أرشيف المقالات

في رأس البر

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للأستاذ احمد أمين يعجبني في رأس البر بساطة العيش والقرب من الديمقراطية.
يعيش الناس - كما كان يعيش آباؤهم الأولون - في أكواخ من الحصر، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم؛ ويلبسون لباساُ ساذجاُ قريب الشبه بما كان يلبس آبائهم، ويسبحون في البحر عراة، ويمشون على البر حفاة؛ ملوا المدنية وزخارفها، والحضارة وبهرجها، وهربوا من المدن وضوضائها، والأرستقراطية وأوضاعها وتقاليدها وتعقيداتها، وارتموا في أحضان الطبيعة فأفسحت لهم صدرها، ينزلون البحر فينفضون عنهم هموم الحياة، وينبطحون على الرمل ويذكرون قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) ليس فيها قصور شامخة بجانب أكواخ وضيعة، وليس فيها ثريات كهربائية بجانب أضواء زيتيه أو غازية، ولا ملابس أنيقة بجانب أثواب مهلهلة؛ يصعب عليك التمييز فيها بين الغني والفقير، والعالم والجاهل، إلا في الآنسات والسيدات فهن يأبين إلا الظهور، والتمسك بالفروق، وإلا في أمثالهن ممن حليتهم لباسهم، وقيمتهم مظهرهم خلف فيها الناس وراءهم المخترعات الحديثة بجلبتها ورذائلها؛ فلا سيارات تصم الآذان بأبواقها، وتأنف الأنوف من روائحها، وتربك السائرين لسرعتها وكثرتها واضطراب حركاتها؛ ولا تلفون يرن في الهجير وفي منتصف الليل فيوقظك من نومك الهادئ، ويحملك رجاء تنوء بحمله، أو يصلك بثقيل ينغص عليك الحياة بحديثه؛ ولا راديو يسمعك اللطيف والسخيف، ويأبى عليك النوم أحوج ما تكون إليه، وأشد ما تكون رغبة فيه، لأن جيرانك يأبون إلا أن ينتفعوا به كاملاُ من بدء يمين - شمال، إلى سلام الملك! حياة حرة طليقة، وجو مفتوح، وهواء جديد دائماُ، لم تفسده الحضارة بدخانها وغازاتها، ولم تحبسه الأبنية الشامخة، ولم تحجزه الحيطان الأربعة، تتجدد النفس بتجدده، وتمتلئ نشاطاُ من نشاطه، يغذي كل خلية غذاء حلواُ طيباُ، ويخلع على الجسم لوناُ نجاشياُ ظريفاُ، وينعش العواطف والروح، فهي قوية حادة، شديدة التنبه، شديدة الإحساس؛ حتى عاطفة الدين، فهي أقوى ما تكون، واطهر ما تكون، وأصفى ما تكون، حينما تتجلى الطبيعة في ثوبها الفطري الجميل، في السماء والماء، والمزارع والحقول، فليس الإلحاد والزندقة والتعصب الذميم وضيق النظر إلى وليد الحضارة المعقدة والجو الخانق، والفكر الراكد ودوران الفكر حول نفسه لا حول الطبيعة في جو المدن لا يشعر الإنسان بالسماء إلا عند المطر، ولا بجمال الشمس ولا جمال القمر، ولا يلمس الطبيعة إلا إذا ساءت من شدة الحر أو شدة البرد! كل ما حوله من جمال جمال صناعي؛ قد استغنى بجمال طاقات الزهور عن الزهور في منابتها، واستغنى بثريا الكهرباء عن ثريا السماء، وبالحسن المجلوب عن جمال الفطرة وجمال الطبيعة وجمال الخلقة.
وهيهات أن يتساوى منتحل وغير منتحل، فليس التكحل في العينين كالكحل! إنما يشعر الإنسان بجمال الطبيعة يوم يخرج من المدينة إلى الريف، ويفرمن الحظر إلى البدو، فينكشف له الخلق بجماله القشيب، وتأخذ بلبه السماء في لا نهائيتها، والبحار في أبديتها، ويشعر شعوراُ قوياُ بأنه ذرة من ذرات العالم، وجزء صغير من أجزاءه، ضعيف بنفسه، قوي بكله، وأنه لاشيء يوم ينفصل عنه، وأنه نغمة من نغماته يوم يتصل به لوددت أني خلعت نفسي في المدينة يوم فارقتها، فقد سئمت نفسي وسئمتني، ومللتها وملتني، وتمنيت أن تكون النفس كالثوب تخلعه حيناُ، وتلبسه حيناُ، ويبلى فتجدده، وتكرهه فتغيره - إذن لاستبدلت بنفسي - ولو إلى حين - نفساُ مرحة تستغرق في الضحك من الشيء التافه ومن لا شيء، ولا تبكي على ما فات، ولا تحمل هماُ لما هو آت بل لتمنيت أن أكون كدودة القز تكون دودة حيناُ، ثم تكون فراشة حيناُ، أرشف من هذه الزهرة رشفة، ومن هذه رشفة، وأنشر جناحي في الشمس، أعيش في جمال وأغيب في جمال، كما تغيب الشمس الجميلة في الشفق الجميل، أو كما تغني النغمة الحلوة في رنات الآلات، أو كما تنداح الابتسامة العذبة في الوجه الصبوح، أو كما تندمج الموجة العظيمة في البحر العظيم! ولكن أنى لي هذا؟ ولو كان لشكوت وبكيت، فقد خلقت كما خلق المتنبي خلقت الوفاً لو رجعت إلى الصبى ...
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا وخرجت مبكراُ والناس نيام، أمشي على الشاطئ وأرقب الشمس في طلوعها؛ والشمس على الساحل أجمل من الشمس على غيره، فليس لها تلك القوة العاتية، ولا الحرارة القاسية، ولا الأضواء المعشية؛ فيها شيء من الوداعة واللطف والحنان! هاهي ذي قد طلعت، فأخذت الحياة تدب في النفوس، تلقي أشعتها على البحر فينعقد منه سحاب فمطر فأنهار، فجميع ما لذلك من أعمال باهرة، وقوى ساحرة، وأفعال عجيبة! أنظر يميناُ فأرى النيل، وأنظر يساراُ فأرى البحر، وقد عاد النيل إلى البحر بعد أن أتم دوريه، وأدى مهمته؛ قد خرج هذا العذب الفرات، من هذا الملح الأجاج، كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم! قد سلسلوا النيل فعدا عليه البحر فأغتصب مجراه، وأملح ماءه، ثم فكوا قيوده، فاسترد حقوقه، وأراد أن ينتقم من أبيه، فحاول أن يحتل شاطئه، ويحلي ماءه، ولكن يعكر صفاءه، ثم ندم على العقوق فتاب وأناب وإذا هما مؤتلفان، بينهما برزخ لا يبغيان ثم تسطع الشمس، ووددت أن تكون مذكرة في اللغة العربية، كما هي مذكرة فيما أعرف من اللغة الأوربية، لأنها تتزوج الأرض فتولدها ما شئت من أشكال وألوان وذكور وإناث، وكأن أشعة الشمس خمر معتقة تشربها الأرض فتنتشي وتبتهج، وتمتلئ قوة ونشاطاُ وحركة وتقع أشعتها على الطير فيسرح ويمرح ويتغنى، وتحل في قلب الإنسان فيهدأ روعه، ويذهب فزعه، ويطمئن إلى حياته، وتتحرك إرادته، وتنتعش آماله دعني أتعر فالعراء على الساحل مباح، فأملأ جسمي بأشعتها، وأملأ شعوري ودمي بقوتها، وأملأ نفسي بعظمتها وسحرها. ومشيت إلى قلعة في رأس البر كنت آنس بها قديماُ، وكان في كل حجر من أحجارها صفحة من العزة القومية، والحمية الوطنية؛ أقامتها الأمة يوم كانت تشعر بنفسها، وتدافع بنفسها عن كيانها، وتحس بتبعاتها، وتدبر شؤونها، وتدير أمورها، كما يتراءى لها - فرأيتها وقد عدا عليها الزمان، وعلاها البلى ونقض أحجارها، وليس من يعتز بها فيقيم أنقاضها، ورأيت بها (مدفعاُ) قد هزأ به الرمل فغطاه، وسخر به الصدأ فعلاه، دفن كما يدفن عزيز أرداه الزمان بسهامه، وذل كما يذل السيد توالى عليه الدهر بأحداثه! ورأيتهم أقاموا في وسطها صهريجاُ يخزن الماء لرأس البر؛ فقلت: سبحانك ربي، جعلت من مستودع النار ماء، كما جعلت من الشجر الأخضر ناراُ! لقد كان مكانك رمز القوة واصبح رمزاُ الرقة، وكان بك جن يقذفون بالنار فبدلت بهم ملائكة يوزعون الرحمة، وكان بك دم يغلي، فأحاله الزمان القاهر زلالاُ بارداُ، وما أدرى ماذا جاش بنفسي فدمعت عيني وقالوا قد جُننتَ فقلتُ كلا ...
وربي ما جننتُ وما انتشيت ولكني ظُلمتُ فكدت أبكي ...
من الظُّلمِ المبيّن أو بكيتُ فأن الماء ماء أبي وجدي ...
وبئري ذو حفرت وذو طويت ثم صحوت فقلت: أتندب كل طلل مررت به، وتبكي كل شيء رأيته، وتحزن في معاهد الفرح، وتنقبض في مغاني المرح؟ من أجل هذا تمنيت - قبلُ - أن أخلع نفسي، ووالله لو أمكنتني الفرصة ثانية ما ترددت، ولسمحت وما حرصت، فقد برمت بها وعجزت عن حملها هيا إلى البحر! فهناك الفرح والمرح، وهناك يضحك الناس له ويضحك لهم، ويداعبون أمواجه وتداعبهم، وأحياناً ينسون جلاله فيصفعهم! فيه الحياة، وفيه القوة، وفيه العظمة، وفيه اكبر مظهر لطاحون العالم، تطحن دائماً، وتطحن ناعماً! رأس البر أحمد أمين

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن