أرشيف المقالات

المدنية الأمريكية

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 كما يصفها أندريه موروا للأستاذ محمد روحي فيصل أندريه موروا كاتب فرنسي معاصر، وروائي واسع الشهرة؛ وهو الآن في الخمسين من عمره، يكتب كثيراً ويعمل كثيراً، ولعله (الحركة الدائمة) التي ينشدها علماء الطبيعة، والغريب أن إنتاج موروا على كثرته خصب عميق، فيه ملاحظات نفسية قيمة، وفيه وصف بارع طريف، وفيه حلاوة قل أن تجدها عند غيره من الكتاب والروائيين قام بسياحة إلى أمريكا منذ حين، زار في خلالها مدن الشواطئ الشرقية، ورأى آثارها، وحاضر في جامعاتها، وفهم في شهرين حقيقة المدنية الأمريكية ومظاهرها الصحيحة، ثم عاد إلى وطنه وألقى محاضرة قيمة طويلة نقتطف منها ما يلي: (وصلت باخرتنا إلى نيويورك في الصباح الباكر فراعتني المدينة العظيمة النائمة، وطغى علي شعور غريب جميل.
والحق أن مرفأ نيويورك منظر لا أعرف أبهج منه ولا أروع ولا آخذ بلب الرائي الممعن! بقينا على الماء نسير خمسة أيام ثم طلعت علينا نيويورك بوجهها الضخم وهيكليها العريض كما يطلع الجبل الشاهق على المسافر العاني بعد طوال السير وطي الأميال.
وجلنا في الشوارع نسير على غير هدى، فإذا المباني ضخمة بالغة الضخامة، متينة بالغة المتانة، تشق الفضاء طولاً وعرضاً واتساعاً.
ونلاحظ أن الضخامة مظهر من مظاهر الجمال، وأعني أن جمال الشيء إنما يرجع أحياناً إلى ضخامته الناشزة؛ أرأيت إلى أهرام مصر أو قصر (بيتي) كيف أن علوهما خلع عليهما جمالاً خاصاً على جمال الفن والهندسة)
(والأمريكيون شعب يعمل في جنون، فلا يريح جسده ولا يريح عقله، وإنما يجهدهما في التجارة والصناعة والاختراع؛ وهذه الظاهرة هي أقوى ما يلمح العابر السائح من الصور.
ويل للمحاضر في أمريكا! إنه يخضع للحركة الأمريكية الطاغية، ففي الصباح يلقي محاضرة، وعند الظهر يرأس حفلة خطابية، ثم يحاضر في نادي النساء، وفي الساعة الخامسة يقول كلمة في جامعة كولمبيا أو الاتحاد الفرنسي؛ وأنى رحل يجد برنامجاً طويلاً سريعاً يبتدئ من الصباح وينتهي في منتصف الليل!)
(إن العقلية الأمريكية تتطلع إلى عرفان كل شيء، وتولع بالجديد الغريب؛ وهي عقلية فتية تؤمن سريعاً وتكفر كثيراً؛ وأنت لابد ناجح في أمريكا إن كنت روائياً طريفاً ناقدً متفلسفاً.
والكاتب الناشئ يغدو معروفاً في أقل من شهرين، تقام له الحفلات الرائعة، وتتحدث إليه الصحف، وتطبع مؤلفاته مراراً ثم.

ثم يموت في أذهان الجمهور، وينحدر إلى الخمول والنسيان، كأنما هي شهرة خاطفة تمتع بها قليلاً وحلم فيها كثيراً ثم عاد إلى الواقع المجهول يتفيأ ظلال الذكرى وبقايا المجد!)
(والشخصية الفردية لا أثر لها في أمريكا على الأطلاق، والسعادة الروحية لم يتمتع بها الأمريكي بعد لذاته؛ دائماً (خدمة الجمهور) هو المذهب السائد الذي يؤمن به الأمريكيون كافة، وهو مذهب، على قيمته، خطر كل الخطر، مفسد للشخصية والنبوغ، لأن المرء الذي لا يبالي بوجوده الفردي يعد آلة تعمل من غير شعور ولا تطور.
والواقع أن المصانع قامت مقام اليد العاملة، والآلة طغت على الفن، (والكثرة) هي المقياس الذي توزن به قيم الأعمال ونتائج الأشياء)
(وهذه المساوئ التي نذكرها ويذكرها غيرنا ليست مساوئ النفس الأمريكية، وإنما هي مساوئ المدنية الغربية الحاضرة.
ولئن مات الفن اليدوي في أمريكا وعاشت الآلة فإنما يموت الفن وتحيا الآلة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا؛ ونستطيع أن نستثني مهنة النقوش والخياطة والفسيفساء التي يمارسها القليل من الخلائق البشرية؛ أما عامة الشعب فمحشود في المصانع يعمل مجتمعاً من غير تفكير في الذات؛ والأدب الأمريكي أدب الصناعة حقاً، يصور ميكانيكية المعمل وسرعة الحياة واضطراب المجتمع؛ أما أزمات النفس، وثوران العواطف، وانفعالات الأهواء، فهي غريبة نكرة في الأدب الأمريكي الحديث.

.
. الواقع أن الحياة الحاضرة حياتان: حياة آسيوية أخروية متشائمة ساخطة، نظرت إلى الدنيا من خلال منظار أسود كئيب، فرأت جوعاً وفقراً ومرضاً وظلماً، فكرهت المجتمع الحافل، وانعكفت على التصوف وأحبت الأحلام، ثم قالت: إنما الدنيا متاع الغرور!.
وحياة أمريكية دنيوية صناعية لا تبالي بالباطن العجيب، ولا تعنى إلا بالأرض؛ فالأمريكي قل أن يلتفت إلى نفسه يطالع فيها ويتأمل جوانبها على نحو ما يفعل الأسيوي الحالم، وإنما هو يطالع في الآلة والمصنع والأرض، ثم يحاول أن يجد السعادة فيما يحيط به من الدنيا الواقعة المحسوسة وعندي أن الحياتين على نفعهما لا تصلحان للبشرية، فالتطرف مذهب لا أحبه لنفسي ولا أرضاه لجنسي، وإنما أرجو حياة وسطاً بين الحياتين، قوامها الحس والتفكير، ومادتها الدنيا والنفس، وغايتها التقدم والمرح والإنتاج.
ولعل الحياة الأوربية هي الحياة التي تجمع خصائص الحياتين المتطرفتين الأسيوية والأمريكية.
. وهنا قد يستطيع الفرنسيون أن يوفقوا بين هذه وتلك، وينشروا الاعتدال؛ فالمدنية الفرنسية مدنية قديمة ذات أدب خصب صحيح، لها أنصار كثيرون، ولها ماض جليل حافل، ولها صناعة قوية جميلة.
وإنما المهم أن يعرف الفرنسيون أي سبيل يسلكون لذيوع الثقافة الفرنسية وتأثيرها في العقول.
ولقد ينبغي قبل كل شيء أن نفتح أعيننا جيداً حين نطوف البلاد ونجول الأرجاء، ثم نرسل العقل حراً في البحث والتفكير، والمطالعة والاستنتاج)
محمد روحي فيصل

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢