريرة، فإذا هو قد خلطه بالماء (ويعرف اللبن المخلوط بالماء بتغير لونه)، فقال له أبو هريرة: كيف بك إذا قيل لك يوم القيامة: خلِّص الماء من اللبن؛ رواه البيهقي والأصبهاني موقوفًا بإسناد لا بأس به.   يقول محقق الترغيب محمد خليل هراس (ولكنه) في حكم المرفوع، فلا بد أن يكون أبو هريرة قد سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.   وقوله: (خلِّص الماء من اللبن): يعني اعزل اللبن عن الماء؛ حتى يرجع صريحًا كما كان قبل أن يخلطه، وهذا يفيد التعجيز، والمراد بذلك الزجر العنيف عن الغش، عافانا الله منه ومن كل ذنب يوصل إلى النار.   وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا (تاجرًا يعني بذلك الأمم السابقة وكان الخمر وقتئذ غير محرم)، كان يبيع الخمر في سفينة له ومعه قرد في السفينة، وكان (التاجر) يشوب (ويخلط) الخمر بالماء، (فألهم الله القرد)، فأخذ الكيس (كيس النقود التي يبيع بها)، فصعد الذِّروة (أي: صعد القرد أعلى السفينة حاملًا معه كيس النقود)، وفتح الكيس فجعل يأخذ دينارًا، فيلقيه في السفينة (في سفينة التاجر ثمنًا للخمر التي باعها ويأخذ) دينارًا (آخر فيلقيه) في البحر، (وهو ما يقابل الماء الذي خلط به الخمر)، حتى (فرغ ما في الكيس فقد) جعله نصفين (أي ضَيَّع نصف أمواله، فرماها في البحر جزاء غشه).   وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعًا فيه عيب إلا يُبينه؛ رواه أحمد وابن ماجه، والطبراني في الكبير، والحاكم؛ يعني أنه يحرُم عليه إخفاءُ ذلك العيب.   وعن تميم الدارمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ رواه مسلم والنسائي، إنما الدين النصيحة، وأبو داود وعنده قال: إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث ثوبان، إلا أنه قال: رأس الدين النصيحة، فقالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله عز وجل ولدينه، ولأئمة المسلمين وعامتهم.   من معاني النصيحة لعامة المسلمين أن يُبين المسلم لأخيه المسلم ما ينفعه، ويُنبهه على ما يضره، وأن يحب له ما يحب لنفسه، وأن يكره له ما يكره لنفسه، ومن ذلك ألا يغشَّه في المعاملة والبيع والشراء، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ رواه البخاري ومسلم وغيرهما، ورواه ابن حبان في صحيحه، ولفظه: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه.   وقد ربى الإسلام أتباعه على مبدأ أن يحب المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه، وفي هذا الباب أمثلة كثيرة، نذكر منها مثلين لنُبيِّن من خلالهما كيف أن الرعيل الأول من المسلمين تشربوا بمبادئ هذا الدين، وترجموها عملًا لا قولًا فحسب؛ يروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان - (يعني أقمشة متنوعة مختلفة الأسعار، ثمن نوع منها أربعمائة درهم، وثمن نوعها الآخر مائتا درهم) - فمر إلى الصلاة (ترك الدكان وذهب إلى المسجد ليصلي)، وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء الأعرابي وطلب حلة بأربعمائة درهم، فعرض عليه من الحلل المائتين، فاستحسنها (الأعرابي)، ورضِيها واشتراها، فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله (صاحب الدكان) يونس، فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريتها؟ فقال: بأربعمائة درهم، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين، فارجع حتى نردها، فقال (الأعرابي): هذه تساوي في بلدنا خمسمائة درهم وأنا ارتضيتها، فقال يونس: أتعرف أن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم ردَّه إلى الدكان، ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك (تشاجر معه)، وقال له: أما استحييتَ؟ أما اتقيتَ الله؟ تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها، فقال: فهلَّا رضيتَ له بما ترضاه لنفسك.   وقد روي أن جرير البجلي أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أرسل غلامًا له ليشتري له فرسًا، فذهب الغلام إلى بائع الفرس، وسأله وقال له: بكم تبيع هذه الفرس؟ فقال له بائع الفرس: أبيعه بكذا من المال، فقال له: هيَّا معي إلى سيدي لينتقدك الثمن (أي ليعطيه ثمنه نقدًا)، فأخذ الغلام الفرس وذهب به إلى جرير البجلي، فسأله: بكم اشتريتها يا غلام؟ فقال له الغلام: بأربعمائة درهم، فتوجه البجلي إلى بائع الفرس وقال له: أتبيعه بخمسمائة درهم؟ أتبيعه بستمائة درهم والرجل (صاحب الفرس) ساكت: وقال له أتبيعه بسبعمائة درهم؟ أتبيعه بثمانمائة؟ فقال له الرجل (صاحب الفرس): ما رأيت مشتريًا يزيد الثمن، (بل المعتاد أن المشتري يحاول جاهدًا أن يشتري الحاجة من صاحبها بأقل ثمن وأرخص ثمن ممكن)، فقال له البجلي: لقد عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم والفرس تساوي ثمانمائة درهم، فإذا أخذتها بأقل من ذلك، فقد خُنت عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.   فالمسلم يقاس بحسن معاملته، فقد أراد عمر رضي الله عنهم غداة يوم أن يولي رجلًا مسلمًا أمينًا أمرًا من أمور المسلمين، فسأل أصحابه إن كان أحدهم يعرف هذا الرجل المسلم الأمين، فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين، إنه فلان بن فلان القوَّام الليل، والصوام النهار، فقال عمر رضي الله عنهم: هل ناسبته في زواج؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: هل أنت جاره بيتَ بيتَ؟ قال: لا، قال: هل عاملته بالدرهم والدينار؟ قال: لا، فقال: إنك إذًا لا تعرفه، ذلك أن المسلم يُعرف جوهر إسلامه بالمعاملة.   والإسلام لم يأمر المسلم بأن يحسن معاملته مع الناس فحسب، بل أمره كذلك بأن يتمنى لهم الخير كما يتمناه لنفسه، فما أنبل قول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، كما حثَّه على أن يترجم هذا الحب للآخرين إلى عمل وسلوك، فيخدمهم بما يقدِر عليه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصنَ شوك على الطريق، فأخَّره، فشكر اللهُ له"، فغفر له؛ رواه البخاري.   فقد نال هذا العبد شكر الله له، ومغفرته؛ لأنه نحَّى غصن شوك عن طريق الناس.   اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعَل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آمين.


[1] وهي أرض ذات حجارة نخرة سود تقع قبل المدينة، وهناك حرة أخرى بظاهر المدينة.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير