أرشيف المقالات

محاورات أفلاطون

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 29 - محاورات أفلاطون الحوار الثالث فيدون أو خلود الروح ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود تتمة الحوار فهذه الأنهار عديدة وقوية ومنوعة، منها أربعة رئيسية أعظمها وأقصاها نحو الخارج هو ذلك المسمى بالاقيانوس الذي يجرى في دائرة حول الأرض، ويسير في الاتجاه المضاد له نهر أشيرون يجرى تحت الأرض في ربوع جدباء حتى يصيب في بحيرة أشيروزيا هذه هي البحيرة التي تذهب إلى شواطئها أرواح الدهماء حين يدركهم الموت، حيث يلبثون أجلاً مضروباً، يكون طويلاً لبعضها قصيراً لبعضها الآخر، ثم تعود ثانية لتحل في جسوم الحيوان.
وينبع النهر الثالث فيما بين ذينك النهرين، وهو يصب على مقربة من منبعه في منطقة شاسعة من النار، حيث يكوّن بحيرة أوسع من البحر الأبيض المتوسط، يغلي فيها الماء والطين، ثم يخرج منها عكراً مليئاً بالوحل، فيدور حول الأرض حتى يبلغ فيما يبلغ من مواضع أطراف بحيرة أشيروزيا، لكنه لا يختلط بمائها، وبعد أن يتحوى في عدة ثبايا حول الأرض، يغوص إلى جهنم أدنى مما كان مستوي.
هذا هو نهر بيرفليجثون - كما يسمى - الذي يقذف في كل مكان بفوارات من النار.
ويخرج النهر الرابع في الجهة المقابلة، ويسقط أول ما يسقط في منطقة همجية متوحشة، تصطبغ كلها باللون الأزرق القاتم الذي يشبه حجر اللازورد، وهذا النهر هو ما يسمى نهر ستيجيا وهو يصب في بحيرة ستكس التي يكوّنها، وبعد أن يصب في البحيرة ويستمد لمائه قوى عجيبة، يجري تحت الأرض، دائراً حولها في اتجاه يضاد نهر بيرفليجثون، ويلتقي به في بحيرة أشيروزيا من الجهة المقابلة، ولا يختلط ماء هذا النهر أيضاً بغيره، بل يجري في دائرة ويتدفق في جهنم، مقابلاً لنهر بيرفليجثون ويسمى هذا النهر كوكيتوس كما يقول الشاعر تلك هي طبيعة العالم الآخر، فلا يكاد الموتى يصلون إلى حيث تحملهم شياطينهم وحداناً حتى يقضي في أمرهم بادئ ذي بدء، إن كانوا أنفقوا الحياة في الخير والتقوى أم لا، ظهر منهم أن حياتهم لم تكن لا إلى الخير ولا إلى الشر، فانهم يذهبون إلى نهر أشيرون، ويركبون ما يصادفونه من وسائل النقل، فيُحملون فيها إلى البحيرة حيث يقيمون ويطهرون من أوزارهم ويعانون جزاء ما أساءوا به للناس من أخطاء، ثم يغتفر لهم وينالون جزاء وفاقاً بما قدمت أيديهم من خير.
أما أولئك الذين لا يرجى لهم إصلاح، فيما يظهر، لفداحة ما أجرموا، أولئك الذين أتوا من الآثام المنكرة شيئاً كثيراً، كتدنيس المعابد وإزهاق الأنفس إزهاقاً خبيثاً عنيفاً أو ما أشبه ذلك - أولئك يلقى بهم في جهنم لا يخرجون منها أبداً، فهي لهم أنسب مصير.
أما هؤلاء الذين أجرموا أجراماً لا يجل عن العفو على هوله - أولئك الذين قسوا على والد أو والدة مثلاً وهم في سورة من الغضب ثم أخذهم الندم مدى ما بقى من حياتهم، أو الذين قتلوا نفساً مدفوعين بظروف تخفف من جرمهم - هؤلاء يغمسون في جهنم، ولزام عليهم أن يصلوا عذابها حولاً، وفي نهايته تقذف بهم الموجة: أما قاتل النفس فتقذف به إلى مجرى نهر كوكيتس، وأما قتلة الآباء والأمهات فإلى نهر بيرفليجيثون - فيحملون إلى بحيرة أشيروزيا حيث يرفعون عقائرهم صائحين بضحاياهم القتلى، أو بمن نالتهم منهم إساءة، عسى أن تأخذهم بهم رحمة فيتقبلوهم ويسمحوا لهم بالخروج من النهر إلى البحيرة.
فان نالتهم الرحمة من أولئك، خرجوا ونجوا من عذابهم، وأن لم يرحموهم حملوا إلى جهنم مرة أخرى، ومنها إلى الأنهار، وهكذا دواليك حتى يظفروا ممن أساءوا إليهم بالرأفة، فهكذا قضى عليهم قضاتهم.
أما من امتازت حياتهم بالتقوى، فأولئك يطلق سراحهم من هذا السجن الأرضي، فينطلقون إلى عليين حيث يقيمون في مقامهم الطاهر ويعيشون على تلك الأرض وهي أنقى؛ وأما أولئك الذين طهروا أنفسهم حقاً بالفلسفة فهم يعيشون منذ الآن متحللين من أجسادهم في منازل أجمل من تلك، يعجز عنها الوصف ويضيق الوقت أن أحدثكم عنها إذن ياسمياس، وقد رأيت هذه الأشياء كلها، فماذا ينبغي لنا ألا نفعله لكي نظفر بالفضيلة والحكمة في هذه الحياة؟ ألا إن الجزاء لجميل، والأمل لعظيم لست أريد أن أقطع بصدق الوصف الذي قدمته عن الروح ومنازلها - فما ينبغي لرجل ذي فطنة أن يقطع بهذا، ولكنه في رأيي حقيق، وقد أتضح خلود الروح، أن يجازف بالظن، لا خاطئاً فيه ولا عابثاً، أن يكون الصواب شيئاً كهذا، وأنه منه لظن عظيم، ولابد له أن يسري عن نفسه بمثل هذه الكلمات، فمن اجلها أطلت حكايتي، ولهذا أوصيكم ألا يأخذ أحد على روحه الأسى، مادام قد طرح زينة الجسد ولذائده، واعتبرها غريبة عنه، بل هي أدنى إلى إيذائه بما تجر وراءها من أثر، ومادام في هذه الحياة قد تعقب لذة المعرفة، إلا أن أولئك الذين يزينون أرواحهم بلآلئها الصحيحة، وهي: الاعتدال والعدل والشجاعة والنبل والحق - أولئك تكون أرواحهم، إذا ما ازينت بتلك اللآلئ، مهيأة للرحيل إلى العالم السفلي حين يدركها الموت.
فأنتم، أي سمياس وسيبيس، ويا سائر الرجال، سترحلون في وقت قريب أو بعيد.
أما أنا، فهاهو ذا يناديني صوت القدر على حد قول شاعر المأساة، ولابد أن أجرع السم عما قريب، ويجمل بي فيما أظن أن أذهب أولا إلى الحمّام حتى لا يشق على الناس غسلُ جثماني بعد موتي فلما أن فرغ من الحديث، قال كريتون: أعندك ما تشير علينا به يا سقراط؟ ألديك ما تقوله عن أطفالك، أو عن أي شيء آخر نستطيع أن نعينك في أمره؟ فقال: ليس عندي شيء بعينه: غير أني أحب لكم، كما كنت أحدثكم دائماً، أن تنظروا في أنفسكم، فذلك فضل تستطيعون أن تواصلوا أداءه من أجلى، وهو أيضاً فضل مني لكم.
ولا ينبغي لكم أن تكونوا أدعياء فيما تقولون، لأنكم لو جهلتم أنفسكم وصدفتم عما أوصيتكم به، وليست هذه أول مرة أوصيكم فيها، فلن تجدي عليكم حماسة الادعاء شيئاً قال كريتون: سنبذل جهدنا، ولكن كيف تريدنا أن نواريك الثرى؟ على أي وجه تشاءون، غير أنه لابد لكم أن تمسكوا بي، وان تحذروا فلا ألوذ منكم بالفرار.
ثم التفت إلينا وأضاف باسماً: لا أستطيع أن أقنع كريتون أنني سقراط ذاته الذي كان يتحدث ويوجه الحوار، فهو يحسبني سقراط الآخر الذي سيشهده بعد حين جثة هامدة - وهو يسائل: ماذا عسى دفني أن يكون؟ مع أني قد أفضت في الحديث محاولاً إقامة الدليل على أني مخلّفكم حين أجرع السم، حيث أتوجه إلى لذائذ أصحاب النعيم - ويظهر أنه لم يكن لحديثي هذا الذي سرّيت به عن أنفسكم وعن نفسي، أثر في كريتون، لذلك أريدكم أن تكونوا لي الآن عنده كفلاء، كما كان هو كفيلي عند المحاكمة: على أن يختلف وعدكم عما وعد، فقد كان كفل للقضاة أني سابقى، ولكن عليكم أن تكفلوا له غير باق، بل إني ظاعن راحل، فتقل بهذا لوعته عند موتي، ولا يحزنه أن يرى جثماني يحترق أو يهال عليه التراب.
إني لا أحب له أن يتحسر على جدي العاثر، بأن يرتاع لدفني، فتأخذه الحيرة: على هذا النحو نكفن سقراط، أو هكذا نشيعه إلى القبر أو نواريه التراب.
إن الأقوال الباطلة ليست شراً في ذاتها فحسب، بل إنها لتصيب الروح بشرها.
لا تحزن إذن، أي عزيزي كريتون، وقل إنك لا تقبر منى إلا الجثمان، فاقبره على النحو الذي جرى به العرف، وكما تفضل أن يكون ولما فرغ من هذه العبارة، نهض ودخل غرفة الحمام، يصحبه كريتون، الذي أشار إلينا بأن ننتظر، فانتظرنا نتحدث ونفكر في أمر الحوار وفي هول المصاب.
لقد كنا كمن ثكل في أبيه، وأوشكنا أن نقضي ما بقى من أيامنا كالأيتام، فلما تم اغتساله جيء له بأبنائه - (وكانوا طفلين صغيرين ويافعاً) كما وفدت نساء أسرته، فحادثهن وأوصاهن ببعض نصحه، على مسمع من كريتون، ثم صرفهن وعاد إلينا هاقد دنت ساعة الغروب، فقد قضى داخل الحمام وقتاً طويلاً، وعاد بعد اغتساله فجلس إلينا، ولكنا لم نفضْ في الحديث، وما هي إلا أن جاء السجان، وهو خادم الأحد عشر، ووقف إلى جانبه وقال: لست أتهمك يا سقراط بما عهدته في غيرك من الناس، من سورة الغضب، فقد كانوا يثورون ويصيحون في وجهي حينما آمرهم باجتراع السم، ولم أكن إلا صادعاً بأمر أولي الأمر.
أما أنت فقد رأيتك أنبل وأرق وأفضل ممن جاءوا قبلك إلى هذا المكان، فليس يخامرني شك أنك لن تنقم عليّ، فليس الذنب ذنبي، كما تعلم، إنما جريرة سواي.
وبعد، فوداعاً، وحاول أن تحتمل راضياً ما ليس من وقوعه بد، وإنك لعليم فيم قدومي إليك.
ثم استدار فخرج منفجراً بالبكاء فنظر إليه سقراط وقال: لك مني جميل لجميل.
فسأصدع بما أمرتني به.
ثم التفت إلينا وقال: ياله من فاتن! إنه ما أنفكّ يزورني في السجن، وكان يحادثني الحين بعد الحين، ويعاملني بالحسنى ما وسعته.
انظروا إليه الآن كيف يدفعه فضله أن يحزن من أجلي فلزام علينا يا كريتون أن نفعل ما يريد.
مر أحداً أن يجئ بالقدح إن كان قد تم إعداد السم، وإلا فقل للخادم أن يهيئ شيئاً منه فقال كريتون: ولكن الشمس لا تزال ساطعة فوق التلاع؛ وكثير ممن سبقوك لم يجرعوا السم إلا في ساعة متأخرة بعد إنذارهم.
إنهم كانوا يأكلون ويشربون وينغسون في لذائذ الحس، فلا تتعجل إذن، إذ لا يزال في الوقت متسع فقال سقراط: نعم يا كريتون، لقد أصاب من حدثتني عنهم فيما فعلوا، لأنهم يحسبون أن وراء التأجيل نفعاً يجنونه، وأني كذلك لعلى حق في ألا أفعل كما فعلوا، لأنني لا أظن أني منتفع من تأخير شراب السم ساعة قصيرة.
أنني بذلك إنما أحتفظ وأبقي على حياة قد انقضى أجلها فعلاً، أني لو فعلت ذلك سخرت من نفسي.
أرجو إذن أن تفعل بما أشرت به ولا تعص أمري فلما سمع كريتون هذا، أشار إلى الخادم فدخل، ولم يلبث قليلاً أن عاد يصحبه السجان يحمل قدح السم، فقال سقراط: أي صديقي العزيز، أنك قد مرنت على هذا الأمر، فأرشدني كيف ابدأ.
فأجاب الرجل: لا عليك إلا أن تجول حتى تثقل ساقاك ثم ترقد، فيسري السم، وهنا ناول سقراط القدح فحدق في الرجل بكل عينيه، يا أشكراتس، وأخذ القدح جريئاً وديعاً لم يرَع ولم يمتقع لون وجهه.
هكذا تناول القدح وقال: ما قولك إذا سكبت هذا القدح لأحد الآلهة؟ أفيجوز هذا أم لا يجوز؟ فأجاب الرجل: أننا لا نعدُّ يا سقراط إلا بمقدار ما نظنه كافياً فقال: أني أفهم ما تقول، ومع ذلك فيحق لي بل يجب علي أن أصلي للآلهة أن توفقني في رحلتي من هذا العالم إلى العالم الآخر - فلعل الآلهة تهبني هذا، فهو صلاتي لها.
ثم رفع القدح إلى شفتيه وجرع السم حتى الثمالة رابط الجأش مغتبطاً، وقد استطاع معظمنا أن يكبح جماح حزنه حتى تلك الساعة، أما وقد رأيناه يشرب السم، وشهدناه يأتي على الجرعة كلها، فلم يعدْ في قوس الصبر منزع، وانهمر مني الدمع مدراراً على الرغم مني، فسترت وجهي، وأخذت أندب نفسي، حقاً أني لم أكن أبكيه بل أبكي فجيعتي فيه حين أفقد مثل هذا الرفيق.
ولم أكن أول من فعل هذا، بل أن كريتون، وقد ألفى نفسه عاجراً عن حبس عبراته، نهض وأبتعد، فتبعته، وهنا أنفجر أبولودورس الذي لم ينقطع بكاؤه طول الوقت، بصيحة عالية وضعتنا جميعاً موضع الجبناء، ولم يحتفظ بهدوئه منا إلا سقراط، فقال: ما هذه الصرخة العجيبة؟ لقد صرفت النسوة خاصة حتى لا يسئن صنيعاً على هذا النحو، فقد خبّرت أنه ينبغي للإنسان أن يسلم الروح في هدوء، فسكوناً وصبراً فلما سمعنا ذلك، اعترنا الخجل وكفكفنا دموعنا، وأخذ سقراط يتجول حتى بدأت ساقاه تخوران - كما قال - ثم استلقى على ظهره، كما أشير له أن يفعل، وكان الرجل الذي ناوله السم ينظر إلى قدميه وساقيه حيناً بعد حين، ثم ضغط بعد هنيهة على قدمه بقوة وسأله هل أحس فأجاب أن لا، ثم ضغط على ساقه وهكذا صعد ثم صعد، مشيراً لنا كيف أنه برد وتصلب، ثم لمس سقراط نفسه ساقيه وقال: ستكون الخاتمة حين يصل السم إلى القلب.
فلما أخذت البرودة تتمشى في أعلى فخذيه كشف عن وجهه، إذ كان قد دثر نفسه بغطاء، وقال: (وكانت هذه آخر كلماته) إنني يا كريتون مدين بديك لاسكلبيوس فهل أنت ذاكر أن ترد هذا الدين؟ ولم يكن لهذا السؤال من جواب؛ وما هي إلا دقيقة أو دقيقتان حتى سمعت حركة، فكشف عنه الخدم، وكانت عيناه مفتوحتين، فأقفل كريتون فمه وعينه هكذا يا اشكراتس قضى صديقنا الذي أدعوه بحق أحكم من قد عرفت من الناس، وأوسعهم عدلاً وأكثرهم فضلاً تم الحوار زكى نجيب محمود

شارك الخبر

المرئيات-١