أرشيف المقالات

حديث: إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2حديث: إن مكة حرَّمها الله يوم خلق السماوات والأرض   عن أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي العدوي رضي الله عنه أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أُحدثك قولًا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، فسمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن مكة حرَّمها الله يوم خلق السماوات والأرض، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يؤذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحُرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب".   فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخربة.   الخربة: بالخاء المعجمة والراء المهملة، قيل: الجناية، وقيل: البلية، وقيل: التهمة وأصلها في سرقة الإبل، قال الشاعر: والخارب اللص يحب الخارب   ♦ قوله: (أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص) هو المعروف بالأشدق.   ♦ قال الحافظ: (عمرو ليست له صحبة، ولا كان من التابعين بإحسان، وعند أحمد لما بعث عمرو بن سعيد إلى مكة، بعَثه لغزو ابن الزبير، أتاه أبو شريح، فكلَّمه وأخبره بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى نادي قومه، فجلس فيه فقمت إليه، فجلست معه فحدث قومه، قال: قلت له: يا هذا، إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح، عدت خزاعة على رجل من هذين، فقتلوه وهو مشرك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبًا، فذكر الحديث.   ♦ قال الحافظ: وعمرو بن سعيد كان أميرًا على المدينة من قبل يزيد بن معاوية، قال: وقد ذكر الطبري القصة عن مشايخه، فقالوا: كان قدوم عمرو بن سعيد واليًا على المدينة من قبل يزيد بن معاوية في ذي القعدة سنة ستين، وقيل: قدمها في رمضان منها، وهي السنة التي ولي فيها يزيد الخلافة، فامتنع ابن الزبير من بيعته، وأقام بمكة، فجهَّز إليه عمرو بن سعيد جيشًا، وأمَّر عليهم عمرو بن الزبير، وكان معاديًا لأخيه عبدالله، وكان عمرو بن سعيد قد ولاه شُرطته، ثم أرسله إليَّ لقتال أخيه، فجاء مروان إلى عمرو بن سعيد، فنهاه فامتنع، وجاء أبو شريح، فذكر القصة، فلما نزل الجيش ذا طوى، خرج إليهم جماعة من أهل مكة، فهزموهم، وأسر عمرو بن الزبير فسجَنه أخوه بسجن عارم، وكان عمرو بن الزبير قد ضرب جماعة من أهل المدينة ممن اتهم بالميل إلى أخيه، فأقادهم عبدالله منه حتى مات عمرو من ذلك الضرب.   ♦ قوله: (وهو يبعث البعوث)؛ أي: الجيش المجهز للقتال... ♦ قوله: (أن أُحدثك قولًا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح)؛ أي: ثاني يوم الفتح. ♦ قوله: (فسمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به).   ♦ قال الحافظ: فيه إشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه، فقوله: سمعته؛ أي: حملتُه عنه بغير واسطة، وذكر الأذنين للتأكيد، وقوله: "ووعاه قلبي": تحقيق لفَهمه وتثبُّته، وقوله: "وأبصرته عيناي": زيادة في تحقيق ذلك، وأن سماعه منه ليس اعتمادًا على الصوت فقط، بل مع المشاهدة، وقوله: حين تكلم به؛ أي: بالقول المذكور، ويؤخَذ من قوله ووعاه قلبي أن العقل محلُّه القلب، قوله: إنه حمد الله هو بيان لقوله: (تكلَّم)، ويؤخذ منه استحبابُ الثناء بين يدي تعليم العلم، وتبيين الأحكام والخطبة في الأمور المهمة).   ♦ قوله: (إن مكة حرَّمها الله يوم خلق السماوات والأرض ولم يحرمها الناس). ♦ قال الحافظ: أي: حكم بتحريمها وقضاه، وظاهره أن حكم الله تعالى في مكة ألا يقاتل أهلها، ويؤمَّن مَن استجار بها، ولا يتعرَّض له، وهو أحد الأقوال المفسرين في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [آل عمران: 97]، وقوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ﴾ [العنكبوت: 67].   قال: والمراد بقوله: ولم يُحرمها الناس؛ أي: إن تحريمها ثابت بالشرع لا مدخل فيه للعقل، أو المراد أنها من مُحرمات الله، فيجب امتثال ذلك، وليس من محرمات الناس؛ يعني: في الجاهلية كما حرَّموا أشياءَ من عند أنفسهم، فلا يُسوغ الاجتهاد في تركه.   ♦ قوله: (فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة).   ♦ قال الحافظ: فيه تنبيهٌ على الامتثال؛ لأن مَن آمن بالله لزِمته طاعته، ومَن آمن باليوم الآخر، لزِمه امتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه خوفَ الحساب عليه، واستدل به على تحريم القتل والقتال بمكة[1].   ♦ قوله: (ولا يعضد بها شجرة)؛ أي: لا يقطع؛ قال ابن الجوزي: أصحاب الحديث يقولون يعضد بضم الضاد، وقال لنا ابن الخشاب: هو بكسرها.   ♦ قال القرطبي: خصَّ الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما يُنبته الله تعالى من غير صنع آدمي، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي، فاختلف فيه، والجمهور على الجواز[2].   ♦ قوله: (فإن أحد ترخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حُرمتها اليوم كحرمتها بالأمس).   وعند أحمد فإن ترخَّص مترخصٌ، فقال: أُحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله أحلها لي ولم يُحلها للناس.   ♦ قال الحافظ: قوله: "ساعة من نهار": تقدم في العلم أن مقدارها ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر، ولفظ الحديث عند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: لما فتحت مكة قال: كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر، فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: كفوا السلاح، فلقِي رجلٌ من خزاعة رجلًا من بني بكر من غد والمزدلفة، فقتَله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام خطيبًا، فقال: ورأيته مسندًا ظهره إلى الكعبة، فذكر الحديث، ويستفاد منه أن قتل مَن أذِن النبي صلى الله عليه وسلم في قتْلهم كابن خطل، وقع في الوقت الذي أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم فيه القتال[3].   ♦ قوله: (فليبلغ الشاهد الغائب).   ♦ قال ابن جرير: فيه دليلٌ على جواز قَبول خبر الواحد؛ لأنه معلومٌ أن كل مَن شهِد الخطبة قد لزِمه الإبلاغ، وأنه لم يأمرْهم بإبلاغ الغائب عنهم، إلا وهو لازمٌ له فرضُ العمل بما أبلغه كالذي لزِم السامع سواء، وإلا لم يكُن للأمر بالتبليغ فائدة.   قوله: فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلمُ بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بدم ولا فارًّا بخربة، قال الحافظ: أي: لا يُجيره ولا يعصمه.   ♦ قوله: (ولا فارًّا)؛ أي: هاربًا بدم.   ♦ قال الحافظ: والمراد: مَن وجَب عليه حدُّ القتل، فهرب إلى مكة مستجيرًا بالحرم، وهي مسألة خلاف بين العلماء، وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الحكم مساقَ الدليل، وفي تخصيصه العموم بلا مستند.   قال: وذكر الخربة وكذا الذم بعد ذكر العصيان من الخاص بعد العام، وقال: وقد وهم من عد كلام عمرو بن سعيد هذا حديثًا، واحتج بما تضمَّنه كلامه؛ قال ابن حزم: لا كرامة للطيم الشيطان يكون أعلم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغرب ابن بطال فزعم أن سكوت أبي شريح عن جواب عمرو بن سعيد دال على أنه رجع إليه في التفصيل المذكور، ويعكر عليه ما وقع في رواية أحمد أنه قال في آخره: قال أبو شريح: فقلت لعمرو قد كنت شاهدًا وكنت غائبًا، وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا وقد بلغتك، فهذا يشعر بأنه لم يوافقه، وإنما ترك مشاققته لعجزه عنه لما كان فيه من قوة الشوكة.   ♦ قوله: (الخربة بالخاء المعجمة والراء المهملة).   ♦ قال ابن بطال: الخُربة بالضم: الفساد، وبالفتح السرقة: وقد تشدق عمرو في الجواب وأتى بكلام ظاهره حق، لكن أراد به الباطل، فإن الصحابي أنكر عليه نصب الحرب على مكة، فأجابه بأنها لا تمنع من إقامة القصاص، إلا أن ابن الزبير لم يرتكبْ أمرًا يجب عليه فيه شيءٌ من ذلك، كان عمرو يرى وجوب طاعة يزيد الذي استنابه، وكان يزيد أمر ابن الزبير أن يبايع له بالخلافة، ويحضُر إليه في جامعه؛ يعني مغلولًا، فامتنع ابن الزبير وعاذ بالحرم، فكان يقال له بذلك: عائد الله، وكان عمرو يعتقد أنه عاص بامتناعه من امتثال أمر يزيد، ولهذا صدر كلامه بقوله: إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ثم ذكر بقية ما ذكر استطرادًا، فهذه شبهة عمرو وهي واهية، قال: وفي حديث أبي شريح من الفوائد غير ما تقدَّم جواز إخبار المرء عن نفسه بما يقتضي ثقته وضبطه لما سمعه، ونحو ذلك، وإنكار العالم على الحاكم ما يغيره من أمر الدين والموعظة بلُطف وتدريج، والاقتصار في الإنكار على اللسان إذا لم يستطع باليد، ووقوع التأكيد في الكلام البليغ، وجواز المجادلة في الأمور الدينية، وجواز النسخ، وأن مسائل الاجتهاد لا يكون فيها مجتهد حجة على مجتهد، وفيه الخروج عن عهدة التبليغ والصبر على المكاره، لمن لا يستطيع بدًّا من ذلك، وتمسك به من قال: إن مكة فتحت عَنوة، قال: وفي الحديث شرف موقع وتقديم الحمد والثناء على القول المقصود؛ وإثبات خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، واستواء المسلمين معه في الحكم، إلا ما ثبت تخصيصه به ووقوع النسخ، وفضل أبي شريح لأتباعه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه، وغير ذلك[4]؛ انتهى والله أعلم.


[1] فتح الباري: (4/ 43). [2] فتح الباري: (4/ 43). [3] فتح الباري: (4/ 44). [4] فتح الباري: (1/ 199).



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير