أرشيف المقالات

جوارح الإنسان تشهد عليه يوم القيامة

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2جوارح الإنسان تشهد عليه يوم القيامة   الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إله الأوَّلين والآخرين، الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، مَنْ بعثَه الله رحمةً للعالمين، وهدايةً للخلق أجمعين، عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، أنوار الهدى، ومصابيح الدُّجى أجمعين، أما بعد:   فإن أعضاء جسم الإنسان سوف تشهد على أعماله يوم القيامة، فأقول وبالله تعالى التوفيق: قال الله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [فصلت: 21 -23].   قال الإمام ابن كثير رحمه الله: قوله: ﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ ﴾؛ أي تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم: ما كنتم تتكتمون منا الذي كنتم تفعلونه؛ بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي، ولا تُبالون منه في زعمكم؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ﴾؛ أي: هذا الظن الفاسد؛ وهو اعتقادكم أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم، ﴿ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾؛ أي: في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم؛ (تفسير ابن كثير، جـ7، صـ 172).   وقال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65].   قال الإمام ابن كثير رحمه الله: هذا حال الكُفَّار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت؛ (تفسير ابن كثير، جـ6، صـ 585).   روى مسلم عن أنس بن مالك، قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: ((هل تدرون ممَّ أضحك؟)) قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((من مخاطبة العبد ربه))، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟ قال يقول: ((بلى))، قال فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال فيقول: ((كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا))، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال فيقول: بعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أناضل"؛ (مسلم حديث: 2969).   قوله: (ألم تجرني من الظلم؟)؛ أي: ألم تجعلني في إجارة منك من الظلم بقولك: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].   قوله: (لا أجيز)؛ أي: لا أقبل على نفسي إلا شاهدًا من جنسي.   قال الحسن بن محمد الطيبي رحمه الله: فإذا قلت: دلَّتْ أداة الحصر على ألَّا يشهد عليه غيره، فكيف أجاب بقوله: (كفى بنفسك وبالكرام الكاتبين؟) قلت: بذل مطلوبه (أي: حقَّقَ له رغبته)، وزاد عليه تأكيدًا وتقريرًا.   قوله: (فيختم على فيه)؛ أي: على فمه؛ قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65]، وقال سبحانه: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 24].   وهذا معنى قوله: (فيقال لأركانه)؛ أي: لأعضائه وأجزائه (انطقي). قوله: (فتنطق بأعماله)؛ أي: بأفعاله التي ارتكبها. قوله: (ثم يخلى)؛ أي: يترك (بينه وبين الكلام)؛ أي: يرفع الختم من فيه؛ حتى يتكلم. قوله: (بعدًا لكن وسحقًا)؛ أي: فيقول العبد: هلاكًا لكم. قوله: (كنت أناضل)؛ أي: أدافع؛ (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح؛ علي الهروي، جـ 8، صـ 3527).   ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام.   وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣