أرشيف المقالات

تفسير: (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد)

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2تفسير قوله تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ﴾
قال تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ * وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 12 - 16].
المناسبة: لَمَّا ذكر أنه أَهْلَكَ قبلَ قريش قرونًا كثيرة لمَّا كذَّبوا رسلَهم، وهدَّد قريشًا وتوعدهم، سَرَدَ هنا على سبيلِ الاستئنافِ بعضَ هؤلاء الهالكين؛ تقريرًا لمضمون ما قبله، وزيادةً في تخويف الكفار وتهديدهم.
القراءة: قُرِئَ ﴿ فَوَاقٍ ﴾ بفتح الفاء وبضمها.
المفردات: ﴿ عَادٌ ﴾ قوم هود، وكانوا يسكنون الأحقاف جنوبي الجزيرة العربية، ﴿ الْأَوْتَادِ ﴾ جمع وتِد بكسر التاء وفتحها، وهو ما رَزَّ في الأرض أو الحائط من خشب، ﴿ ثَمُودُ ﴾ قوم صالح، وكانوا يسكنون الحجر، ﴿ قَوْمُ لُوطٍ ﴾ أهل سادوم وعامورة من دائرة الأردن، ﴿ الْأَيْكَةِ ﴾ الغيضة، وهي الأشجار الملتفة المجتمعة، و﴿ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ﴾ هم قوم شعيب عليه السلام، وكانوا يسكنون قرية مدين.
و﴿ إِنْ ﴾ نافية بمعنى ما، ﴿ فَحَقَّ ﴾ فثبت ووجب، ﴿ عِقَابِ ﴾ الأصل عقابي؛ أي: عذابي، ﴿ يَنْظُرُ ﴾ ينتظر، ﴿ هَؤُلَاءِ ﴾ الإشارة لأهل مكة، ﴿ صَيْحَةً ﴾ أصل الصيحة الصوت بأقصى الطاقة، والمراد هنا: النفخة الثانية، ﴿ فَوَاقٍ ﴾ بفتح الفاء وضمها، قيل: هما لغتان بمعنى واحد، وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ﴾ [الأعراف: 34]، وقيل: ﴿ مِنْ فَوَاقٍ ﴾ يعني: من رجوع، من أفاق المريض: إذا رجع إلى صحته، وأفاقت الناقة تفيق إفاقة: إذا رجعتْ، واجتمعت الفيقة في ضرعها، والفيقة: اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين.
وقال الفراء: ﴿ فَوَاقٍ ﴾ بالفتح: الإفاقة والاستراحة كالجواب مِن أجاب، وأما المضموم فاسم لا مصدر، والمشهور الأول أنهما بمعنى واحد، ﴿ قِطَّنَا ﴾؛ أي: نصيبنا، فالقِطُّ: الحظ والنصيب كما قال الفراء، وأصل القِطِّ القطعة من الشيء، من قَطَّهُ إذا قَطَعَهُ، ويطلق على الصحيفة بالجائزة؛ لأنها قطعة من القرطاس، ومنه قول الشاعر: وَلا المَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ *** بِنِعْمَتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ وَيُطْلِقُ
التراكيب: قوله تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ﴾ استئناف مقرر لمضمون ما قبله، وتأنيث قوم باعتبار معناه، وهو أنهم أمة وطائفة وجماعة، وقوله: ﴿ ذُو الْأَوْتَادِ ﴾؛ أي: صاحب الأوتاد، قيل: المراد أنه اتخذ أربعة أوتاد يشد إليها يَدَيْ مَنْ يريدُ تعذيبَه ورِجْلَيْهِ، وقيل معناه: ذو الملك الثابت، شبه ثبوت الملك بثبوت البيت المطنب بأوتاده، ومنه قول الأفوه الأودي: وَالبَيْتُ لا يُبْتَنَى إلاَّ عَلَى عَمَدٍ *** وَلَا عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أوتادُ
وكقول الأسود بن يعفر: ولقد غَنَوا فيها بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ *** في ظِلِّ مُلْكٍ ثابتِ الأَوتادِ
وقال ابن عباس في رواية عطية: الأوتاد: الجنود يُقَوُّون ملكَه كما يقوي الوتدُ الشيءَ، وقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ﴾ الظاهر أن الإشارة فيه راجعة إلى أقرب مذكور، وهم: قوم نوح، ومن عُطِفَ عليهم، وفيه تفخيم لشأنهم، وإعلاء لهم على من تحزَّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه: هؤلاء الأقوياء لما كذَّبوا الرسلَ عوقبوا، وأنتم كذبتم كتكذيبهم، مع أنكم أضعف منهم، ويجوز أن يكون ﴿ أُولَئِكَ ﴾ مبتدأ و﴿ الْأَحْزَابُ ﴾ خبره، والجملة: بدل من الطوائف المذكورة، ويجوز أن يكون ﴿ أُولَئِكَ ﴾ مبتدأ، والخبر ﴿ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ ﴾ مع حذف العائد، والتقدير: أي كلهم أو كلٌّ منهم، والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها.
وقوله: ﴿ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ ﴾ يجوز أن تكون الجملة خبرًا كما مرَّ، ويجوز أن تكونَ استئنافية لتقرير تكذيبهم على أبلغ وجه، وتمهيد ما عقب به، و﴿ كُلٌّ ﴾ مبتدأ، و﴿ إِلَّا ﴾ استثناء مفرغ، وجملة ﴿ كَذَّبَ ﴾ الخبر؛ أي: ما كلُّ واحد منهم محكومًا عليه بحكم أو مخبرًا عنه بخبر إلا بأنه كذب الرسل؛ لأن الرسل يصدق بعضهم بعضًا، وكلهم متفقون على الحق، فتكذيبُ كلِّ واحدٍ منهم تكذيبٌ لهم جميعًا، ويجوز أن يكون مِن مقابلة الجمع بالجمع، فيقتضي القسمة آحادًا، وعليه فالمعنى: ما كل واحد منهم محكومًا عليه بحكم أو مخبرًا عنه بخبر إلا بأنه كذب رسوله، والحصر هنا على سبيل المبالغة كأنَّ سائرَ أوصافهم بالنظر إلى ما أثبت لهم بمنزلة العدم، فيدلُّ على أنهم غالون في التكذيب، ويدل على ذلك أيضًا تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، وتنويع تكريره بالجملة الفعلية، ألا وهي ﴿ كَذَّبَتْ ﴾ وبالاسمية الاستئنافية ثانيًا وهي ﴿ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ ﴾، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التخصيص والتأكيد، فكل هذا يفيد أنواعًا من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العذاب وأبلغه؛ ولذلك رتب عليه قوله تعالى: ﴿ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾، وقد وقع عليهم عقابُ الله تعالى الذي أوجبته جناياتهم مع تنويع أصناف العقوبات؛ وأهلكتْ عاد بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة.
وقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ ﴾ شروع في بيان عقاب كفار مكة، بعد بيان عقاب أضرابهم من الأحزاب، فالمشار إليه بهؤلاء هم أهل مكة، والإشارة به لتحقير شأنهم وتهوين أمرهم.
وقوله تعالى: ﴿ مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ﴾، ﴿ مَا ﴾ نافية، و﴿ لَهَا ﴾ خبر مقدم، و﴿ مِنْ ﴾ حرف جر صلة، جِيءَ به لاستغراق النفي، و﴿ فَوَاقٍ ﴾ مبتدأ، والجملة في محل نصب صفة لـ﴿ صَيْحَةً ﴾.
وقوله: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ استئناف؛ لبيان استهزائهم بالوعيد، وسخريتهم من التهديد؛ ولتقرير مضمون ما تقدَّم مِن وصف استكبارهم وعنادهم.
المعنى الإجمالي: ليس تكذيبُ قريشٍ لكَ غريبًا في بابه، فريدًا في نوعه، ولستَ أوَّلَ مَن كذبه قومُه، لقد جحدتْ أمة نوح رسالته، ومن بعدها عادٌ كذبوا هودًا، وثمودُ كذبوا صالحًا، وفرعونُ الجبارُ الشديدُ الأذى كذب موسى، وأهل سادوم وعامورة من دائرة الأردن كذبوا لوطًا، وأصحاب الغيضة أهل مدين كذبوا شعيبًا، أولئك المتحزبون المتعصبون حقًّا، ما وصفوا بغير تكذيب رسلهم وجحد رسالات ربهم فأنزلتُ بهم عقابي، وأحللتُ عليهم غضبي، وهم أشدُّ من أهل مكة قوةً، وأكثرُ منهم جمعًا، فأغرقتُ قومَ نوحٍ بالطوفان، ودمرتُ فرعونَ غرقًا في اليمِّ، وأرسلت على عادٍ ريحًا صرصرًا في يوم نحس مستمر، وأخَذَتْ ثمودَ صاعقةُ العذاب الهون، وجعلتُ عاليَ أرضِ سادوم وعامورة سافلَها، وأرسلتُ عليهم حجارةً من طين، وأخذَ أصحابَ يومِ الأيكةِ عذابُ يومِ الظلة.
وما أنتم يا أهل مكة بخير من هؤلاء، وليسَ لكم براءةٌ في الزبر، وما تنظرون إلا نفخةَ القيامة، تؤمنون لديها، وتحاسبون عندها، وتعاقبون فيها العقاب الشديد الذي لا يخطر لكم على بال، ولا يمر منكم على خيال.
ولقد سخر هؤلاء الفَجَرَةُ من هذا الوعيد الشديد، واستهزؤوا بهذا التهديد، فقالوا: ربنا عجل لنا نصيبنا منه قبل يوم القيامة.
ما ترشد إليه الآيات: 1- تسليةُ النبي صلى الله عليه وسلم. 2- كانت الأممُ السابقةُ أقوى من أهل مكة. 3- طغيانُ فرعونَ وشدة إيذائه للمؤمنين. 4- أَخَصُّ صفاتِ الكفارِ التكذيبُ. 5- عقابُ المكذبين في العاجلة. 6- الإشارةُ بعدم استئصال أهل مكة. 7- سهولةُ إحياء الموتى. 8- الوعيدُ الشديدُ لأهل مكة. 9- سخريتُهم واستهزاؤهم بالوعيد.



شارك الخبر

المرئيات-١