أرشيف المقالات

معجزة الإسراء والمعراج

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2معجزة الإسراء والمعراج
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا إله سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي اصطفاه واجتباه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:   فإن رحلة الإسراء والمعراج ثابتة بالقرآن الكريم والسنة النبوية المباركة، فأقول وبالله تعالى التوفيق: قال الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].   ♦ قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): يُمجد تعالى نفسه، ويُعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، فلا إله غيره (الذي أسرى بعبده) يعني محمدًا، صلوات الله وسلامه عليه (ليلًا)؛ أي: في جنح الليل (من المسجد الحرام) وهو مسجد مكة (إلى المسجد الأقصى) وهو بيت المقدس الذي هو إيلياء، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل؛ ولهذا جمعوا له هنالك كلهم، فأمهم في محلتهم ودارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم، والرئيس المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.   ♦ وقوله: (لنريه)؛ أي: محمدًا (من آياتنا)؛ أي: العظام؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 18].   ♦ وقوله: (إنه هو السميع البصير)؛ أي: السميع لأقوال عباده مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم ومكذبهم، البصير بهم، فيعطي كلًّا ما يستحقه في الدنيا والآخرة؛ (تفسير ابن كثير، جـ8، صـ374:373 ).   وقال سبحانه: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 1 - 18].   روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار، ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه»، قال: «فركبته حتى أتيتُ بيت المقدس»، قال: «فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء»، قال: "ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجتُ فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب بي، ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكرياء، صلوات الله عليهما، فرحَّبا ودعوَا لي بخير، ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، إذا هو قد أُعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قال: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإدريس، فرحب ودعا لي بخير، قال الله عز وجل: ﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾ [مريم: 57]، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم، فرحب، ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال"، قال: "فلما غشِيها من أمر الله ما غَشِي تغيَّرت، فما أحدٌ من خلق الله يستطيع أن ينعتها مِن حُسنها، فأوحى الله إليَّ ما أوحى، ففرض علي خمسين صلاةً في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فرض ربُّك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاةً، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم"، قال: "فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب، خفِّف على أمتي، فحط عني خمسًا، فرجعت إلى موسى، فقلت: حطَّ عني خمسًا، قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف"، قال: "فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى، وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمد، إنهنَّ خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاةً، ومن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنةً، فإن عملها كتبت له عشرًا، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها لم تكتُب شيئًا، فإن عملها كتبت سيئةً واحدةً"، قال: "فنزلت حتى انتهيت إلى موسى صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييتُ منه"؛ (مسلم حديث:162).   الشرح: قوله: (أتيت بالبراق) البراق: اسم الدابة التي ركِبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. اشتقاق البراق من البرق لسرعته، وقيل: سُمي بذلك لشدة صفائه وتلألُئِه وبريقه.   قوله: (بيت المقدس)؛ أي: المكان الذي يطهر فيه من الذنوب.   قوله: (فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء): في ربط البراق بالحلقة دليل على الأخذ بالاحتياط في الأمور، وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى.   قوله: (فاخترت اللبن): المراد أنه صلى الله عليه وسلم قيل له: اختَر أي الإناءين شئتَ.   قوله: (اخترت الفطرة): فسروا الفطرة هنا بالإسلام والاستقامة، ومعناه والله أعلم اخترتَ علامة الإسلام والاستقامة، وجعل اللبن علامةً لكونه سهلًا طيبًا طاهرًا سائغًا للشاربين سليم العاقبة، وأما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة لأنواع من الشر.   قوله: (جبريل) فيه بيان الأدب فيمن استأذن بدق الباب ونحوه، فقيل له: من أنت، فينبغي أن يقول زيد مثلًا إذا كان اسمه زيدًا، ولا يقول: أنا؛ فقد جاء الحديث بالنهي عنه، ولأنه لا فائدة فيه.   قوله: (وقد بعث إليه): قول بواب السماء: (وقد بعث إليه)، فمراده وقد بعث إليه للإسراء وصعود السماوات، وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة، فإن أمر نبوته صلى الله عليه وسلم كان مشهورًا في الملكوت لا يكاد يخفى على أحد من الملائكة.   قوله: (ففتح لنا): قال القاضي عياض (رحمه الله): في هذا دليل على أن للسماء أبوابًا حقيقية وحفظةً موكَّلين بها، وفيه إثبات الاستئذان.   قوله: (فرحبَا ودعوَا لي بخير): فيه دليلٌ على استحباب لقاء أهل الفضل بالبشر والترحيب والكلام الحسن، والدعاء لهم وإن كانوا أفضل من الداعي، وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أُمن عليه الإعجاب وغيره من أسباب الفتنة.   (البيت المعمور): سُمي بذلك؛ لكثرة عمارته بدخول الملائكة فيه وتعبُّدهم عنده.   قوله: (وإذا ثمرها كالقلال): جمع قلة، والقلة جرَّة عظيمة تسَع قربتين.   قوله: (فرجعت إلى ربي): معناه: رجعت إلى الموضع الذي ناجيته منه أولًا، فناجيته فيه ثانيًا؛ (مسلم بشرح النووي، جـ 2، صـ 214:210).   ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا - أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]؛ كما أسأله سبحانه أن ينفعَ به طلابَ العلم.   وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير