أرشيف المقالات

حديث: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2حديث: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى   عن عبدالله بن مغفل قال: جلست إلى كعب بن عجرة، فسألته عن الفدية، فقال: نزلت فيَّ خاصة وهي لكم عامة، حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: "ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أو ما كنت أرى الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاةً؟"، فقلت: لا، قال: "فصُم ثلاثة أيام، أو أطعِم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع".   وفي رواية: أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقًا بين ستة مساكين، أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام.   • قال البخاري: باب قول الله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]، وهو مخيرٌ، فأما الصوم فثلاثة أيام[1].   وذكر حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعلك أذاك هوامك، قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احلق رأسك وصُم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة؛ قال البغوي: قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ﴾ [البقرة: 196]، معناه: لا تحلقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لأذى في الرأس من هوام أو صداع؛ انتهى.   قوله: مخير من كلام المصنف استفاده من (أو) المكررة، وقد أشار إلى ذلك في أول باب كفارات الإيمان، فقال: وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبًا في الفدية، ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة ما كان في القرآن، أو فصاحبه بالخيار.   • قال الحافظ: (وأقرب ما وقفت عليه طرق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصُم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعِم"؛ الحديث.   والصيام المطلق في الآية مقيد بما ثبت في الحديث بالثلاث، قال ابن التين وغيره: جعل الشارع هنا صوم يوم معادلًا بصاع، وفي الفطر من رمضان عدل مد، وكذا في الظهار والجماع في رمضان، وفي كفارة اليمين بثلاثة إمداد وثُلث، وفي ذلك أقوى دليل على أن القياس لا يدخل في الحدود والتقديرات)[2].   • قوله: (جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية، فقال: نزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة)، وفي رواية عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه، وأنه يسقط على وجهه، فقال: "أيؤذيك هوامُّك"، قال: نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يتبيَّن لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُطعم فرقًا بين ستة، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام.   • قوله: (حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي)، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون، قال: وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمرَّ بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أيؤذيك هوام رأسِك"، قلت: نعم، قال: وأنزلت هذه الآية.   • قوله: (فقال: "ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أو ما كنت أرى الجهد بلغ منك ما أرى")، شك من الراوي: هل قال: الوجع أو الجَهد، والجهد بالفتح المشقة، وأرى الأولى بضم الهمزة؛ أي: أظن وأرى الثانية بفتح الهمزة من الرؤية، وفي رواية: "لعلك آذاك هوامك"، قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احلق رأسك".   • قال القرطبي: هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتب عليها الحكم فلمَّا أخبره بالمشقة التي نالته خفَّف عنه.   • وقال ابن قدامه: لا نعلم خلافًا في إلحاق الإزالة بالحلق؛ سواء كان بموس، أو مقص، أو نورة، أو غير ذلك.   • قوله: (أتجد شاة؟ فقلت: لا). • قال ابن عبدالبر: قدم الشاة، إشارة إلى ترجيح الترتيب، لا إلى إيجابه.   • قال النووي: ليس المراد أن الصيام أو الإطعام لا يجزئ إلا لفاقد الهدي، بل المراد أنه استخبره هل معه هدي أو لا، فإن كان واجده أعلَمه أنه مخيَّر بينه وبين الصيام والإطعام، وإن لم يجده أعلَمه أنه مخيَّرٌ بينهما[3].   • قوله: (فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين). • قال البخاري: باب قول الله تعالى: ﴿ أَوْ صَدَقَةٍ ﴾ [البقرة: 196]، وهي إطعام ستة مساكين[4]. وذكر الحديث وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق بين ستة، أو انسك بما تيسر".   • قال الحافظ: يشير بهذا إلى أن الصدقة في الآية مبهمة، فسرتها السُّنة، وبهذا جمهور العلماء.   • قوله: (وفي رواية: أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقًا بين ستة مساكين)، والفرق بفتح الفاء والراء وقد تسكن.   • قال الحافظ: مكيال معروف بالمدينة وهو ستة عشر رطلًا، ووقع في رواية ابن عيينة عند أحمد وغيره: والفرق ثلاثة آصُع، ولمسلم من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى: أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين[5].   • قال البخاري أيضًا: باب الإطعام في الفدية نصف صاع[6]، وذكر الحديث.   • قال الحافظ: أي لكل مسكين من كل شيء، يشير بذلك إلى الرد على من فرَّق ذلك بين القمح وغيره؛ قال ابن عبدالبر: قال أبو حنيفة والكوفيون نصف صاع من قمح وصاع من تمر وغيره، وعن أحمد رواية تضاهي قولهم، قال عياض: وهذا الحديث يرد عليهم.   • وقال البخاري أيضًا: باب النسك شاة وذكر الحديث.   • قال الحافظ: أي النسك المذكور في الآية؛ حيث قال: أو نسك، وروى الطبري من طريق مغيرة عن مجاهد في آخر هذا الحديث، فأنزل الله: ﴿ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]، والنُّسك: شاة.   قوله: فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يتبيَّن لهم أنهم يحلون هذه الزيادة؛ ذكرها الراوي لبيان أن الحلق كان استباحة محظور بسبب الأذى، لا لقصد التحلل بالحصر، وهو واضح، قال ابن المنذر: يؤخذ منه أن من كان على رجاء من الوصول إلى البيت - أنَّ عليه أن يقيم حتى ييئس من الوصول، فيحل، واتفقوا على أن مَن يَئسَ من الوصول، وجاز له أن يحل، فتمادى على إحرامه، ثم أمكنه أن يصل - أن عليه أن يمضي إلى البيت ليتم نسكه.   • قال الحافظ: وفي حديث كعب بن عجرة من الفوائد: أن السنة مبينة لمجمل الكتاب لإطلاق الفدية في القرآن، وتقييدها بالسنة، وتحريم حلق الرأس على المحرم، والرخصة له في حلقه إذا آذاه القمَّل أو غيره من الأوجاع، وفيه تلطفُ الكبير بأصحابه، وعنايته بأحوالهم وتفقُّده لهم، وإذا رأى ببعض أتباعه ضررًا، سأل عنه وأرشده إلى المخرج منه، قال: واستدل به على أن الفدية لا يتعين لها مكان، وبه قال أكثر التابعين، وقال مجاهد: النسك بمكة ومنى، والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء[7].   • قال الموفق: وكل هدي أو إطعام، فهو لمساكين الحرم إذا قدر على إيصاله إليهم، إلا فدية الأذى واللبس ونحوهما، إذا وجد سببها في الحل، فيُفرقها حيث وجد سببها، ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر، وأما الصيام فيُجزيه بكل مكان.   قال ابن تيمية: ويُجزئ في فدية الأذى رطل خبز عراقية، وينبغي أن يكون بأدم ومما يأكله أفضل من بر أو شعير، والمحرم إن احتاج وقطع شعره لحجامة أو غسل، لم يضره[8].   تتمة: قال مجاهد وغيره: الإحصار من عدو أو مرض أو كسر.   وروى أحمد عن عكرمة قال: سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كسر أو عرج، فقد حل، وعليه الحج من قابل"، قال عكرمة: سألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك، فقالا: صدق.   • قال الموفق: ومن أحصر بمرض أو ذهاب نفقته، لم يكن له التحلل، فإن فاته الحج تحلل بعمرة، ويحتمل أنه يجوز له التحلل كمن حصره العدو[9]؛ انتهى.   • قال في الاختيارات: والمحصر بمرض أو ذَهاب نفقة؛ كالمحصر بعدو، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ومثله حائض تعذَّر مقامُها، وحرُم طوافُها، ورجعت لم تطُف، لجهلها بوجوب طواف الزيارة، أو لعجزها عنه، أو لذَهاب الرُّفقة، والمحصر يلزمه دمٌ في أصح الروايتين، ولا يلزمه قضاء حجِّه إن كان تطوعًا، وهو إحدى الروايتين[10]؛ انتهى، والله أعلم.


[1] صحيح البخاري: (3/ 12). [2] فتح الباري: (3/ 12). [3] فتح الباري: (4/ 14، 15). [4] صحيح البخاري: (3/ 13). [5] فتح الباري: (4/ 16). [6] صحيح البخاري: (3/ 13). [7] فتح الباري: (4/ 19). [8] الاختيارات الفقهية: (1/ 466). [9] الشرح الكبير لابن قدامة: (3/ 527). [10] الاختيارات الفقهية: (1/ 468).



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير