أرشيف المقالات

أحاديث مواقيت الحج والعمرة

مدة قراءة المادة : 27 دقائق .
2أحاديث مواقيت الحج والعمرة   عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ، قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، قَالَ: ((فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَا فَكَذلِكَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا)).
وبنحوه في الصحيحين من حديث ابن عمر رَضِي الله عنهما، وبنحوه عند مسلم من حديث أبي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُسْأَلُ عَنِ الْمُهَلِّ؟ فَقَال: سَمِعْتُ (أَحْسَبُهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفيه: ((وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ)).
وعند البخاري عن ابنِ عُمرَ رضيَ اللهُ عنهما قال: «لما فُتح هذانِ المِصرانِ أَتوا عُمرَ، فقالوا: يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأهلِ نجدٍ قَرْنًا، وهو جَوْرٌ عن طريقِنا، وإنَّا إنْ أرَدْنا قَرْنًا شَقَّ علينا، قال: فانظُروا حَذْوَها مَن طريقِكم، فحدَّ لهم ذاتَ عِرْقٍ».   تخريج الأحاديث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه مسلم (1181)، وأخرجه البخاري في "كتاب: الحج"، "باب: مهل أهل مكة للحج والعمرة "، حديث (1524)، أخرجه أبو داود في "كتاب: الحج" "باب: في المواقيت"، حديث (1738)، وأخرجه النسائي في " كتاب: مناسك الحج" "باب: من كان أهله دون الميقات"، حديث (2657).   وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فأخرجه مسلم (1182)، وأخرجه البخاري في " كتاب: الحج" "باب: ميقات أهل المدينة"، حديث (1525)، وأخرجه أبو داود في " كتاب: المناسك" "باب: في المواقيت"، حديث (1737)، وأخرجه النسائي في " كتاب: مناسك الحج" "باب: ميقات أهل المدينة"، حديث (2650)، وأخرجه ابن ماجه في "كتاب: المناسك" "باب: مواقيت أهل الآفاق"، حديث (2914).   وأما حديث جابر رضي الله عنه، فأخرجه مسلم (1183)، وانفرد به عن البخاري. وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه الذي عند البخاري، فهو مما انفرد به عن مسلم، وأخرجه في "كتاب: الحج" "باب: ذات عرق لأهل المشرق"، حديث (1531).   شرح ألفاظ الأحاديث: ((وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ))؛ أي: جعل ميقاتًا يحرمون منه، و(وَقَّتَ) أصله: جعل للشيء وقتًا يختصُّ به، ثم اتَّسع فيه، فأطلق على المكان أيضًا وسمي ميقات، فالميقات: هو الزمان أو المكان المُحدَّد لفعل العبادة، وسيأتي أن المواقيت على قسمين: زمانية، ومكانية.   والمقصود في حديث الباب المواقيت المكانية، ووقتها النبي صلى الله عليه وسلم قبل سفره من المدينة، يدلُّ على ذلك ما جاء في حديث ابن عمر في الصحيحين: أن رجلًا قام في المسجد، فقال: يا رسول الله، من أين تأمرنا أن نُهِل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يهل أهل المدينة من ذي الحليفة...))؛ الحديث.   قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "يُستفاد منه أن السؤال عن مواقيت الحج كان قبل السفر من المدينة"؛ [انظر: الفتح "كتاب: العلم" "باب: العلم والفتيا في المسجد"، حديث (133)].   وهذه المواقيت المكانية التي وردت في أحاديث الباب كما يلي: أولًا: ((لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ)): الحُليفة: بضم الحاء وفتح اللام تصغير الحَلَفَة وهو شجر بري معروف، سمي ذلك المكان به؛ لكثرة هذا النوع من الشجر فيه، وذو الحليفة أبعد المواقيت عن مكة، تبعد عن مكة تقريبًا (420كم)، وعن المدينة حوالي (11 كم)؛ لكنها في وقتنا الحاضر وصلها العمران، ودخلت في حدود المدينة، وذو الحليفة وادٍ يقع على حافة وادي العقيق، ويُسمَّى أيضًا (أبيار علي) حتى سميت القرية التي في ذي الحليفة بـ (أبيار علي)، قيل: سميت بذلك؛ لأن فيها بئرًا تُسمِّيها العامة (بئر علي) يزعمون أن عليًّا قاتل الجن بها، وهي تسمية باطلة فيها قصة مختلقة هي من وضع الروافض.   قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منسكه: "فذو الحليفة أبعد المواقيت...
وتُسمَّى وادي العقيق، ومسجدها يُسمَّى مسجد الشجرة، وفيها بئر تسميها جُهَّال العامة (بئر علي)؛ لظنِّهم أن عليًّا رضي الله عنه، قاتل الجنَّ بها وهو كذب؛ فإن الجنَّ لم يقاتلهم أحدٌ من الصحابة، وعليٌّ رضي الله عنه أرْفَعُ قدرًا من أن يثبت الجن لقتاله، ولا فضيلة لهذه البئر، ولا مذمَّة"؛ [انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (26 / 99)].   وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: "...وهذا من وضع الرافضة - لا مسَّاهم الله بخير ولا صبَّحَهم - وما بُني على الاختلاف، فينبغي أن يكون محل هجر وفراق...
[انظر: معجم المناهي اللفظية ص (64)].   ثانيًا: ((وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ)): الشام: يمتدُّ من شمال نهر الفرات إلى شبه جزيرة سيناء شرقًا وغربًا، ومن شمال صحراء العرب إلى ساحل البحر الأبيض جنوبًا وشمالًا، فيدخل في ذلك: سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين، ومن جاء على طريق هذه البلد؛ كأهل مصر، وأهل المغرب إذا جاءوا عن طريق البر، فإنهم يمرُّون بالجحفة، فيحرمون منها.   و((الْجُحْفَةَ)) بضم الجيم وسكون الحاء، وهي قرية قديمة على طريق مكة والمدينة، قريبة من مدينة رابغ، تبعد عنها بـ (15 كم) تقريبًا، وسميت بالجحفة؛ لأن السيل اجتحفها في الزمن السابق، فصارت خرابًا، وهجرها الناس، وصاروا يحرمون من (رابغ) قبلها بمسافة يسيرة، وتبعد رابغ عن مكة (186 كم) تقريبًا، وفي عام (1406 هـ) بني في الجحفة ميقات وفيه مسجد، ورجع الناس يحرمون منها، والجحفة تأتي في الدرجة الثانية في البعد عن مكة.   لما دخلت الحمى المدينة وتأثر جمع من الصحابة رضي الله عنهم، دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن تنقل الحمى إلى الجحفة؛ وذلك لأن سُكَّانها اليهود، فنُقلت الحمى إلى الجحفة، فلما زال عنها اليهود، زال عنها الحمى، وتُسمَّى الجحفة (مَهْيَعَة)، وسيأتي ما يدل على هذا.   ثالثًا: ((وَلأَهْلِ نَجْدٍ، قَرْنَ الْمَنَازِلِ)): نجد: إقليم يمتدُّ من العراق إلى الحجاز شرقًا وغربًا، ومن اليمن إلى الشام جنوبًا وشمالًا.   و((قَرْنَ الْمَنَازِلِ)): قرن: اسم جبل وأيضًا لوادٍ له منازل ينسب إليها، ويُسمَّى الآن (السيل الكبير)، وعلى محاذاته وادي محرم على طريق الهدى (كرا) فيحرم من وادي السيل الكبير أو من وادي محرم.   ومقيات قرن المنازل (السيل الكبير) يحرم منه حُجَّاج المشرق؛ لأنهم أصبحوا يأتون من طريق نجد، يسلكون الطريق السريع إلى الطائف، ويبعد السيل الكبير عن مكة (75 كم) تقريبًا.   رابعًا: ((وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ)): اليمن: اسم للبلاد التى على الساحل الجنوبي من شبه الجزيرة العربية، سمي بذلك؛ لأنه عن يمين الكعبة، فالمقصود: أهل اليمن، وما كان في جهتهم.   و((يَلَمْلَمَ)): بفتح الياء اسم بئر فيها، ويلملم أصلها (ألملم) بالهمزة، ونطقت بالياء تسهيلًا لها، ويقال لها أيضًا (يرمرم) براءين.   خامسًا: ((وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ)): أهل العراق: المقصود بهم أهل المشرق: العراق، وإيران، وباكستان، وأفغانستان، والهند، وكل من كان على جهتهم من أهل المشرق.   و((ذَاتِ عِرْقٍ)): بكسر العين وسكون الراء، سُمِّي بذلك لعرق فيه، والعرق: هو الجبل الصغير، وذات عرق: قرية مندثرة اليوم، وطريقها مهجور، وكانت هذه القرية ميقات لأهل المشرق الذين يأتون على الإبل سابقًا، وتُسمَّى الضريبة ويُقال لها أيضًا اليوم: الخريبات عن مكة شرقًا بمسافة (100 كم)، وهو ميقات مهجور؛ لعدم وجود طريق معبَّد عليه، وحجاج المشرق اليوم يأتون يسارًا من الطريق المعبَّد، فيُحرمون من قرن المنازل، وهو السيل الكبير كما تقدم، هذه هي المواقيت المكانية مع التعريف بها باختصار.   قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: "وهذه الأسماء ليست باقية الآن، فذو الحليفة تُسمَّى أبيار علي، والجحفة صار بدلها رابغ، ويلملم تسمى السعدية، وقرن المنازل يسمى السيل الكبير، وذات عرق تسمى الضريبة؛ ولكن الأمكنة، والحمد لله ما زالت معلومة مشهورة للمسلمين لم تتغيَّر" [انظر: الممتع (7/46)].   ((فَهُنَّ لَهُنَّ))؛ أي: إن هذه المواقيت لهذه البلاد المذكورة، والمقصود أهل هذه البلاد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية: ((هُنَّ لأهْلِهن)) وفي رواية أخرى: ((هُنَّ لهَمُ)).   ((وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ))؛ أي: ولمن مرَّ عليهن وهو ليس من أهلهن، فإنه يحرم منهن، ولا يُلزم الذهاب إلى ميقاته الأصلي، كأن يمَّر الشامي بقرن المنازل، فإنه يحرم منها أو النجدي بذي الحليفة.   ((فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ))؛ أي: من كان منزله دون هذه المواقيت بأن كان مسكنه بين أحد المواقيت وبين مكة؛ كأهل جدة، وخليص، وعسفان، وغيرها من المناطق التي دون المواقيت، فإن هؤلاء يحرمون من أهلهم ومكانهم.   ((وَكَذَا فَكَذلِكَ))؛ أي: وهكذا فهكذا؛ أي: كل من كان دون الميقات، فكذلك. ((حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا))؛ أي: حتى أهل مكة يحرمون من أهاليهم؛ أي: من مكة، والمراد بأهل مكة: من كان فيها ساكن وآفاقي.   ((أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُسْأَلُ عَنِ الْمُهَلِّ)): الْمُهَلِّ: بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام؛ أي: موضع الإهلال، ومكان الإحرام، وأصل الإهلال: هو رفع الصوت؛ لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام، ثم أطلق على نفس مكان الإحرام اتساعًا؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: "وإنما يقوله بفتح الميم من لا يعرف".   ((أَحْسَبُهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ)): هذا شك من الرواي أبي الزبير رحمه الله في هذا الحديث، هل هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو موقوف على جابر رضي الله عنه؟   وفي رواية: أن أبا الزبير سمِع جابر بن عبدالله، رضي الله عنهما، يُسأل عن المهل؟ فقال سمعت...ثم انتهى، فقال أُراه - يعني: عن النبي صلى الله عليه وسلم - والمعنى: أنه انتهى من رفع الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: أُراه، وهذا يفيدنا بأن رفع هذا الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم مشكوكٌ فيه.   ((لما فُتح هذانِ المِصرانِ)): ((فُتح)) بضم الفاء على المبني للمجهول، و(المصران) تثنية مصر، والمراد بهما: الكوفة والبصرة، والمراد بفتحهما: غلبة المسلمين على مكان أرضهما.   ((وهو جَوْرٌ عن طريقِنا)): جور: بفتح الجيم وسكون الواو؛ أي: هو مائل عن طريقنا، والجور: الميل عن القصد، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَمِنْهَا جَائِرٌ ﴾ [النحل: 9]   ((فانظُروا حَذْوَها))؛ أي: اعتبروا ما يُحاذي الميقات حينما تسلكون الطريق إلى مكة، فاجعلوا المحاذي ميقاتًا لكم.   من فوائد الأحاديث: الفائدة الأولى: أحاديث الباب فيها دلالة على ثبوت المواقيت المكانية الخمسة: لأهل المدينة ذو الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل العراق ذات عرق، فلا يجوز لمن أراد الحج والعمرة أن يتجاوزها إلا مُحرِمًا؛ لما في ذلك من تعدٍّ لحدود الله تعالى، وأما الإحرام قبل الميقات، فقد نقل ابن المنذر الإجماع على صحَّته، وروي ذلك عن علي وجماعة من الصحابة رضوان الله عليهم؛ لكنه خلاف السنة؛ [انظر: الإجماع؛ لابن المنذر ص (45)]. مثال ذلك: شخص أراد الحج أو العمرة فانطلق من بلدته الرياض، فنوى الإحرام من بلدته، وركب الطائرة، ثم بعد ذلك حاذى الميقات، فهذا أحرم قبل الميقات المكاني، أو كأن يحرم من شقته في المدينة، وهذا يفعله بعض الناس، فيُحرِم من مسكنه، فينوي الدخول في النُّسُك قبل أن يأتي ذا الحليفة.   تنبيه: الإحرام ليس معناه لبس الإحرام؛ وإنما نية الدخول في النُّسُك، فقد يلبس الرجل أو المرأة ملابس الإحرام من مسكنه في المدينة المنورة ولا ينوي الدخول في النُّسُك حتى إذا أتى الميقات لبَّى، ونوى الدخول في النُّسُك، فهذا أحرم من الميقات، ولا يدخل في الخلاف؛ إلا أننا نقول له اغتسل في الميقات، فهو أفضل وأوفق؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحرم ويغتسل من مسجده مع شرف مكانه؛ وإنما اغتسل من الميقات.   إذن الأحوال ثلاثة: أولها الإحرام بعد الميقات كأن يتجاوز الميقات ثم يحرم، فلا يجوز، فإنه يأثم، وسيأتي الكلام على الفدية. ثانيها: أن يحرم قبل الميقات، فجائز؛ لكنه خلاف السنة، وحكى بعضهم الكراهة. وثالثها: الإحرام من الميقات، فهذا هو السنة.
الفائدة الثانية: تحديد المواقيت المكانية من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه حدَّدَها قبل إسلام أهلها إشارة إلى أنهم سيسلمون، ويحجُّون ويعتمرون، وأيضًا في تحديد تيسير الشريعة على الناس؛ حيث لم يُجبروا على ميقات واحد يزدحم عليه الناس، ويشق عليهم قصده.   الفائدة الثالثة: في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)) دلالة على أن هذه المواقيت لأهل تلك البلاد، ولمن أتى على تلك المواقيت من غير أهلهن، فلو أتى الشامي أو النجدي إلى ميقات ذي الحليفة، فإنه يُحرم منه، ولا يكلف أن يذهب إلى ميقاته، وهذا من تيسير الشريعة، وتحت هذه الفائدة مسألة اختُلف فيها وهي: هل يجوز لمن مرَّ على الميقات أن يتجاوزه ليحرم من الميقات الثاني؛ لأنه ميقاته، ولأنه أقرب إلى مكة؟ مثال ذلك: الشامي تقدم أن ميقاته الجحفة، ومر بطريقه على المدينة، وميقات ذي الحليفة النجدي، هل يجوز له تجاوز ميقات ذي الحليفة؛ ليحرم من ميقاته قرن المنازل (السيل الكبير)؟   القول الأول: يجبعليه أن يحرم من ميقات ذي الحليفة، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. وعللوا ذلك: بأنه حينما مرَّ على ذي الحليفة أصبحت ميقاته، لا يجوز له تجاوزها بلا إحرام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ)).
القول الثاني: يجوز له تأخير إحرامه إلى الميقات الثاني، وهذا مذهب الحنفية والمالكية؛ [انظر: المبسوط (2/173) وحاشية الخراشي (3/137)].   وعللوا ذلك: بأن المقصود هو عدم تجاوز الميقات بلا إحرام، فإذا أحرم من أي ميقات فقد أدَّى ما عليه، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية؛[انظر: الاختيارات ص (117)].
الفائدة الرابعة: في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ((فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ)) دلالة على أن من كان مسكنه بين مكة والمواقيت المكانية، فميقاته من مكانه؛ كأهل الشرائع بالنسبة للسيل الكبير، وأهل خليص بالنسبة لذي الحليفة، وكذلك سائر البلدان الواقعة بين مكة والمواقيت المكانية، وهذا من تيسير الشريعة أيضًا.     الفائدة الخامسة: في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا)) فيه دلالة على أن من كان في مكة سواءً من أهلها أو غيرهم، فإنه يحرم منها، ولا يخرج إلى ميقاته، وهذا بالنسبة للحج، وأما العمرة فإن المكي لا بد أن يخرج إلى الحل، دلَّ على ذلك حديثُ عائشة رضي الله عنها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم، لعبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: ((اخرج بأختك من الحرم، فلتهل بعمرة)) فذهب بها إلى التنعيم؛ لتحرم من هناك، والحديث متفق عليه، وسيأتي.   فمن كان في مكة، وأراد الحج فمن مسكنه يحرم بالحج لحديث الباب، وإن أراد العمرة فلا بد أن يخرج من حدود الحرم إلى الحل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، وأجمع أهل العلم على ذلك؛ قال ابن قدامة رحمه الله: "لا نعلم في هذا خلافًا"؛ [انظر: المغني (5/59)].   وبناءً على ما تقدَّم نقول أماكن الإحرام على ثلاثة أقسام: القسم الأول: من كان مسكنه قبل المواقيت الخمسة، فإنه يحرم من ميقاته كما في أحاديث الباب.   القسم الثاني: من كان مسكنه دون المواقيت الخمسة، فيحرم من مكانه الذي هو فيه، ولا يحتاج أن يذهب إلى المواقيت؛ كأهل جدة، وبحرة، وخليص، والشرائع، ونحوهم.   القسم الثالث: من كان مسكنه في مكة؛ أي: داخل الحرم، فيحرم للحج من مكانه، وللعمرة من أدنى الحل.   الفائدة السادسة: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)) دلالة بالمفهوم على أن من مرَّ بهذه المواقيت، وهو يريد الحج أو العمرة؛ فإنه لا يلزمه الإحرام كمن يقصد مكة لتجارة أو زيارة قريب أو مكي أراد العودة إلى أهله لا سيَّما إذا كان ممن أسقط فرضه من قبل خلافًا لجمهور العلماء الذين ألزموه بالإحرام، واستثنوا من كانت حاجته متكررة؛ كالحطَّاب وسائق الأجرة ونحوهما.   والأظهر والله أعلم أنه لا يلزمه الإحرام، وهو اختيار الشافعي، ورواية عن أحمد؛ [انظر: المجموع (7/11) والفروع (3/ 281)].   ويدل على ذلك: أولًا: حديث الباب؛ حيث علَّقَ الإحرام من هذه المواقيت بمريد الحج والعمرة.   ثانيًا: عدم الدليل على إيجاب الإحرام منها لمن لم يرد الحج والعمرة، والأصل هو البراءة الأصلية، وهي عدم التكليف بهذا حتى يأتي نصٌّ ينقل عن هذه البراءة، ولا دليل يدل على ذلك، ولو كان واجبًا لبيَّنَه صلى الله عليه وسلم، لأصحابه.   وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: ((لا يجاوز أحد الميقات إلَّا محرمًا))؛ رواه الطبراني، وهو ضعيف؛ لأن في إسناده حصين بن عبدالرحمن الجزري، وهو سيئ الحفظ؛ [انظر: تلخيص الحبير (2/260)].   الفائدة السابعة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما دلَّ على أن ذا الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل، ويلملم الذي وقتها هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، واختلفوا في (ذات عرق) من الذي حدَّه على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الذي حدَّه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستدلوا: أولًا: بحديث جابر رضي الله عنه في الباب، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ)).   ونوقش: بأن الزبير راوي الحديث عن جابر رضي الله عنه شكَّ في الحديث؛ هل هو مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم أو موقوف على جابر رضي الله عنه؛ حيث قال: (أحسبه رفع للنبي صلى الله عليه وسلم).   ثانيًا: واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ((وقت لأهل العراق ذات عرق))؛ رواه أبو داود والنسائي.   ونوقش بأن الحديث أخرجه أبو داود والنسائي من طريق المعافى بن عمران، عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها به، وقد أنكره الإمام أحمد، واعتبره من منكرات (أفلح بن حميد) كما نقله عن ابن عدي، وممن أعلَّه الإمام مسلم؛ [انظر: الكامل؛ لابن عدي 10/417)، والتمييز؛ لمسلم، ص (214)].   ثالثًا: واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقت لأهل المشرق العقيق))؛ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والعقيق: هي ذات عرق؛ لكنها غير العقيق التي في ذي الحليفة.   ونوقش: بأن الحديث ضعيف أعلَّه الإمام مسلم بـ (يزيد بن أبي زياد) وبالانقطاع بين محمد بن علي وابن عباس رضي الله عنه؛ [انظر: التمييز، ص (215)].   قال ابن خزيمة رحمه الله: "قد روي أخبار في ذات عرق أنه ميقات أهل العراق، ولا يثبت عند أهل الحديث شيء منها "؛ [انظر: صحيح ابن خزيمة (4/1600)].   والقول الثاني: أن الذي حدَّ ذات عرق هو عمر بن الخطاب. واستدلوا: بحديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي رواه البخاري، وفيه قال عمر رضي الله عنه: ((فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق)).   والقول الثالث: أن هذا من موافقات عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ كموافقته في الحجاب والمقام وغير ذلك، قالوا: لعل عمر رضي الله عنه لم يبلغه توقيت النبي صلى الله عليه وسلم لذات عرق، فوقَّت لهم ذات عرق، ووافق توقيته توقيت النبي صلى الله عليه وسلم.   والأظهر والله أعلم القول الثاني؛ لقوة ما استدلوا به، وقوة استدلالتهم على أدلة القول الأول، وعلى كل حال فالذي يهمُّنا أن ذات عرق ميقات لأهل المشرق بالإجماع.   الفائدة الثامنة: قول عمر رحمه الله: ((فانظروا حذوها من طريقكم)) فيه دلالة على أن من سلك طريقًا وليس له، ولا أمامه ميقات مُعيَّن، فإنه يُحرم إذا حاذى أقرب ميقات إليه.   الفائدة التاسعة: حديث الباب دلَّ على المواقيت المكانية؛ وهي النوع الأول من أنواع المواقيت. والنوع الثاني: المواقيت الزمانية: وهي أشهر الحج؛ كما قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: 197]؛ أي: أن الحج يكون وقته الزماني في أشهر معروفة، فلا يصحُّ شيء من أعمال الحج إلا فيها.   وأجمع العلماء على أن أشهر الحج؛ هي: شوال وذو القعدة، واختلفوا في ذي الحجة هل شهر ذي الحجة بأكمله يعتبر من أشهر الحج أو أول عشرة أيام منه؟
القول الأول: أن أول عشرة أيام من ذي الحجة هي أشهر الحج دون ما سواها، وبه قال جمهور العلماء رحمهم الله. واستدلوا: بما أخبره البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما مُعلقًا قال: ((أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة))، وروى نحوه عن ابن مسعود، وعن ابن الزبير.   والقول الثاني: قالوا بأن شهر ذي الحجة بأكمله يُعدُّ من أشهر الحج، وهو قول مالك والشافعي في القديم. واستدلوا: أولًا: بما رواه الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة)) ذكره السيوطي في الدر المنثور، وبما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما، وصحَّحه ابن حزم، وبما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري مُعلِّقًا بصيغة الجزم؛ [انظر: الدر المنثور؛ للسيوطي (1/218)، والمحلى؛ لابن حزم (7/62) وفتح المنعم؛ لموسى شاهين لاشين (5/99)].   والأظهر والله أعلم القول الثاني لما ورد من الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، ولأن هذا ما تقتضيه اللغة، فأقل الجمع ثلاثة وكلمة (أشهر) جمع، ولأنه على القول الأول يترتَّب عليه أن نوقع بعض أعمال الحج في غير أشهر الحج؛ كالرمي أيام التشريق، والمبيت في منى، وكذلك من أخَّر بعض أعمال الحج.   وثمرة الخلاف: فيما لو حلف إنسان على يمين بأن يصوم ثلاثة أيام من أشهر الحج، ثم صام اليوم الحادي والعشرين والثالث والعشرين من شهر ذي الحجة، فعلى القول الأول لا يكون بارًّا بيمينه، وتجب عليه الكفَّارة؛ لأنه صام في غير أشهر الحج، وعلى القول الثاني أتى بيمينه، والله أعلم.   مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الحج)



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢