أرشيف المقالات

المعصية بعد الطاعة

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2المعصية بعد الطاعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فإن توالي عمل الذنوب يُشبه تناول السموم على جرعات، فإن أثرها لا يظهر سريعًا؛ ولكنها تفتِكُ ببطء، ومَنْ يتأمَّل يجِدْ أن الذنوب قد أضرَّتْ بالكثيرين معنويًّا وحسيًّا.   وعقوبات الذنوب عاجلة وآجلة، في دور الإنسان الثلاثة؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قلوب أهل البدع، والمعرضين عن القرآن، وأهل الغفلة عن الله، وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الكبرى، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر، ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13، 14]، هذا في دورهم الثلاثة، ليس مختصًّا بالدار الآخرة، وإن كان تمامه وكماله وظهوره لهما هو في الدار الآخرة وفي البرزخ دون ذلك، الموفق من جاهد نفسه، فأطاع الله، وترك المعاصي، والناس في الطاعة والمعصية على أقسام: القسم الأول: مَنْ يُوفِّقْه الله جل جلاله، فينشأ على الطاعة منذ نعومة أظفاره، ويستمرُّ على ذلك إلى أن يموت، فهذا يغبطه الكثيرون، وهو من السبعة الذين يُظِلُّهم الله جل جلاله يوم القيامة في ظِلِّه، نسأل الله من فضله.   القسم الثاني: مَنْ ينشأ على المعصية منذ صغره، ويستمرُّ على ذلك إلى أن يأتيه الموت، نسأل الله السلامة من حاله.   القسم الثالث: من ينشأ على المعصية، ويستمرُّ على ذلك حينًا من الدهر، ثم تُدركه رحمةُ أرحم الراحمين فيتوب ويُنيب، وقد يكون ذلك قبل موته بزمن قليل، وهذا من فضل الله جل جلاله عليه، وإرادته به الخير؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبده خيرًا استعمله))، فقيل: وكيف يستعمله؟ قال: ((يُوفِّقه لعمل صالح قبل الموت))؛ [أخرجه الترمذي]، قال أهل العلم: يُوفِّقه قبل موته للتوبة، وملازمة العمل الصالح، ويقبض على ذلك، فيعطي العطاء الجزيل على العمل القليل، نسأل الله من فضله وكرمه وجُوده.   القسم الرابع: مَنْ ينشأ على الطاعة منذ نعومة أظفاره؛ لكنه لا يستمرُّ على ذلك، فيرتع في الذنوب، ويترك الطاعات، وقريب من سابقه، مَنْ ينشأ على المعصية، ثم يتوب ويُنيب؛ لكن تغويه شياطينُ الإنس والجن، فينتكس على عقبيه.   فما أقبح معصيتهما! فبعد أن ذاقا حلاوة الطاعة يستبدلانها بالتي هي أدنى؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 266]، قال الإمام البخاري رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال عمر رضي الله عنه يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾، قالوا: الله أعلمُ، فغضب عمر، فقال قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا بن أخي، قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضُربت مثلًا لعملٍ، قال عمر: أيُّ عمل؟ قال ابن عباس: لعملٍ، قال عمر: لرجل غني يعملُ بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.   قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيَّن ما فيها من المثل، يعمل من أحسن العمل أولًا، ثم بعد ذلك انعكس سيره، فبدَّل الحسنات بالسيئات عياذًا بالله من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدَّم من الصالح، وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: أفلا تراه نبَّه العقول على قُبْح المعصية بعد الطاعة، وضرب لقبحها هذا المثل.   من رام أن يستمر في طريق الطاعة، ويجتنب طريق الانتكاس، فعليه بأمور: منها: الدعاء الدائم المستمر غير المنقطع بالثبات على الدين والطاعة، فقد كان أفضل الخلق يُكثِر من الدعاء بالثبات على الدين؛ فعن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثِر أن يقول: ((يا مُقلِّب القلوب، ثَبِّتْ قلبي على دينك))، فقلتُ: يا نبي الله، آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: ((نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله، يُقلِّبها كيف يشاء))؛ [أخرجه الترمذي]، اللهم نسألك الثبات على الدين.   ومنها: أن يحذر من إحسان الظن بنفسه؛ لأن ذلك يمنعه من رؤية عيوبها، فربما كانت تلك العيوب سببًا لعدم ثباته على الطاعة؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وأما سوء الظنِّ بالنفس، فإنما احتاج إليه؛ لأن حُسْن الظنِّ بالنفس يمنع من كمال التفتيش، ويُلبس عليه، فيرى المساوئ محاسن، والعيوب كمالًا...ولا يسيءُ الظَّنَّ بنفسه؛ إلَّا مَنْ عرَفَها، ومَنْ أحسَنَ ظنَّه بها، فهو من أجهل الناس بنفسه.   ومنها: أن يحذر العجب بطاعته وعبادته، فيحتقر ويزدري المذنبين، فربما كان ذلك سببًا في انتكاسته؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: تعيرك لأخيك بذنبه أعظم إثمًا من ذنبه وأشدُّ من معصيته؛ لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وأن أخاك هو الذي باء به، ولعل كسرته بذنبه وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه، والتخلُّص من مرض الدعوى والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس، خاشع الطرف، منكسر القلب، أنفع له، وخير له من صولة طاعتك، وتكثُّرك بها، والاعتداد بها، والمنَّة على الله وخلقه بها، فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله! وما أقرب هذا المُدِلَّ من مَقْتِ الله! فذنب تذلُّ به لديه أحبُّ إليه من طاعة تُدلُّ بها عليه، وأنينُ المذنبين أحبُّ إليه من زجل المسبِّحين المُدلِّين! ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواءً استخرج به داءً قاتلًا هو فيك ولا تشعُر، فلله في أهل طاعته ومعصيته أسرارٌ لا يعلمها إلا هو، ولا يُطالعها إلَّا أهل البصائر، ولا يأمن كرَّات القدر وسطواته إلا أهل الجهل بالله، وقد قال تعالى لأعلم الخلق، وأقربهم إليه وسيلةً: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 74]، وقال يوسف الصَّديق: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33].   ومنها: الحذر من شياطين الإنس؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الشياطين ليست اسمًا خاصًّا بالجن؛ بل حتى الإنس لهم شياطين؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ﴾ [الأنعام: 112]، وكُلُّ مَنْ يأمرك بالسوء والفحشاء، وينهاك عن الصلاح والاستفادة، فهو شيطان؛ لقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [النور: 21].   وهؤلاء الشياطين سيبذلون الغالي والنفيس بشتَّى الطرق والوسائل لصدِّك عن طريق الطاعة؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وهل كان على أبي طالبٍ عند الوفاة أضرُّ من قرناء السوء؟ لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمةٍ واحدةٍ توجب له سعادة الأبد.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: فما أكثر ما يمُرُّ علينا ممن يتصلون بنا، يشكون من قوم كانوا مستقيمين، وأئمة مساجد، أو مؤذني مساجد، اتصل بهم أناسٌ من أصحاب السوء، فانحرفوا انحرافًا كاملًا.   وقد قيل: من جلس مع ثمانية أصناف من الناس، زاده اللهُ ثمانيةَ أشياء...
ومنهم: من جلس مع الفُسَّاق: زاده الله الجرأة على الذنوب والمعاصي والإقدام عليها.   ومنها: ملازمة تقوى الله، فلها أثرٌ عظيمٌ في حفظ الله جل جلاله لعبده في دينه؛ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وفي الجملة فإن الله يحفظُ على المؤمن الحافظ لحدود دينه، ويحولُ بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها…قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ [الأنفال: 24]، يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجرُّه إلى النار.   نسأل الله الكريم أن يردَّ مَنِ انتكسوا عن الطاعة إلى ما كانوا عليه، وليس ذلك ببعيدٍ، متى ما صدقوا في رغبتهم في العودة إلى الحياة الطيبة، والسعادة الدائمة، وجنة الدنيا التي مَنْ لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن