أرشيف المقالات

الإكثار من ذكر الله عز وجل

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2الإكثار من ذكر الله عز وجل   ذكر الله تعالى: هو دعاؤه والثناء عليه باللسان، وتقديسه وتنزيهه عن النقائص والعيوب، واستحضار دائم اطلاعه ومعيته للعبد، وتبليغ دينه وهداية عباده إليه، وفعل طاعته وترك معصيته بالجوارح والأركان، وامتلاء القلب من تعظيمه ومحبته وخوفه ورجائه، والتوكل عليه مع الثقة به، والرغبة إليه والرهبة منه في كل آن.   ‌أ-  شأن الذكر والنصوص الواردة فيه: أمر الله تعالى أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، والمصطَفيْن من عباده وعموم المؤمنين به أن يذكروه ويكثروا من ذكره آناء الليل والنهار، وأن يختموا به جليل العبادات، ويتحروا به أشرف الأوقات، شكرًا لله تعالى على أن هداهم واجتباهم، واعترافًا بفضله ونعمه التي أولاهم، واستعانة به على ما كلَّفهم وابتلاهم، وعدة يواجهون به من عاداهم.   فإن الذكر رأس الشكر، وآية الاعتراف والاغتباط بالفضل لذي الفضل سبحانه، وهو نِعْمَ العون والعدة للأمور المهمة ومن براهين ذلك: 1- أن الله تبارك وتعالى قد أمر به خواص خلقه والمصطفين من عباده وعامة المؤمنين به، فقال سبحانه لزكريا بعد أن بشره بيحيى عليهما السلام: ﴿  وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [آل عمران: 41] وخاطب تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بعد أن منَّ عليه بالنبوة والرسالة بقوله: ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾ [المزمل: 8] وقال جل ذكره: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205].   2- وأنه تعالى وعد الذاكرين المكثرين من ذكره وعودًا كريمة وأجورًا عظيمة، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45] وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴾ [الأحزاب: 41 - 44] وقال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].   3- وكم جاء في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة تحث على ذكر الله عز وجل، وتبين عظم فضله وكثرة أجره، وحسن عاقبته على أهله في الدنيا والآخرة، فمن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريقه إلى مكة فمر على جبل يقال له جُمْدان فقال: «سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون» قيل: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات»[1].   وفي مسند الإمام أحمد عن معاذ رضي الله عنه وعند الطبراني عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «ذكر الله عز وجل»[2].   وروى ابن حبان عن معاذ رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل»[3]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عتق عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت حرزًا له من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك»[4]، «ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر»[5].   وفي صحيح مسلم عنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس»[6].   فينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يكثروا من ذكر الله عز وجل، عبادةً له وتقربًا إليه، ومحبة له، وإجلالًا له، وتلذذًا بذكره، ورغبةً فيما وعد الله الذاكرين المكثرين من كريم الثواب وحسن المآب، واستعانة به على عبادة الله وطاعته والدعوة إليه ومواجهة المدعوين والتحصن به من أذاهم وشرهم وفتنهم ومن شر كل ذي شر من الخلق، وأسوتهم في ذلك نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم في كمال ذكره لربه، وكثرته وتنويعه، وتحري جوامعه وأشرف أوقاته وأحسن هيئاته.   قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرًا لله عز وجل، بل كان كلامه كله في ذكر الله تعالى وما والاه، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرًا لله، وإخباره عن أسماء الر ب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرًا منه لله، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وحمده وتسبيحه ذكرًا منه له، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرًا منه له بقلبه، فكان ذاكرًا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله.
وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائمًا وقاعدًا، وعلى جنبه وفي مشيه وركوبه ومسيره ونزوله وظعنه وإقامته)
[7].   ‌ب- من فوائد ذكر الله: ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (الوابل الصيب من الكلم الطيب): لذكر الله تعالى أكثر من مائة فائدة، كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها، وقد تقدم ذكر شيء من شأن الذكر من كلام الله تعالى، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيان، فخير الدعاة إلى الله تعالى وأسعدهم في العاجل والآجل، وأكملهم اتباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم وأسعدهم بمعية الله وهداه وحفظه وأنفعهم لأنفسهم والناس، وأقواهم في الدعوة إلى الله أكثرهم لله ذكرًا، فإن ذكر الله تعالى مفاتيح لخزائن الخير، ومغاليق لمداخل الشيطان، وقطع لذرائع الشر، وجُنَّة من الخطر، وشر ما يجري به القدر، وعصمة من الفتن، ومطردة للشيطان، ومدد وعون وهداية وتسديد من الله تعالى للعبد وفتح لقلوب المدعوين، وشرح لصدورهم لهدى رب العالمين، وأوفر الناس حظًا من ثواب كل عبادة أكثرهم لله تعالى ذكرًا، وأكملهم من ذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.   فقد جاءت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تفيد أن أفضل أهل كل عبادة أكثرهم لله ذكرًا، فأفضل المصلين أكثرهم لله ذكرًا، وأفضل المتصدقين أكثرهم لله ذكرًا، وأفضل الصوام أكثرهم لله ذكرًا، وأفضل الحجاج أكثرهم لله ذكرًا، وأفضل المجاهدين أكثرهم لله ذكرًا، فهكذا أفضل الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أكثرهم لله تعالى ذكرًا.   ومما ورد صريحًا في ذلك ما رواه البيهقي مرسلًا أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي أهل المسجد خير؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا عز وجل».
قيل: فأي أهل الجنازة خير؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا عز وجل».
قيل: فأي المجاهدين خير؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا عز وجل».
قيل: فأي الحجاج خير؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا عز وجل»[8] الحديث، وفيه: قال أبو بكر رضي الله عنه: ذهب الذاكرون بالخير كله.   قلت: ومما يؤيد ذلك أن الله تعالى شرع الذكر وأمر به ورغب فيه مع وبعد هذه العبادات وغيرها، وذلك - والله أعلم - لأن ذكر الله تعالى يُرغّب الذاكر في العبادة، ويُنشّطه ويقويه عليها، ويدعوه على تكميلها والإحسان فيها، ويكمل نقصها ويسد خللها، ويحض على المداومة عليها والاستزادة مما شرع من جنسها، ويطرد الشيطان عن العابد حتى لا يفسد عليه عبادته وسائر عمله.   فالداعية إلى الله تعالى أولى الناس وأحقهم وأحوجهم إلى الاشتغال بذكر الله تعالى والإكثار منه، ليستعين به على مهمته وليتوصل به إلى بغيته، وليحصِّل به فوائده العظيمة ومنافعه الكبيرة وأجوره الكثيرة، وليستجن به من الشيطان الرجيم ومما يخاف ويحذر من العوائق والأخطار وغير ذلك مما هو عرضة له آناء الليل والنهار، فيحتاج إلى أن يذكر الله تعالى على كل أحيانه وفي جميع أحواله.   ولهذا لما أرسل الله تعالى موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - لدعوة فرعون كان مما أرشدهما إليه قوله سبحانه: ﴿ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴾ [طه: 42] أي: لا تفترا ولا تكسلا عن مداومة ذكري بالاستمرار عليه، والْزَمَاهُ كما وعدتما بذلك في قولكما: ﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴾ [طه: 33، 34] فإن ذكر الله تعالى فيه معونة على جميع الأمور ويسهلها ويخففها.   ولقد أرشد الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين وإمام الدعاة المصلحين بقوله: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205] فأمره الله سبحانه بالإكثار من ذكر الله آناء الليل والنهار، خصوصًا طرفي النهار - لما فيهما من مزية وفضيلة على غيرهما-، وأن يكون مخلصًا لله خاشعًا متضرعًا مضطرًا متذللًا ساكنًا متواطئًا على الذكر قلبه ولسانه بأدب ووقار وإقبال على ربه بقلبه، وأن يحذر الغفلة، فإن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه، وقال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [غافر: 55] فأمره بالصبر الذي يحصل به المحبوب، وبالاستغفار الذي فيه دفع المحذور والمرهوب، وبالتسبيح بالعشي والإبكار اللذَين هما أفضل الأوقات لتكفير الذنوب والفوز بالمطلوب، وفيهما من الأوراد والوظائف الواجبة والمستحبة، ما فيهما لأن في ذلك عونًا على جميع الأمور وخاصة الدعوة إلى الله تعالى.   وهذا يبين أن الإكثار من ذكر الله تعالى من أعظم العون على القيام بالمهام العظيمة، ولا سيما الدعوة إلى الملة المستقيمة.  

[1] أخرجه مسلم برقم (2676). [2] أخرجه أحمد في المسند برقم (27905)؛ والترمذي برقم (3377). [3] أخرجه ابن حبان (3/ 99). [4] أخرجه البخاري برقم (3293)؛ ومسلم برقم (2691). [5] أخرجه البخاري برقم (6405). [6] أخرجه مسلم برقم (2695). [7] انظر زاد المعاد (2/ 365). [8] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1/ 408)، وأخرج الإمام أحمد مثله برقم (15187).



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير