أرشيف المقالات

الغني جل جلاله

مدة قراءة المادة : 29 دقائق .
2الغَنيُّ جلَّ جلالُه
قال تعالى: ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 68].   وقال تعالى: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 8]. وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40]. وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 6]. وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15].   معنى الاسم في حق الله تعالى: (الغَني) جل جلاله: هو المستغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل مَن عداه. فسبحانه الخلق جميعًا فقراء إلى إنعامه وإحسانه، فلا يفتقر إلى أحد في شيء، وهذا هو الغنى المطلق الذي لا يشارك الله تعالى فيه غيره، وأي غَنيٍّ سوى الله، فغناه نسبيٌّ مقيدٌ.   (الغني) جل جلاله: هو الذي يغني مَن يشاء من عباده، حسب حكمته ورحمته؛ كما قال عز من قائل: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الأنعام: 133].   (الغني) جل جلاله: هو الذي عطاؤه لا يمتنع، ومددُه لا ينقطع، وخزائنه ملأى لا تنفَد، وهنا يظهر الفرق بين غنى الرب وغنى العبد:   فغنى الرب ذاتي، لا ينفك عنه؛ قال ابن القيم (رحمه الله): هو سبحانه الغني بذاته الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه؛ لكماله وكمال صفاته، لا يتطرق إليه نقصٌ بوجه من الوجوه، بيده خزائن السماوات والأرض، وخزائن الدنيا والآخرة.   أما العبد، فهو فقيرٌ بذاته، غنيٌّ بما أغناه الله، ففقر العبد مطلق؛ لأن حياته متعلقة بروحه، وروحُه أودعها فيه الغني بغير إذن منه، وجعلها عارية مستردة، وسيسلبها منه بغير إذن منه، ولا علم بذلك، فأين الغنى إذًا؟ • فغنى العبد من كثرة العَرَض الذي وهبه الله له، فإن سلبه الله إياه، افتقر، فالعبد يحتاج إلى ما يَستغني به، ويحتاج إلى مُغنٍ يُغنيه، والغنيُّ جل جلاله إن شاء منعه وإن شاء أعطاه، إن شاء أفقره وإن شاء أغناه.   ♦ من مظاهر غناه جل جلاله: 1- أن خزائنَ السماوات والأرض بيده، وأن جودَه على خلقه متواصلٌ، وأن يده سبحانه ملأى بالخير الليل والنهار، فعطاؤه لا يمتنع، ومددُه لا ينقطع؛ عن أبي هريرة ( رضي الله عنها) أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (يدُ الله ملأى لا يغيضها [ينقصها] نفقةٌ، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ؛ أي: دائمة الصب فيَّاضة بالعطاء]، أرأيتم ما أنفقه منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض [يُنقص] ما في يده، عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع"[1].   2- أن الخلق لو اجتمع أولهم وآخرهم في صعيدٍ واحدٍ، فأعطى كلَّ واحدٍ منهم ما سأل، ما نقص من مُلكه مثقال ذرةٍ؛ عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة، قال: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنقصُ المُحيط إذا أدخل البحر...."[2].   3- أنه تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، كما لا تضره معصية العاصين؛ قال الله تعالى في الحديث القدسي، حديث أبي ذرٍّ المتقدم: "يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنَّكم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم، كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما نقص ذلك من مُلكي شيئًا"[3].   4- أنه تعالى لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا ولا شريكًا في الملك، ولا وليًّا من الذل، وذلك لكمال أسمائه وصفاته، سبحانه وتعالى وجل شأنه.   5- أنه تعالى مالك السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، لا شريك له في شيء من ذلك؛ قال تعالى: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الحج: 64].   6- أنه تعالى لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقُه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه خلقُه، وذلك لكمال أسمائه وأوصافه سبحانه وتعالى وجل شأنه.   7- أنه تعالى يأمر عباده بدعائه، ويعدهم بإجابة دعائهم وإسعافهم بجميع مرادهم.   8- أنه تعالى بسط لعباده من الأرزاق وأدرَّ عليهم من الخيرات، وأنزل عليهم من البركات، وتابع عليهم من النعم التي لا تُعد ولا تُحصى، ويسَّر لهم من الأسباب الموصلة إلى الغنى، وأفاض على قلوب أوليائه من المعارف الدينية والعلوم الربانية والحقائق الإيمانية، حتى تعلقت قلوبهم به، ولم يلتفتوا إلى أحدٍ سواه.   9- أن الخلائق بأسرها لا تستغني عنه طرفةَ عينٍ في أي حالٍ من الأحوال، فهم فقراء إلى الله على الإطلاق في كل شيء؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]. • فقراء إلى الله في الخلق والإيجاد. • فقراء إلى الله في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح التي لولاها لما عملوا شيئًا. • فقراء إلى الله في إعدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة. • فقراء إلى الله في صرف النِّقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الشدائد والكروب عن طريقهم. •فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية. • فقراء إلى الله في تعليمهم ما لا يعلمون. • فقراء إلى الله في عفوه عنهم ومغفرته لهم وستره عليهم. • فقراء إلى الله في قَبول أعمالهم.   10- أنه تعالى بسط على أهل جنته ودار كرامته من اللذات المتتابعات والكرامات المتنوعات، والخيرات المتواصلات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهذا قطر من سيل غناه سبحانه.   ♦ كيف نعبد الله باسمه الغَني؟ ١- أن نُظهر افتقارنا إلى الغني جل جلاله: لأنه لا حول لنا ولا قوة فعلًا إلا به، ولا غنى لنا عنه طرفة عين، فنحن مضطرون إليه على مدى أنفاسنا، وفي كل ذرةٍ من ذراتنا ظاهرًا وباطنًا، فمن افتقر إلى الله أغناه، وسدَّ فقره وآواه، ورعاه وتولاه.   لَمَّا سقى موسى ( عليه السلام) للمرأتين، تولى إلى الظل، ﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24].   لم يحتجْ إلى أحد، ولم يلجأ إلى أحد، ولم يستعن بأحد، وهو الذي خرج طريدًا خائفًا، لكنه أعلن فقره إلى الله، واستغنى به عمن سواه، فآواه وكفاه، وأكرمه وأغناه.   ولو حقق العبد افتقاره إلى الله، حاز جائزتين عظيمتين: أولهما: كان موِّحدًا خالصًا؛ لأن حقيقة التوحيد أن يُفرَّغَ القلب مما سوى الله. ثانيهما: الغنى عن الخلق، وهو معنى الافتقار إلى الله وثمرته.   وأعظم شيء يفتقر فيه العبد إلى الله: أمر الهداية، فالعبد المفتقر إلى الله يعلم أن العبادات التي يقوم بها، وأن الهداية التي وفِّق لها، ما هي إلا خالص توفيق من الله، وهذا معنى (لا حول ولا قوة إلا بالله)، ومعنى قولنا في سائر صلواتنا: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 5، 6].   ومعنى قول أهل الجنة: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 43].   فيجب على العبد أن يفتقر إلى الله تعالى في: • أن يوفقه إلى الطاعات وأن يُثبته عليها. • وأن يتقبلها منه وأن يثيبه عليها.   ثم لا ينسب العمل إلى نفسه، بل إلى فضل الله وتوفيقه، فيزول الإعجاب ويبقى الأجر والثواب، واعلم أن أكمل الخلق عبوديةً لله، هم أكثرهم شهودًا لفقرهم وحاجتهم إلى الله، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "أصلِح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحدٍ من خلقك"[4].   وكان يدعو: "يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك"[5]. علِم عليه الصلاة والسلام أن قلبه بيد الرحمن جل جلاله، لا يملك منه شيئًا، وأن الله يصرفه كما يشاء، وأيقن أنما التثبيت من الله وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 74].   فوجب أن نعلن فقرنا إلى الله، وحاجتنا إليه في أمورنا كلها صغيرها وكبيرها وظاهرها وباطنها.   ♦ والافتقار إلى الله إنما يتحقق باستشعار عظمة الخالق سبحانه، واليقين بضَعف المخلوق وعجزه مهما بلغت قوته أو جاهه أو علمه.   ٢- أن نأخذ بالأسباب الشرعية للغنى: (الطريق إلى الغنى) (هل تريد أن تكون غنيًّا؟) وهل الغنى محمود حتى يأخذ العبد بأسباب تحصيله؟ الجواب: نعم، المال ما أجمله، وما أشرفه، وما أعزه، وما أكرمه إن حركته أيدي الصالحين! وما أحقره وأهونه إن حركته أيدي العابثين! ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي"[6].   • وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إنك إن تذر ورثتك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها أجر الله إلا أُجرتَ عليها حتى ما تجعل في في امرأتك"[7].   وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفقر وتأمُل الغنى، ولا تُهمل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان"[8].   ♦ الطريق إلى الغنى: إن الله تعالى جعل لكل شيء سببًا، وجعل للغنى أسبابًا يُنال بها، حسية ومعنوية، قولية وفعلية، فمن أراد الغنى، فليستعنْ بالغني، وليأخذ بهذه الأسباب، فخذها بقوةٍ وأْمُر قومك يأخذوا بأحسنها.   ١- الاستقامة على طاعة الله: قال الله تعالى عن السابقين: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 66].   وقال: ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ [الجن: 16]، قال مجاهد: "لو استقاموا على طريقة الإسلام لأعطيناهم مالًا كثيرًا"، وقال أنس رضي الله عنه: "ماءً غدقًا: عيشًا رغدًا"[9].   حكِّم شرع الله تعالى في نفسك، وفي بيتك، يأتك رزقُك، ويجعل الله الغنى في قلبك وبين عينيك.   • وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: "تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسُد فقرك، وإلا تفعل ملأتُ صدرك شغلًا، ولم أسد فقرك"[10]. والتفرغ للعبادة ليس معناه الانقطاع لها، ولكن معناه ألا يُزاحم وقت العبادة غيرُها.   ٢- حمل همِّ الآخرة: • عن زيد بن ثابت ( رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت الدنيا همَّه، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"[11].   "فمن كان فقره بين عينيه، لم يزل خائفًا من الفقر، لا يستغني قلبه بشيء، ولا يشبع من الدنيا، ومن كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقِي من الدنيا"[12]، فتلك هي حقيقة الفقر، وتلك هي حقيقة الغنى.   • وذكر ابن أبي الدنيا عن معقل بن عبدالله الجَزَرِي قال: "كان العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه، وإذا غابوا، كتب بها بعضهم إلى بعض أنه: من أصلح سريرته، أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن اهتم بآخرته، كفاه الله همَّ دنياه"[13].   ٣- تقوى الله جل جلاله: فمن اتقى الله بفعل ما به أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وراقَبه في السر والعلن، أغناه من فضله وفتح عليه من بركات السماوات والأرض؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].   قال الإمام الرازي: "بركات من السماء بالمطر، وبركات من الأرض بالنبات والثمار، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة؛ وذلك لأن السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ومنهما يحصل جميع المنافع والخيرات..."[14].   • مَرَّ عبدالله بن عمر (رضي الله عنهما) مع أصحاب له في بعض نواحي المدينة، فوضعوا سُفرةً، فمرَّ بهم راعي غنمٍ، فسلَّمَ، فقال ابن عمر: هَلُمَّ يا راعي، هَلُمَّ، فأصِب من هذه السفرة، فقال: إني صائمٌ، فقال ابن عمر: أتصوم في هذا اليوم الحار وأنت في هذه الجبال ترعى هذه الغنم؟ فقال: أي والله أُبادر أيامي الخالية، فقال له ابن عمر - وهو يريد أن يختبر ورعه وتقواه -: بِعْنا شاةً من هذه الغنم نُعطيك ثمنها ونعطيك من لحمها، فقال: إنها ليستْ لي، إنها غنم سيدي، فقال ابن عمر: فما عسى سيدك فاعلًا إذا فقدها، فقلت: أكلها الذئب؟ فولَّى الراعي مدبرًا، وقد رفع أُصبعه إلى السماء، يقول: أين الله؟ فجعل ابن عمر يرددها: أين الله؟ أين الله؟ فلما قدم ابن عمر المدينة بعث إلى مولاه - مولى الراعي - فاشترى منه الغنم واشترى منه الراعي، فأعتق الراعي ووهب له الغنم"[15]. فتأمل: كيف حققت التقوى الغنى، وَلَنعيمُ الآخرة أعظم غِنًى.   ٤- الاستغفار: وكيف لا وفي الاستغفار حياةُ القلوب، وتفريج الكروب، وغفران الذنوب، ونيل كل مطلوب؟ أما علمتَ أن استغفار الأسحار مفتاحُ جنة الأبرار؟ قال عز من قائل: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18].   ﴿ كَانُوا ﴾؛ أي: المحسنون، ﴿ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾؛ أي: كان هجوعهم؛ أي: نومهم بالليل، قليلًا، وأما أكثر الليل، فإنهم قانتون لربهم، ما بين صلاة، وقراءة، وذكر، ودعاء، وتضرُّع.   ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ ﴾ التي هي قبيل الفجر، ﴿ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ الله تعالى، فمدوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل، يستغفرون الله تعالى، استغفار المذنب لذنبه، وللاستغفار بالأسحار فضيلةٌ وخصيصةٌ ليست لغيره؛ كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة: ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17][16].   فكيف يؤثرك الله بجنته وأنت لا تؤثره حتى على فراشك ونومتك! ‏قَالَ مَالِكُ بِنُ دِينَارٍ (رَحِمَهُ اللَّهُ): "البُكَاءُ عَلَى الخَطِيئَةِ يَحطُ الذُّنوبَ كَمَا تَحطُ الرِّيحُ الوَرقَ اليَابِس"[17].   فأي فوز هذا عندما يمثُل المرء أمام ربه وقد تناثرت ذنوبه كأوراق الخريف؟! فلا تستهن بلحظة استغفارٍ واحدة، فلا تعلم كم من الخير ستُرزق وكم من البلاء سيُرفع عنك!   قال تعالى في سورة نوح: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ [نوح: 10، 11]، المطر الذي به حياة الزروع والثمار والدواب والأبدان، ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ [نوح: 12]، المال والولد اللذان هما زينة الحياة الدنيا، ﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 12].   الحياة الجميلة الغنى العز في الأولى والآخرة. فهل أكثرت من الاستغفار، وجعلت لنفسك وردًا منه حتى يغنيك الله؟ دواؤك منك ولا تشعُر *** وداؤك فيك ولا تُبصر   ٥- الاستغناء بالغني عن الفقراء، بالخالق عن الخلق: كما قال صلى الله عليه وسلم: "ومن يستعفف يُعفه الله، ومن يستغنِ، يُغنِه الله"[18].   ويدخل في ذلك صدق التوكل على الله، بالركون إليه، واعتماد القلب حقيقةً عليه، مع الأخذ بالأسباب، فالجوارح تأخذ بالأسباب والقلوب متعلقةٌ صدقًا بمسبب الأسباب سبحانه وتعالى؛ ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه. فمن توكل على الله حقًّا كفاه، ومن استغنى به أغناه، ومن فوَّض الأمر إليه هداه، وجاد عليه بالنعم وأعطاه.   ٦- الرضا بما قسم الله: الرضا عبادة قلبية عظيمة، تتمثل في الخضوع والامتثال التام لقضاء الله، والتسليم الكامل لأوامره، والرضا نقيض السخط، يرضى المؤمن ويُذعن لما اختاره الله له، فلا يجزع لأمرٍ داهمه، ولا يرغب فيما منع الله عنه، موقنًا مؤمنًا أن أمر المؤمن كله خير، فالرضا نعيم الصابرين، وجنة المؤمنين، فيها يستريحون من عناء الدنيا، وهموم النفس وضِيقها، ففي الرضا بقضاء الله وما قسمه غنى في النفس وراحة للبال، على عكس من يسخط ولا يرضى بما قسمه الله، فإنه يكون على الدوام في شدٍّ وجذبٍ مع نفسه وفي كدرٍ وضيق؛ لذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلي بالرضا حتى نحوز ثمرته، حين قال: (وارضَ بما قسمَ اللهُ لَك تَكن أغنى الناسِ)؛ كما ورد في حديث أبي هريرة التالي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهنَّ، أو يعلم من يعمل بهنَّ؟»، قلت: أنا يا رسول الله، فأخذ يدي فعدَّ خمسًا، فقال: «اتَّقِ المحارم تكن أعبدَ الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك؛ فإنَّ كثرة الضحك تُميت القلب»[19].   ٧- فتح باب الصدقات: يقول صلى الله عليه وسلم: "ما فتح رجل باب عطية بصدقة أو صلة، إلا زاده الله تعالى كثرةً"[20]. وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: "أَنْفِقْ، أُنْفِق عليك"[21]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: "أنفق يا بلال، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا"[22]. فالمؤمن لا يصل إلى عطايا الله إلا بالأعطيات، ولا ينال هباته إلا بالهبات.   ٨- الإقبال على الزواج تعفُّفًا: أي: بنية العفاف، حفظ الفروج، وغض الأبصار؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32].   قال أبو بكر ( رضي الله عنه): "أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، يُنجز لكم ما وعدكم من الغنى"، وقال ابن مسعود: "التمسوا الغنى في النكاح"[23].   وفي الحديث يقول (عليه الصلاة والسلام): "ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله"[24].   ٩- بر الوالدين وصلة الأرحام: ذلك لأن الواصل موصول، ففي الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم: "الرحم معلقةٌ بالعرش، تقول: مَن وصلني وصلَه الله، ومَن قطعني قطَعه الله"[25]. وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنْسَأُ له في أثره، فليبرَّ والديه، وليصل رحمه"[26]. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أهل البيت لَيكونون فجرة، فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا"[27].   ١٠- المتابعة بين الحج والعمرة: كما قال صلى الله عليه وسلم: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكيرُ خبث الحديد والذهب والفضة"[28].   ١١- الدعاء واللجأ إلى رب الأرض والسماء: فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتُّقى والعفاف والغنى"[29].   فمن رُزق الهدى والتقى والعفاف والغنى، نال السعادتين، وحصل له كل مطلوب، ونجا من كل مرهوب. وعن عليٍّ رضي الله عنه أن مكاتَبًا [مدينًا] جاءه، فقال: إني عجزت عن كتابتي، فأعني، فقال: ألا أُعلمك كلماتٍ علمنيهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل صيرٍ دينًا أداه الله عنك؟ قل: "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك"[30].   وقال تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي، كلكم جائعٌ إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمْكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني، أُكسكم..."[31].   فواعجبًا ممن صُرف عن الدعاء، ما الذي صرفه؟ أضعفُ ثقته في مولاه؟ أم غفلته عمَّن خلقه وسواه؟ أم سوء ظنه بالله؟ أم أعمته دنياه وأضله هواه؟   وأخيرًا: اعلم أن الغنى الحقيقي هو غنى النفس، أن يكون العبد راضيًا قانعًا بما قسمه له الله، شاكرًا لما أعطاه إياه؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الغنى عن كثرة العرض، لكن الغنى غنى النفس"[32].   وعن عمرو بن تغلِب رضي الله عنه قال: أُتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال أو سبي فقسَمه، فأعطى رجالًا، وترك رجالًا، فبلغه أن الذين تركهم - يعني لم يعطهم - عتبوا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فوالله إني لأعطي الرجل، وأدَع الرجل، والذي أدع أحبُّ إليَّ من الذي أعطي، ولكني إنما أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكِلُ أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب، هذه تزكية من النبي صلى الله عليه وسلم له، منهم عمرو بن تغلب، قال عمرو بن تغلب: فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمر النعم"[33].   وعَنْ أَبِي ذرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى؟"، قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَتَرَى قِلَّةَ الْمَالِ هُوَ الْفَقْرُ؟"، قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ، وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ"[34].


[1] رواه البخاري. [2] رواه مسلم. [3] رواه مسلم. [4] رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني. [5] رواه الترمذي، وصححه الألباني. [6] رواه مسلم. [7] رواه البخاري. [8] رواه البخاري. [9] الدرر المنثور للسيوطي. [10] رواه أحمد والترمذي، وصحَّحه الألباني. [11] رواه ابن حبان وابن ماجه، وصحَّحه الألباني. [12] لطائف المعارف؛ ابن رجب. [13] الإخلاص لابن أبي الدنيا. [14] التفسير الكبير. [15] رواه أحمد في كتاب الزهد، وانظر الداء والدواء لابن القيم. [16] سير أعلام النبلاء؛ الذهبي. [17] تفسير السعدي. [18] الرقة والبكاء؛ لابن أبي الدنيا. [19] متفق عليه. [20] رواه الترمذي. [21] رواه أحمد، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع. [22] متفق عليه. [23] رواه البيهقي والطبراني في الكبير، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع. [24] انظر تفسير ابن كثير. [25] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني. [26] متفق عليه. [27] رواه ابن حبان في صحيحه، وحسَّنه الألباني. [28] صحيح الترمذي. [29] رواه مسلم. [30] رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني. [31] رواه مسلم. [32] رواه البخاري. [33] رواه البخاري. [34] أخرجه ابن حبان والحاكم، وصحَّحه الألباني.



شارك الخبر

المرئيات-١