أرشيف المقالات

ذوقيات مفقودة

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2ذوقيات مفقودة   الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن بعض الناس قد يتصرَّف بعض التصرُّفات، فيُؤذي غيره بسلوكه، ولا يحسُّ أنه آذاهم؛ لأنه لا يحسب للناس حسابهم، ولا يُراعي مشاعرهم، ولا يأبه بها؛ ولذلك يحتاج هؤلاء إلى من يُنبِّههم إلى أخطائهم؛ لأن بعضهم قد يتصرَّف جهلًا منه أو دون وعي بالآخرين، وكأنَّه يعيش وحده.   إن تعاليم ديننا أمرتنا بعدم إيذاء الناس؛ بل أمر ديننا بتفريج كربات الناس ومساعدتهم وإدخال السرور على قلوبهم؛ لا التضييق عليهم وزيادة الكلفة عليهم، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((أفْضَلُ الأَعْمالِ أنْ تُدْخِلَ على أخِيكَ المُؤمِنِ سُرُورًا، أوْ تَقْضِيَ عنهُ دَيْنًا، أوْ تُطْعِمَهُ خُبْزًا))؛ رواه ابن أبي الدنيا.   فنحن تنقصنا بعض الذوقيَّات والأدبيَّات في حياتنا الاجتماعية؛ لكي نُحسِن التعامُل مع الناس، وأعرضُ لكم بعض التصرُّفات الخاطئة التي نقع فيها دون أن نكترث بآثارها السلبية على نفسيَّة الناس، وقد يخجل بعضُنا من مصارحة زملائه بهذه الأخطاء والزلَّات، فأحببتُ ذكرها لنتجنَّبها.   الخطأ الأول: رمي النفايات من السيارات، تتعجَّب من بعض سائقي السيارات حين يرمون العلب الفارغة والمناديل من نوافذ سيارتهم أثناء القيادة؛ بل وقد يفعل ذلك الأب أمام أبنائه الصغار! ولا يشعُر كم يتكلَّف عمَّال النظافة حين يُلاحقُون مثل هذه النفايات ليلتقطوها، فلماذا لا يفكر هؤلاء الناس بأن يضعوا داخل سياراتهم أكياسًا صغيرة لوضع النفايات، لا تُكلِّفهم شيئًا؛ ليؤجروا على فعلهم، ويجعلوا الشوارع نظيفة، ويُخفِّفُوا العمل على عمَّال النظافة؟   ألم يعلموا أن إماطة الأذى عن الطريق صَدَقة؟! وهل ينتظرون من إدارة المرور أن تفرض غرامات على كل من يرمي نفايات من سيارته لكي نتوقَّف عن هذا العمل السلبي، وديننا قد نهانا عنه؟! وقل مثل ذلك على الذين يبصقون في الشارع أو على الرصيف، لا يُراعون مشاعر المارِّين في هذا الطريق، يستخسر أحدهم أن يضع في جيبه منديلًا ليستخدمه في مثل هذه الظروف، أو على الأقل أن يمسح البصاق بحذائه؛ لئلا يتقزَّز الناس منه، ألم أقل لكم إنه تنقصُنا بعض الذوقيَّات في تصرُّفاتنا؟   الخطأ الثاني: التدخُّل في شؤون الآخرين، فبعض الناس تراه فضوليًّا يتدخَّلُ في شؤون غيره، يسأل زملاءه أسئلة شخصية محرجة، فتراه يسأل: كم راتبك؟ أو كم ربحت في بيع الأرض الفلانية؟ أو كم تملك من أسهم؟ وكم عمارة عندك؟ وغيرها من أسئلة فيها تدخُّل في الخصوصيَّات، فلا شكَّ أنَّ هذا خُلُقٌ ذميمٌ يجعل الناس ينفرون من صاحبه، فليس من الذوق إحراج الآخرين بمثل هذه الأسئلة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكَهُ مَا لا يَعْنِيهِ))؛ رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة.   الخطأ الثالث: إن بعض الناس إذا أراد التحدُّث معك، اقترب منك كثيرًا حتى يكاد هواء نَفَسِه ورائحته تخنق أنفَك، لا سيَّما أن بعض هؤلاء به بخر، ورائحة فمِه كريهةٌ، ولا يحرص على تنظيف أسنانه، أو ممَّن يشرب الدخان، فيُؤذي الذي أمامه برائحة فمِه دون أن يشعُر، ويجعل الناس يهربون منه، ويتجنَّبُون إطالة الحديث معه.   وقل مثل ذلك عن بعض المدخنين الذين لا يتحرَّجُون أن يُشعلوا سجائرهم في مكان تجمُّع الناس؛ كمجلس أو مكتب، وينفثوا السموم في وجوه هؤلاء الناس، غير مُبالين بأذيَّة جُلسائهم برائحة الدخان الضارَّة، وحرمانهم من تنفُّس الهواء النقي، وقد تضطرُّ أنت أن تخرج من المكان وهو غير مكترث بما يفعل.   الخطأ الرابع: أنك ترى البعض واقفًا في طابور ينتظر دوره، فتُفاجئ بمن يأتي متأخِّرًا ليتقدَّم على كلِّ مَنْ سبَقَه، بحجَّة أنه مستعجل، وكأن الناس ليس لديهم أشغالٌ مثله! فلا يُراعي مشاعر أحد، ولا يحترم هؤلاء الواقفين.   الخطأ الخامس: عند انتظار دفن الميت، ترى البعض يُشيِّع جنازةً، فيلتقي بصديق له لم يره منذ فترة، فيتضاحكان ويتحدَّثان بصوتٍ مرتفعٍ أمام أهل الميت المفجوعين بمصابهم، ولا يراعي شعورهم، ولا يحسُّ بحرارة المصيبة التي وقعت عليهم؛ وإنما تراه يضحك بحضرتهم.   إن من أعظم وأهم الأدب الغائب عنَّا عند تشييع الجنائز: أدب الصمت والتفكُّر وعدم الخوض في أحاديث الدنيا، وهكذا كان أدب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقبرة؛ كانوا إذا دخلوها كأن على رؤوسهم الطير من الصمت والتفكُّر بالموت، وبما يصير إليه الميت.   لقد أصبح شهود الجنائز في المقبرة لدى البعض مناسبة للقاء الأصدقاء والمعارف والتحدُّث فيما بينهم من أمور الدنيا، وليس لتذكُّر الموت والآخرة.   يذهب الواحد منَّا إلى المقبرة يريد أن يبكي، يريد أن يخشع قلبه وتدمع عينه؛ لكنه يرجع في أغلب الأحيان بخُفَّي حُنين؛ بسبب الضوضاء والإزعاج والأحاديث الجانبية التي يُثيرها بعض المشيِّعين في المقبرة.   وإنك ترى البعض قد يتصل عليه زميله بالجوال وهو في المقبرة، فلا يقول له: إني في حضرة جنازة؛ ولكنه يسترسل معه في الحديث، ويعلو الضحك، ويطول الحديث، ويذكره بمكان السهرة، ويؤكد عليه موعد العَشَاء، ولا يخطر بباله أنه في موطن له هيبته، يندب فيه الخشوع، وتذكُّر الموت، ونبذ الدنيا، ولو لفترة وجيزة.   الخطأ السادس: عدم احترام كبار السن، فبعض الناس قد يدخل عليهم رجل طاعن في السنِّ، فلا ترى من يقوم من مقعده ويؤثره به، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ))؛ رواه أبو داود.   وقد ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا))؛ رواه الترمذي.   فإذا دخل ذو شيبة في مكان عام؛ كصالة انتظار لطبيب أو نحوه، فلم يجد مكانًا، فينبغي للشباب خصوصًا التنازُل عن أماكنهم لذلك الكبير؛ استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر بإِكْرَامِ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، ومن فعل ذلك أجلَّه الله وعظَّم من شأنه في الدنيا والآخرة.   الخطأ السابع والأخير: وهو مضايقة الناس في طُرُقهم، فترى بعض المتأخِّرين عن صلاة الجُمُعة، وقد فاتَتْه الخطبة، يأتي مسرعًا يريد إدراك الصلاة، فيُوقِف سيارته في وسط الشارع، فيعيق حركة السير، ويمنع مرور بقية السيارات التي قد يكون بعض أصحابها متأخِّرًا مثله، فيضطرون إلى الوقوف خلفه في وسط الشارع، فيُغلَق ذلك الشارع تمامًا، وترى ذلك المتأخِّر إذا انتهى من صلاته قام ليُصلِّي السُّنَّة البَعْديَّة، أو قام يتحدَّث مع بعض رفاقه ناسيًا أن سيارته قد أغلقت الطريق وأن عشرات الأشخاص ممن انتهى من صلاة الجُمُعة ينتظرون داخل سياراتهم تحرُّك سيارته لينفك الزحام، وإذا تذكَّر وقوفه الخاطئ أسرع إلى سيارته وتحرَّك بكل برودٍ، كأنه لم يخطئ في حقِّ غيره.   وقل مثل ذلك حين تبحث عن موقف لسيارتك في مكان تراصَّت السيارات عرضيًّا وتزاحمت، فترى واحدًا من أصحاب هذه السيارات قد أوقف سيارته طوليًّا مستحلًّا مكان ثلاث سيارات بسوء تصرُّفه، وكأنَّ الأمر لا يعنيه.   وقل مثل ذلك أيضًا عند تشييع جنازة في المقبرة، فترى بعض المتأخِّرين يُوقفون سياراتهم عند مدخل المقبرة، فيحجزون عشرات السيارات التي داخل المقبرة، ويا ليت هذا المتأخِّر يُبادر إلى الخروج فور انتهاء الدفن؛ وإنما تراه ينتظر دوره في طابور طويل للتعزية، ناسيًا أن عشرات السيارات داخل المقبرة وبداخلها أصحابها ينتظرون تحرُّك سيارته.   وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من إيذاء الناس في طُرُقهم العامة، فقد روى حذيفةُ بنُ أسيدٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((مَنْ آذى المسلمين في طُرُقِهم، وجبت عليه لعنتهم))؛ رواه الطبراني؛ أي: حقَّت عليه لعنتُهم؛ أي: إذا دعا الناسُ عليه حُقَّ عليه دعاؤهم واستُجيب؛ مع العلم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اللَّعْن أصلًا؛ ولكن لو دعوا عليه استُجيب دعاؤهم عليه؛ فلا تجعل الناس يدعون عليك يا عبدالله بهذا التصرُّف.   جعلني الله وإيَّاكم من الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.




شارك الخبر

المرئيات-١