أرشيف المقالات

قضايا التاريخ الكبرى

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 من قضايا السحرة صفحة من الجرائم المروعة للأستاذ محمد عبد الله عنان يعتبر عصر لويس الرابع عشر أعظم عصور التاريخ الفرنسي، لا من وجهة السلطان الباذخ فقط، ولكن من الوجهة الاجتماعية والفكرية أيضاً؛ فكما أنه عصر الفتوحات العظيمة، فهو أيضاً عصر تقدم فكري واجتماعي ساطع؛ ولم تبد الملوكية الفرنسية من قبل قط بمثل ما بدت به في عصر لويس الرابع عشر من العظمة والبهاء، ولم يزدهر المجتمع الفرنسي مثلما أزدهر في هذا العصر؛ وفيه تتفتح العبقرية الفكرية إلى الذروة، ويحتشد النبوغ الفكري أيما احتشاد، هو (القرن الأعظم) كما ينعت في التاريخ الفرنسي، وهو عصر (الملك الأعظم)؛ وهو عصر كورني وراسين وراسان ولافونتين وجمهرة كبيرة أخرى ممن يزدان بهم التاريخ الفرنسي بيد أن هذا البهاء الساطع الذي يشع به (القرن الأعظم) تغشاه الظلمات في كثير من النواحي؛ ففيه يتكشف ذلك المجتمع الباهر عن ثغرات خطيرة من الانحلال الخلقي والاجتماعي؛ وفيه تزدهر الجريمة، وتنحط النفس البشرية إلى ضروب شائنة من الفساد والإثم تخلق بأشنع العصور في سنة 1676 كشفت مأساة السموم الشهيرة التي أخذت فيها المركيزة دي برانفلييه بطائفة من الجرائم المروعة عن طرف من تلك الأثام الخفية التي تجثم وراء مجتمع زاهر؛ وكان ذلك الحدث المدهش مفاجأة مروعه لمجتمع ذلك العصر؛ فقد ظهر أن السم - ذلك السلاح الخفي الغادر - يحصد علية القوم حصداً، وأن كثيراً، وأن كثيراً من الوفيات الفجائية المريبة التي وقعت في تلك الفترة إنما هي جرائم قتل شائنة ترتكب في سبيل الانتقام والمال والهوى بيد أن جرائم المركيزة دي برانفلييه كانت جرائم فردية، وكانت محدودة المدى، ولم تكن شيئاً يذكر إلى جانب ذلك الثبت الحافل من جرائم هائلة مثيرة معاً تبث الروع الخف الصامت إلى المجتمع الباريزي وتصمه بحمأة العار والاثم، ويدمغ شينها المثير أرفع الرؤوس والمقامات في ذلك المجتمع الأنيق الباهر كانت جرائم (السحرة)، وذيوع الخرافات السحرية بين علية القوم، ومزاولة هذه الرسوم الوثنية الشائنة، والتماسها وسيلة لتحقيق أحط الشهوات البشرية، من ظواهر ذلك الانحلال الخفي الشامل الذي يغشى عظمة (العصر الأعظم) كان السحر من الأمور التي طبعت أذهان العصور الوسطى بطابعها القوي؛ وكانت مزاولة السحر جريمة يعاقب عليها القانون في تلك العصور بأشد العقوبات؛ وكان يعتبر من السحر كل مالا تسيغه عقلية هذه العصور من الأمور المدهشة حتى ولو كانت مما يدخل في حيز الاكتشافات العلمية كمزاولة السيميا أو البحث عما يسمونه حجر الفلاسفة، والتجارب الكيميائية المدهشة؛ وكان السحر دائماً وسيلة الأجرام، ترتكب باسمه وفي ظله أشنع الجرائم الدموية والأخلاقية؛ وكان هذا النوع من السحر الملوث بحمأة الجريمة، والذي تخضب رسومه الفظيعة في معظم الأحوال بالدماء البشرية، يسمى (بالسحر الأسود) أو السحر الذي يقصد به وجه (الشيطان) ولم تكن عقلية القرن السابع عشر بعيدة عن هذه الأوهام الشائنة، بل كانت تتأثر بها أيما تأثر؛ وكان المجتمع الرفيع الذي يحفزه حب المال أو لوعة الهوى أو ظمأ الانتقام أو غيرها من الشهوات البشرية أو المثالب الخلقية يجد في السحر ملاذه ويعتقد أن السحر مازال وسيلة لتحقيق هذه الأطماع والأهواء في ظل هذا المعترك الذي تضطرم فيه الشهوات الوضيعة، ويملك الإيمان بالسحر عقول الخاصة فضلاً عن الكافة وتسري إلى المجتمع أسباب الانحلال الخلقي والاجتماعي، كان (السحرة) ومن إليهم من دعاة السيميا والكيمياء يبثون في المجتمع أباطيلهم، ويزاولون تلك الرسوم المروعة المثيرة التي تعرف (بالسحر الأسود) ويسلحون الأيدي الغادرة بالسموم المرهقة، وينظمون أشنع الجرائم الدموية والخلقية، ويستظلون للتمويه على الكافة بظل الخفاء والمقدرة على تنبؤ الغيب وتسخير القدر، وتوجيه الحظوظ وقد بلغ الشغف بالخفاء والتماس السحر ذروته في ذلك العصر؛ وكان يتمخض بين آن وآخر عن طائفة من الجرائم الفظيعة التي يكتنفها خفاء السحر وروعته وكانت جرائم السحرة الشهيرة التي اكتشفت فجأة في عصر (الملك الأعظم) من أروع هذه المفاجآت التي يرتجف المجتمع لهولها وشناعتها في يوم من أواخر سنه 1678، اجتمع في باريس على مائدة سيدة تدعى (لافيجوريه) هي زوجة خياط للسيدات، محام متواضع هو الأستاذ بيران، وامرأة (عرافة) مشهورة في هذا الوقت تدعى ماري بوسي؛ ففي أثناء العشاء بدرت من العرافة تلميحات خطيرة حول جرائم ترتكب بالسم، ويشترك في ارتكابها رجال ونساء من علية القوم؛ فانزعج الأستاذ بيران، وأفضى بما سمعه إلى مدير البوليس (لاريني) وكانت ذكريات جرائم المركيزة دي برانفلييه ما تزال حية رنانة، فأدراك (لاريني) أنه ربما كان أمام ثبت آخر من الجرائم المماثلة، فأمر بالقبض على مدام فيجوريه، وماري بوسي وابنتها مانون وولديها؛ وذلك في 4 يناير سنة 1679، وأفضت التحقيقات الأولى التي قام بها لاريني نفسه إلى أن قبض في 12 مارس على امرأة تدعى (لافوازان) أو مدام فوازان، وهي عرافة شهيرة في ذلك العصر تزاول السحر وأموراً خفية أخرى، وعلى ابنتها مرجريت، ثم على رجل يدعى (لي ساج) وهو شريك لافوازان وعشيقها، ثم على عشرات آخرين ممن ورد اسمهم في التحقيق ونسب إليهم قسط من الأعمال والجرائم المروعة التي كشفت عنها اعترافات المتهمين كان لاريني مديراً للبوليس، يقف بحكم وظيفته على أخطر الأسرار وأفظع الجرائم، ولكنه لم يلبث أن رأى نفسه أمام معترك هائل من الجرائم التي ترتجف لهولها وروعتها أقسى القلوب وأصلبها؛ جرائم تمتد إلى النفس والعرض والمال بأشنع الآثام، وتتطاول إلى الملك وحياته ذاتها، ويشترك في تدبيرها وارتكابها نفر من العظماء نساء ورجالاً يزاولون (السحر الأسود) ويشتركون طوعاً في اجراءته المروعة المشينة، ويغمسون أيديهم في الدم البريء تقرباً إلى الشيطان، والتماساً لتحقيق أسفل الشهوات والغايات وكانت لافوازان هي المحور الأكبر لذلك الثبت المروع من الجرائم التي سودت صحف (العصر الأعظم) وهي امرأة تدعى في الأصل كاترين ديزي، وزوجها يدعى مونفوازان، أو فوازان، ومن ثم كان اسمها.
وقد بدأ الرجل حياته تاجراً في الحلي، ثم زاول أنواعاً أخرى من التجارة، ولكنه لم يفلح ولازمه النحس، فاعتزمت زوجته عندئذ أن تزاول مهنة التنجيم والعرافة.
وكانت لافوازان في الواقع ذات مقدرة خاصة في تفهم نفسية بعض الناس، وكانت قد درست شيئاً من الفلك وما يتعلق بالسحر من المسائل والرسوم التي كانت ذائعة في ذلك العصر فامتهنت العرافة والسحر، واستقرت في منزل تحيط به حديقة في فلنيف من ضواحي باريس.
وأقبل عليها القوم من كل صوب يستوحون علمها ونصحها، وكانت تزاول كل ما يدخل في باب الخفاء من قراءة الكف وصنع التمائم والتعاويذ، والتنبؤ بالمستقبل بيد أنها كانت تزاول أعمالاً أخطر، فقد كانت تبيع السموم لزوجات يردن التخلص من أزواجهن، أو أقارب يترقبون وفاة المورث، وكانت تصف الأدوية لمختلف الأمراض، وتزاول التوليد وبالأخص الإجهاض؛ وكان بين قصادها سادة من الأكابر وسيدات من أرقى طبقات المجتمع وكانت لافوازان، كما يصفها المعاصرون امرأة قصيرة القد، مليئة الجسم، وافرة الحسن، لها عينان ساطعتان ثاقبتان، وكانت بما ينهمر عليها من المال من كل صوب تعيش عيشة ترف ومتاع، تصطفي العشاق حسبما تهوى تحت سمع زوجها المسكين وبصره، وتقيم الحفلات الصاخبة، وكانت تعشق الشراب وتفرط فيه، فلا ترى دائماً إلا ثملة، تضرب زوجها أو عشاقها وهم عديدون وكانت تحيا هذه الحياة الحيوانية المحضة فوق أكداس من الإثم ترتكبها كل يوم، لا يزعجها شبح أولئك الذين ترسلهم بسمومها إلى الأبدية، ولا تلك الضحايا البشرية العديدة التي كانت تزهقها مع شركائها كلما أجرت رسوم القداس الأسود كما سنرى وكان شريكها وساعدها الأيمن في تلك الحرفة الأثيمة رجل يدعى (ليساج) وكان أحب عشاقها إليها وأشدهم نفوذاً لديها، وكان ليساج يزاول أعمال السيميا ليكتشف ما يسمونه (حجر الفلاسفة) أو المادة التي يمكن أن تعاون في تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وتمده لافوازان كما تمد غيره من السيميائيين والمشعوذين بالأموال الوفيرة لأجراء التجارب المطلوبة.
وكان هذا (الساحر) الخطر من أهل الجنوب واسمه الحقيقي آدم كيريه؛ وكان يشتغل بتجارة الصوف، ولكن غلبه شغف السحر والخفاء فاتصل بلافوازان ووثق الحب بينهما ذلك التحالف الأثيم، ووعد لافوازان بالزواج متى بدت أرملة.
وفي سنة 1667 قبض عليه بتهمة (الاتصال بالشيطان) وقضي عليه بالأشغال الشاقة في الأسطول، ولكن لافوازان سعت لإنقاذه بنفوذها واستطاعت أن تستصدر العفو عنه فعادت إلى باريس سنة 1672 وتسمى بليساج، واستأنف أعماله الأثيمة مع عشيقته وكان ليساج وغداً سافلاً لا يحجم عن ارتكاب أية جريمة، وكان له أكبر نفوذ على لافوازان وزميلاتها، فكان يقتنص منهن الأموال الوفيرة بخبثه ودهائه؛ وكان يكتب التعاويذ للراغبين ويعقد صلاتهم بالشيطان بتمائم وأدعية مريبة، وأحياناً يتزيا بزي القسس ويقيم الصلوات والأقدسة؛ وكان منظره غريبا يضع على رأسه شعراً أحمر، ويرتدي ثوباً أشهب ومعطفاً غريباً، وكان القبض عليه للمرة الثانية عقب القبض على لافوازان في 17 مارس سنة 1679 كان اكتشافاً مروعاً ذلك الذي وقع به لاريني مدير البوليس من أعمال هذه الطغمة.
ولم يكن أمر السحرة مجهولاً، وكان الهمس يسري حول آثامهم وجرائمهم في أرفع الأبهاء؛ ولكن لاريني لم يكن يتوقع قط أن يكشف التحقيق الذي أجراه وأشرف عليه مدى أشهر عن تلك الشبكة السوداء الهائلة التي تغمر العاصمة الفرنسية والتي تجذب شراكها الخطرة أعظم الرؤوس وأعظم المقامات.
وقد أثبت لاريني في ملف التحقيق الذي أجراه أقوالاً ومعلومات مدهشة عن أعمال المتهمين وحياتهم الغريبة؛ ومما أثبته من أقوال لافوازان، إن أفضل ما يعمل هو أن يقبض على كل من يزاول قراءة الكف، فإن هذه الحرفة تكشف عن أمور مدهشة حيثما يمنى المحب بخيبة الأمل، وأن التسميم جرم ذائع، وأنه يدفع عن (العملية) الواحدة أحياناً عشرة آلاف جنيه (نحو خمسين ألف فرنك من العملة الحديثة)؛ وأيد ليساج هذه الأقوال، وزاد عليها أن كل أولئك الذين يزعمون أنهم يبحثون عن الكنوز أو حجر الفلاسفة أو غيرها إنما يزاولون أعمالاً خفيفة أخرى، وأولئك الذين يزاولون السحر إنما يتعاقدون على تسميم زوج أو زوجة أو أب وربما على تسميم طفل في المهد بيد أن أروع ما سطره التحقيق أقوال المتهمين عن مزاولة (السحر الأسود) وإجراءاته الدموية المثيرة.
وكانت هذه الإجراءات تقترن عادة بإزهاق طفل صغير يسرق أو يؤخذ من بين اللقطاء الذين تقذف بهم الأمومة الأثيمة.
وكان يؤتى لهذه الغاية ببغي تمدد عارية بين هالة من الشموع السوداء؛ ثم يأتي الساحر في ثياب قس، وبعد أن يذبح الطفل، يلقي بعض التمائم والدعوات الشيطانية؛ وكان الساحرات يبحثن دائماً عن الأمهات الآثمات أو البغايا الحاملات فيجرين توليدهن ويأخذن المواليد برسم القربان؛ ويلقى بهذه الجثث الصغيرة في بعض الغابات أو تحرق في منزل الساحرة.
وكانت لافوازان أنشط الساحرات في إجراء هذه الرسوم الهائلة! وكان يعاونها في إجرائها غير ليساج قس وغد يدعى الأب جيبورج؛ فيقوم بقراءة (القداس الأسود) أو قداس الشيطان على أجسام النسوة اللاتي يرغبن في هذا الإجراء وكن يتمددن عاريات فوق مائدة تؤدي وظيفة الهيكل، ويوضع الإناء المقدس على البطن العاري، ويذبح وقت القربان طفل يلقى دمه في الإناء، وقد اعترفت لافوازان أنها أحرقت في فرن منزلها أو أخفت في حديقتها نحو ألفين وخمسمائة جثة من هذه الضحايا الصغيرة البريئة! هذا طرف مما دونه لاريني في تحقيقه من أقوال المتهمين أنفسهم.
ويعلق لاريني على ذلك بقوله، أنه يستحيل أن يتصور الإنسان أن تكون هذه الجرائم حقيقية أو ممكنة إذا ما تأملناها.
بيد أنها اعترافات أولئك الذين ارتكبوها أنفسهم؛ وتفاصيل الاعتراف لا تدع مجالاً للريب (للبحث بقية) (النقل ممنوع) محمد عبد الله عنان

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن