أرشيف المقالات

الوعظ والإرشاد

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2الوعظ والإرشاد   الوعظ لغة: النصح بالترغيب، أو الترهيب، أو بهما معًا؛ ليلين قلب الإنسان. وفي الاصطلاح: القول الحق الذي يلين القلوب، ويؤثر في النفوس، ويكبح جماح النفوس المتمردة، ويزيد النفوس المهذبة إيمانًا وهداية.   والموعظة الحسنة مظهر من مظاهر الحكمة، وجزء منها، ولها شروط لا بد منها، وهي: 1- أن تكون صادرة عن إخلاص.   2- أن يكون لها مقتضى يقتضيها من حال المدعو؛ لا أن تكون مجرد حب للقول، وتظاهر بالفصاحة والحكمة دون داع .   3- أن يصاحبها إقناع المدعو بأنها صادرة عن روح الإخاء، وحب الخير له قبل كل شيء.   4- إذا كانت الدعوة خاصة بفرد أو أفراد معينين، فيحسُن أن تكون بعيدة عن التشهير والتجريح الذي يُثير الشر أكثر مما ينشر من الخير .   5- أن تكون القدوة بالداعي أحد عناصرها، فإن العظة بالقدوة من أنجح أساليب الوعظ.   ومن هنا فالموعظة الحسنة هي الكلمة الطيبة، التي تخرج من فم الداعية بإخلاص لتصل إلى عقول الناس، فيجدون فيها الخير والسعادة، ويحسون من خلال كلمته أنه صادق وحريص على جلب الخير لهم، ودفع الشر عنهم .   متى تكون الموعظة مؤثرة: حتى تكون الموعظة الحسنة مؤثرة في نفس المدعوين لا بد أن يكون فيها ما يلي: 1- أن تكون ذا موضوع؛ فتتحدث عن أمر معين، ويكون لها هدف يريد أن يصل الداعية إليه من خلالها.   2- أن يدعمها الواعظ بالحجة النقلية من القرآن والسنة، والحجة العقلية التي يقتنع بها السامع مع التلطُّف في القول، والرفق في المعاملة.   3- العلم بالكتاب والسنة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم والسلف الصالح، وبالقدر الكافي من الأحكام الشرعية، ثم العمل بذلك كله، فرُبَّ حالٍ أبلغ في التأثير من ألف مقال.   4- أن يتجمَّل الواعظ بالعِفَّة واليأس مما في أيدي الناس.   5- أن يعالج الواعظ بالموعظة واقعًا يعيش فيه الناس، وأن يجعل منها توجيهًا يُصلِح شأنهم جميعًا.   6- أن يحسن الواعظ عرض موعظته، بأن يُقسِّمها إلى أجزاء متصلة، ثم يصوغها بأسلوب جميل سهل.   7- أن يتخلَّق الواعظ بما يقول مظهرًا ومخبرًا، فبمقدار إخلاصه في القول والعمل ينتفع سامعوه .   8- أن يهتم بحسن مظهره.   9- أن يكون الواعظ مُلِمًّا بثروة كلامية يختار منها أفضل الأساليب التي يمتلك بها قلوب السامعين من جمال التصوير، وطرافة المعنى، وحداثة الموضوعات، مع ضرورة الإجادة في الإلقاء.   10- أن يعلم الواعظ أحوال الناس من حيث الطباع والتاريخ والأخلاق، مع الإلمام بقدر المستطاع ببعض الدراسات في علم النفس وعلم الاجتماع والتعرُّف على لغة القوم؛ قال عز وجل: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [إبراهيم: 4].   11- أن يكون ذا فراسة، يتعرف حال سامعيه، ويعاملهم بما يناسبهم ويؤثر فيهم.   ومع ما للوعظ والإرشاد من فائدة عظيمة، وأثر طيب ظاهر في تهذيب النفوس وسعادة البشرية؛ لكن أنكره جماعة من المتشائمين، وقالوا عن الوعظ: إنه عبث؛ لأن الأخلاق مبنية على غرائز لا تتحوَّل، وطِباع لا تتبدَّل! وقال بعض الفلاسفة عن الوعظ والإرشاد: إنه لا قيمة له؛ حيث إن الناس يولدون أخيارًا أو أشرارًا، وأن الحسن والقبيح شيء طبيعي في الإنسان، وأن الشعور بالمسؤولية ليس إلا نوعًا من الخداع .   فهل كلامهم صحيح؟ بالطبع غير صحيح؛ وللرد على هذه الآراء: لو نظرنا نظرة فاحصة لهذه الآراء السابقة، لوجدنا أنها لا تقوم على أساس، وباطلة في دعواها ومنقوضة بالشرع والعقل والتجربة والملاحظة: أما الشرع: فإن الله عز وجل يقول: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]؛ أي: عرفناه طريق الخير والشر، ويقول تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]؛ أي: بينَّاه له، ووضَّحناه، وبصَّرناه به، ويقول عز من قائل: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾ [الشمس: 7]، قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 8]؛ أي: بيَّن لها طريق الخير والشر.   وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولودٍ إلَّا يولَدُ على الفطرةِ، فأبواهُ يُهَوِّدانِهِ وينصِّرانِهِ ويمجِّسانِهِ، كما تُنتَجُ البَهيمةُ بَهيمةً جَمْعاءَ، هل تُحسُّونَ فيها من جدعاءَ؟))؛ رواه مسلم.
[وجمعاء؛ يعني: سالمة من العيوب، وجدعاء: مقطوعة الأذن] .   أما من ناحية العقل: فإن الله تبارك وتعالى أنزل الكتب، وأرسل الرسل من أجل إصلاح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، ورسالة الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم كانت وعظًا وإرشادًا وتوجيهًا إلى طريق الهداية، كانوا بالوعظ ينبهون القلوب من غفلتها، ويضيئون النفوس بضياء الحق، ويبعدونها عن الرذائل، ويبصرون أتباعهم بما ينفعهم من أمور دينهم ودنياهم.   فالإنسان خُلِق مستعدًّا للخير والشر، فإن تيسَّرت له التربية الصالحة والبيئة الصالحة نشأ على الإيمان الخالص والأخلاق الفاضلة، وحب الخير والفضيلة، وأما إذا كان العكس، فلم تتيسَّر له التربية الصالحة والبيئة الصالحة، فإنه ينشأ على الكفر والأخلاق المنحلَّة وحب الشرِّ والرذيلة.   ومن هنا فالوعظ والإرشاد له أثر كبير في هداية النفس الإنسانية، والأخذ بها إلى الصراط المستقيم، وصيانة القلوب من المخاطر، وتهذيب النفوس، واستنارة البصائر بنور الطاعة.   أما من ناحية التجربة والملاحظة: من الملاحظ في عالم الإنسان أن إنسانًا ما عاش طويلًا في بيئة الضلال والفساد، وبلغ فيه الإجرام والشقاء كل مبلغ، وقد أذاق المجتمع من وبال شروره وآثامه، وإذا برفيق صالح، أو مُربٍّ مؤثِّر، وداعية مخلص، نقله من الشقاء إلى السعادة، ومن بيئة الإجرام إلى عالم الكرام البررة، فيصبح بعد هذا الشقاء الطويل من كبار الأتقياء.   والدليل على ذلك ما رواه أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: لا أُحَدِّثُكُمْ إِلا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي ((إِنَّ عَبْدًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: بَعْدَ قَتْلِ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ! قَالَ: فَانْتَضَى سَيْفَهُ، فَقَتَلَهُ بِهِ، فَأَكْمَلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، اخْرُجْ مِنَ الْقَرْيَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، قَرْيَةِ كَذَا وَكَذَا فَاعْبُدْ رَبَّكَ فِيهَا، قَالَ: فَخَرَجَ يُرِيدُ الْقَرْيَةَ الصَّالِحَةَ، فَعَرَضَ لَهُ أَجَلُهُ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ، قَالَ: فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا أَوْلَى بِهِ، إِنَّهُ لَمْ يَعْصِنِي سَاعَةً قَطُّ، قَالَ: فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: إِنَّهُ خَرَجَ تَائِبًا))؛ رواه مسلم.   فالرجل عاش في بيئة كلها فساد، وإذا بهذا الواعظ يأخذ بيده من هذا الوباء الذي يعيش فيه، وينقله إلى بيئة العبادة والتقوى، وما ذلك إلا بالموعظة الحسنة التي قدمها له، وعرَّفَه بأن أرضه أرض سوء وفساد، فلا يرجع إليها مرة أخرى.   ولننظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف كان قبل الإسلام؟! وكيف أصبح بعده؟! وما كان هذا إلا بعظة عابرة غير مقصودة وقعت في قلبه، فحوَّلته من الشدة إلى الرقة والرأفة والعطف.   وإذا نظرنا إلى عالم الحيوان نجد أن الإنسان بخبرته غيَّرَ كثيرًا من طباع الحيوانات من النفور إلى الأُلفة، ومن الصعوبة إلى الانقياد، ومن الاعوجاج إلى الاعتدال، فما بالك بالإنسان وهو أسلس قيادة وأعظم مرونة؟   روى مسلمٌ عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينما أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت: يرحمك الله - وهو في الصلاة - قال: فرماني القوم بأبصارهم - جعل المصلون ينظرون إليه بطرف عيونهم - فقلت: وا ثكلَ أمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ - وهو في الصلاة - قال: فجعلوا يضربون أيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكنت - يعني: عجبتُ لماذا يصمتونني؟! هل هناك مشكلة في الصلاة؟ - فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنهى صلاته - فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا قبله، ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما نهرني، ولا ضربني، ولا شتمني؛ لكنه قال: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّا؛سِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)).   وجاء في كتاب (العقد الفريد) قال رجل للرشيد: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أنصحك بعظةٍ فيها الغلظة فاحتملها - احتمل النصيحة؛ لأنني سأشدد عليك - فقال له الرشيد: كلا، لا تنصحني، إن الله أمر من هو خيرٌ منك بإلانة القول لمن هو شرٌّ مني، فقال لنبيه موسى عليه السلام إذ أرسله إلى فرعون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44].   فهل عرفت لماذا نجحت النصيحة الأولى، ولم تنجح الثانية؟ لماذا آتت النصيحة الأولى أُكلها، ولم تؤتِ النصيحة الثانية أُكلها؟



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١