أرشيف المقالات

شرح حديث: فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2شرح حديث: فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان
عن أبي صَالِحٍ السَّمَّان رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري رضي الله عنه يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ، أَرَادَ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ، فَنَظَرَ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلَّا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ، فَعَادَ، فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ أَشَدَّ مِنَ الدَّفْعَةِ الأُولَىٰ، فَمَثَلَ قَائِمًا، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ زَاحَمَ النَّاسَ، فَخَرَجَ، فَدَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ، قَالَ: وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: مَا لَكَ وَلاِبْنِ أَخِيكَ؟ جَاءَ يَشْكُوكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أحدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ)).   ولمسلم من حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم: ((فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ)).   تخريج الحديثين: حديث أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه أخرجه مسلم (505)، وأخرجه البخاري في "كتاب الصلاة" "باب: يردُّ المصلي مَنْ مرَّ بين يديه"، حديث (697)، وأخرجه أبو داود في "كتاب: الصلاة" "باب: ما يؤمر المصلي أن يدرأ عن الممر بين يديه"، حديث (700).   وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه، فأخرجه مسلم (506)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه ابن ماجه في "كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها" "باب: ادْرَأ ما استطعت"، حديث (955).   شرح ألفاظ الحديثين: "عن أبي صَالِحٍ السَّمَّان": اسمه: ذكوان السَّمَّان الزيَّات (لأنه كان يجلب الزيت إلى الكوفة) المدني مولى عند جويرية بنت الأحمس، روى عن جَمْع من الصحابة، منهم: أبو سعيد، وأبو هريرة، وجابر، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم؛ قال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: ثقة، صالح الحديث، يُحتَجُّ بحديثه، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث؛ [انظر: تهذيب التهذيب (3/ 219)].   "بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ": قال ابن حجر: "وقع في كتاب "الصلاة لأبي نعيم" جاء الوليد بن عقبة بن أبي معيط"، وفيه نظر؛ لأن الوليد حينئذٍ لم يكن شابًّا؛ بل كان شيخًا، فلعله ابنه"؛ [فتح الباري (1/ 260)].   "أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ"؛ أي: قريبًا منه بينه وبين سترته. "فَنَظَرَ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا"؛ أي: طريقًا وممرًّا. "فَمَثَلَ قَائِمًا": بفتح الميم، وفتح الثاء، ويجوز ضمُّها لغتان؛ أي: انتصب. "ثُمَّ زَاحَمَ النَّاسَ": الخارجين من المسجد، يُسرع بالشكوى. "فَدَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ": مروان بن الحكم، وكان أميرًا على المدينة في خلافة معاوية.   "مَا لَكَ وَلاِبْنِ أَخِيكَ": قال ابن حجر:" أطلق الأخوة باعتبار الإيمان، وهذا يؤيد أن المارَّ غير الوليد؛ لأن أباه عقبة قُتِل كافرًا"؛ [فتح الباري (1/ 583)].   "فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ": بيده في لطف.   "فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ"؛ أي: فليدفعه بشدَّة؛ وليس المراد المقاتلة بالسلاح، ولا بما يؤدي إلى الهلاك بالإجماع؛ وإنما المراد أن يدفعه بلطف، فإن أبى دفعه بأشد؛ كما فعل أبو سعيد في حديث الباب. قال البغوي رحمه الله: "المراد من المقاتلة الدفع بعنف لا القتل"؛ [شرح السنة (2/ 456)].   "فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ": الضمير يعود على الشخص المارِّ بين يدي المصلي، ومعنى (شيطان)؛ أي: متمرِّد من بني آدم، تعدَّى وعتا، والغرض من هذا التعليل: الحث على مدافعته؛ لأنه يفسد على المصلِّي صلاته أو ينقصها.   "فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ"؛ أي: إن الحامل له على المرور بين يدي المصلي هو الشيطان الذي هو قرينُه؛ لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحدٍ إلَّا وقد وكِّل به قرينُه من الجنِّ"، قالوا: وإياك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ((وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير))، وفي لفظ: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكِّل به قرينُه من الجن وقرينه من الملائكة)).   قوله: (فأسلم) بضم الميم وفتحها، الضم معناها: فأسلم أنا منه، وهي التي صحَّحَها الخطابي ورجحها، والفتح على معنى: أنه أسلمَ من الإسلام، ورجَّحها القاضي عياض في شرحه على مسلم (8/ 350)؛ لقوله: ((فلا يأمرني إلا بخير)).   من فوائد الحديثين: الفائدة الأولى: الحديث دليل على مشروعية ردِّ المارِّ بين يدي المصلي؛ لأن مروره يشوش على المصلي، ويُوقِعه في الإثم.   واختُلف في حكم ردِّ المارِّ على قولين: القول الأول: أن دفع المارِّ واجبٌ؛ لقوله: ((فليدفع))، والأمر يقتضي الوجوب، قالوا: واللفظ الآخر ((فإنْ أبَى فليقاتله)) يؤيد ذلك، وهذا القول رواية أحمد، ونسب ابن حجر القول بالوجوب للظاهرية، واختاره الشوكاني؛ [انظر: الفروع (1/ 471)، والإنصاف (2/ 94)، وفتح الباري (1/ 584)، ونيل الأوطار (3/ 8)].   والقول الثاني: أن دَفْع المار سُنَّة مؤكَّدة، وبه قال جمهور العلماء، قال النووي: "لا أعلم أحدًا من العلماء أوجبه"؛ [شرح مسلم (4/ 446)]، وتعقَّبَه ابن حجر بالخلاف كما تقدَّم.   واختار شيخنا العثيمين رحمه الله التفريق بين ما يقطع الصلاة؛ كالمرأة، والكلب الأسود، والحمار، فيجب ردُّه، وبين مَنْ لا يقطعها فيستحب؛ [انظر: الممتع (3/ 245)].   الفائدة الثانية: الحديث دليل على أن مدافعة المارِّ تكون بالأسهل فالأسهل، يدفعه أولًا بالإشارة وبلطف، فإن أبى دفعَه بشدة؛ لأنه شيطان، فإن سقط وأصابه جرح أو كسر، فلا ضمان عليه؛ لأنه هو المعتدي، والرد مأذون فيه، والقاعدة: "أن ما ترتب على المأذون غير مضمون".   الفائدة الثالثة: ظاهر الحديث أن دَفْع المارِّ مُقيَّد بما إذا وضع المصلي سترة؛ لقوله: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس))، ومفهومه أن المصلي إذا قصَّر في وَضْع السترة فليس له أن يدفعه، وبهذا قال جماعة من أهل العلم؛ كالخطابي، والبغوي، والنووي، وابن القيم، وابن حجر، والصنعاني والشوكاني وغيرهم، وحكى النووي الاتفاق على أن الدفع خاصٌّ بمن اتخذ سترة؛ [انظر: شرح مسلم [4/ 447)]، وفي اتفاقه نظر؛ لأن الخلاف ثابت، وممَّن حكاه النووي نفسه في شرحه على المهذب؛ [انظر: المجموع (3/ 249)].   والقول الثاني: أن المصلي يردُّ المارَّ مطلقًا، سواء كانت له سترة أم لا. واستدلوا بحديث أبي رضي الله عنه عند البخاري ولفظه: ((إذا مرَّ بين يدي أحدكم شيء وهو يصلي فليمنعه، فإن أبى فليمنعه، فإن أبى فيقاتله؛ فإنما هو شيطان))؛ قالوا: وليس في الحديث ذكر السترة، وكذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه عند مسلم، ولفظه: ((إذا كان أحدكم يصلي فلا يَدَعْ أحدًا يمرُّ بين يديه، فإن أبى فليقاتله؛ فإن معه القرين))، وليس فيه ذكر السترة، وهذا القول وجه في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة، واختاره الشيخ ابن باز [انظر: تعليقه على فتح الباري (1/ 582)]، وشيخنا العثيمين [انظر: تعليقه على مسلم (3/ 293)].   وسبب الخلاف بين القولين: أن أصحاب القول الأول حملوا المطلق في أحاديث القول الثاني على المقيَّد، فقالوا: لا يرد المار إلا إذا وَضَعَ السترة.   وأصحاب القول الثاني قالوا: لا يحمل المطلق على المقيَّد؛ لأن المقيَّد أغلب لا مفهوم له، وحينئذٍ يبقى المطلق على إطلاقه.   ومما يؤيد الدَّفْع مطلقًا الحديث القادم؛ حديث أبي جهيم رضي الله عنه، ففيه دلالة على تحريم المرور بين يدي المصلي، سواء كان له سترة أم لا، وإذا كان محرَّمًا فيجب على المصلي منعه من ارتكاب المحرَّم، فيدفعه ويمنعه من التشويش.   الفائدة الرابعة: الحديث دليل على جواز الحركة في الصلاة لمصلحة الصلاة حيث شرع للمصلي رد المارِّ ومدافعته.   الفائدة الخامسة: الحديث دليل على عظم منزلة الصلاة، ومناجاة الله تعالى؛ حيث شُرع لها ما يحفظها بالسترة، ومن يدافع عنها بردِّ المار بين يدي المصلي؛ لئلا يحصل له تشويش أو شغل عما هو فيه.   الفائدة السادسة: الحديث دليل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على تطبيق هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم، كما حصل لأبي سعيد مع ابن أبي معيط، ودليل على حسن حال الخلفاء والأمراء فيما سبق، ووجهه أن أبا سعيد حين استدل لفعله بقول النبي صلى الله عليه وسلم عند مروان بن الحكم سكت، ولم يعترض عليه بشيء.   مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الصلاة)



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣