أرشيف المقالات

الديمقراطية والانتخاب

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 في التربية للأستاذ فخري أبو السعود مبدأ التعليم العام حديث العهد وليد الديمقراطية في نظم الحكم الحديثة، إذا اقتضت الديمقراطية المساواة بين جميع أفراد الأمة في الفرصة التي تتاح لهم لتقويم طباعهم واستثمار مواهبهم؛ ففي نصف القرن الأخير جعلت مرحلة التعليم الأولى في دول الغرب الراقية عامة إجبارية مجانية، لينال كل فرد حظاً من التعليم، وعاونت الحكومات ذوي المواهب من أبناء الطبقة الفقيرة على المضي إلى غايات التعليم دون أن يكون فقرهم عائقاً لهم عن ذلك، وبذا انتشر النور وأطلقت المواهب التي كانت من قبل معقولة على أن التعليم العام لم يخل انتشاره من مساوئ: من ذاك أن معظم أبناء الطبقة السفلى يغادرون المدرسة تواً عقبة إنهاء مرحلة الدراسة الأولى ويعودون إلى مزاولة مهن آبائهم وينسون ما تعلموه في المدارس إلا النزر اليسير الذي لا يساعدهم إلا على قراءة غث الكتب وفارغ القصص؛ ومن ثم انتشر الأدب الرخيص وطغى على الأدب العالي، وتدلت الصحف، وكثر الكتاب المرتزقون الذين لا يتوخون سوى إرضاء تلك العقلية المنحطة، وقد آذى هذا الأدب المنحط الثقافة الرفيعة: إذ اجتذب غير قليل من المتعلمين تعلماً راقياً، لأن من طبيعة الإنسان أن يؤثر الهين من الأبحاث على الصعب منها، إلا أن يكون له وازع من نفسه شديد يقسره على التسامي عن الفضول؛ وما من وسيلة من وسائل التثقيف الحديثة كالراديو والسينما والمحاضرات إلا أسئ استعمالها كما أسئ استعمال الكتابة إرضاءً لفضول أشباه المتعلمين، وكانت النتيجة أن التعليم العام حين رفع مستوى الطبقة السفلى درجة هبط بعقلية الطبقة العليا مثلها على أننا إذا فرضنا أن التعليم العام كان خيراً كله في بلاد الغرب التي سبقتنا إليه فهل هو كذلك في مصر؟ لقد أخذنا مبدأ التعليم العام فيما أخذنا عن أمم الغرب؟ وقلنا: ما دمنا نطلب الديمقراطية في السياسة والحكم فلابد من اتباعها في التعليم؟ وما دمنا نريد النهوض ببلادنا فلننشر فيها العلم لننقيها من خرافات الجهل وجموده، وأغرقنا وتسرعنا في تطبيق ذلك المبدأ شأننا في كل ما ننقل عن الغربيين: فأنشأنا عشرات المدارس وزججنا الناشئ كل صوب، وأنفقنا على ذلك الأموال الطائلة، وتخرج من معاهدنا ألوف الشبان، فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة فشل لم يكن في الحسبان: فأولئك الشبان يزيدون على حاجة البلاد، وتعليمهم ناقص مشوّه، وأخلاقهم لا تحمد، والتعليم عامة يتقدم في طريق الضعف والانحلال سنة بعد سنة باطراد ذلك بأننا أخذنا بمبدأ الديمقراطية في التربية مطلقاً غير محدود، وهو مبدأ غير طبيعي ولا يصلح به وحده مجتمع ولا نظام، وإنما المبدأ الساري في الطبيعة هو مبدأ الانتخاب: فالأصلح في الطبيعة هو الذي يرقى ويسود؛ وقد فطن إلى ذلك أول الشعوب أخذاً بالديمقراطية في حياتهم الاجتماعية ونظمهم الحكومية، وهم اليونان: فديمقراطية أثينا لم تكن في الواقع إلا أرستقراطية إذ تذكرنا أنه كانت بها دائماً طبقتان ممتازتان غير متساويتين في الحقوق والواجبات: طبقة الأحرار وطبقة العبيد.
ولما بحث فلاسفة اليونان الكبار في النظم الحكومية لم يؤثر واحد منهم الديمقراطية المطلقة، ومالوا إلى الأرستقراطية لأنها هي النظام الطبيعي؛ وحين عالج أفلاطون التربية وضع لها نظاماً أرستقراطيا قائماً على مبدأ انتخاب الأصلح، لا ديمقراطياً على مبدأ المساواة التامة: فجعل التعليم على ثلاثة مراحل يتمتع الجميع بالأولى منها ولا يرتقى إلى الثانية فالثالثة إلا من أظهروا استعداداً طبيعياً لذلك، ومن المرحلة الأولى يتخرج أرباب المهن اليدوية، ومن الثانية يتخرج المقاتلون، ومن الأخيرة الفلاسفة والحكام فالطبيعة لم تجعل أبناءها متساوين في المواهب، بل هي ترفع بعضهم فوق بعض درجات، ومادام هذا كذلك فسيظل في كل مجتمع في كل عصر طبقات متفاوتة، ولن ترقى أمة إلى أن تعترف ضمناً بالتفاوت بين هذه الطبقات، والغفلة عن هذا التفاوت خطأ قاتل وأشهر الشعوب بالديمقراطية في العصر الحديث الإنجليز، ولكن من يتأمل في حياتهم يرى أن ديمقراطيتهم أرستقراطية كديمقراطية أثينا: فالفوارق بين طبقات النبلاء والأوساط والسوقة قائمة محددة يشعر بها أفراد كل طبقة، والنبلاء يترفعون على من عداهم ترفعاً شديداً، والآخرون ينظرون إليهم نظرة رهبة وإكبار، حتى لتكاد تكون طبقة النبلاء هذه أمة داخل أمة؛ وهذا الشعور باختلاف الطبقات والتسليم به والاعتراف بالأمر الواقع دليل على نزعة الإنجليز العملية، وهو هو سر صلابة بنيان نظامهم الاجتماعي والحكومي، وخلوّ تاريخهم من زعازع التقلبات وهو أيضاً أكبر أسرار نجاح نظم التربية عندهم: فالنظام الأرستقراطي يتمثل في المدرسة الإنجليزية كما يتمثل في المجتمع الإنجليزي: فالتعليم عام مباح للجميع، ولكن هناك مدارس للخاصة قاصرة على أبناء من يأبون لأبنائهم مخالطة أبناء السوقة، ومعظم أبناء الطبقة السفلى ينقطعون عن المدرسة بمجرد إنهاء المرحلة الإجبارية وينزلون إلى ميدان الحياة العملية، ونظم المدارس من الشدة والدقة وجوهاً من النقاء بحيث لا يسمح بالاستمرار في مراحل التعليم إلا لمن حسنت أخلاقهم ونضجت مداركهم، والحكومة ومجالس الأقاليم والجماعات الخيرية لا تنفق أموالها إلا على النابغين المتفوقين، وهكذا يبدأ التعليم في أول مراحله ديمقراطياً عاماً ثم تتناوله يد الانتخاب بالتهذيب والتنقية فلا يبلغ القمة إلا الأكفاء خلقاً وموهبةً، ولا يصل إلى مراتب الإدارة والحكم وقيادة مصالح البلاد وتوجيه مصايرها إلا صفوة أبنائها، ويظل الأوشاب في أسفل أما في مصر فأننا لطول لهفتنا إلى الديمقراطية والعلم - بعد أن عصف بنا الاستبداد والجهل أجيالاً - اندفعنا إلى مبدأ التعليم العام اندفاعاً، وأخذنا بمبدأ الديمقراطية وحده، وهو مبدأ كما تقدم غير طبيعي ما لم يماشه جنباً لجنب مبدأ الانتخاب، وما لم يراع معه قيام الفوارق بين الطبقات، فأدى هذا الاندفاع إلى هبوط مستوى التعليم هبوطاً ذريعاً: فكثر عدد المتعلمين ولكن قلت قيمة الواحد منهم بما يحمله من علم وخلق، والجانب الخلقي هو الذي يعنينا هنا أكثر من غيره، وقصارى ما يقال في أخلاق أبناء مدارسنا وخريجيها أن النفس تمتلئ أسى ويأساً من مستقبل قضية الوطن العزيزة حين تذكر أن هؤلاء هم ذخر البلاد لغدها، وما جنى على أخلاق متعلمينا هذه الجناية إلا حشد التلاميذ في المدارس من جميع الطبقات بلا تمييز في كل أمة في العالم طبقة سفلى، فلا ضير علينا في الاعتراف بوجود هذه الطبقة بيننا، بل يجب علينا ونحن نلتمس موضع الداء ونحاول إصلاح عيوب التربية أن نذكر أن الطبقة الدنيا في بلادنا كبراً يفوق ما بالبلاد الراقية، وأن أخلاق يلك الطبقة في منتهى الضعة، لأنها ما تزال تحمل بين أطوائها آثار عصور الاستبداد والجهل التي أوهنت الأخلاق وبثت الكذب والنفاق والغش والخيانة والخشونة والوقاحة، وما يزال أبناء الطبقة الوضيعة عندنا متسمين بهذه الصفات، وهم لا يرون بها بأساً ولا يعدونها إلا إمارات مهارة وحنكة ووسائل اختيال للعيش وانتهاز للفرص ومن سوء حظ التعليم في مصر أن أبناء تلك الطبقة أقبلوا على التعليم في السنين الأخيرة إقبالاً شديداً، لا لقدرهم العلم قدره ومعرفتهم بفضل الخلق الكريم العالي، بل طمعاً من الآباء في أن يروا أبناءهم يرفلون في أزياء الأفندية والبكوات، ويترشحون لعالي المناصب والمرتبات، فوجد أبناء السائقين والإسكافيين والخدم والبوابين ومن إليهم أبواب المدارس مفتحة لهم على مصايعها فجلسوا على أرائكها بجانب أبناء الأسر الطيبة الذين نشئوا في بيوتهم على حسن الذوق ولطف الخطاب وطهارة الطوية، فبثوا في جو المدرسة خشوتة طبائعهم وجلافة خطابهم، وسفالة أفكارهم، وضعة نفوسهم ولم تكن إلى سنون حتى تسمم جو كل مدارسنا، وصارت تطبع كل من أمها من التلاميذ - سوقهم وراقيهم - على غرار واحد لا يتصف بصفة حميدة واحدة والذي أراه أن مدارسنا لن تقال من كبوتها، وأخلاق ناشئتنا لن ترفع من حطتها، حتى يصد هذا الذي يحق أن نسميه (غارة السوقة على المدارس) ويفصل بين أبناء السوقة وأبناء الأسرات الطيبة في معاهد العلم، ومادام هذا الزج الذي لا تمييز فيه فستظل أخلاق سوقتنا تطغى على أخلاق عليتنا ونحن نمكن لهذا الطغيان بأيدينا في مدارسنا في الأمة سوقة وفيها أسرات طيبة، ونحن الذين نريد الرقي ببلادنا نبني الخير للجميع بلا نزاع، ولكن هذا المزج بين الفريقين بدعوى الديمقراطية لا يؤدي إلى غرضنا المنشود، هو يهبط بأخلاق العلية ولا يرفع السفلى، كالذي يمزج قليلاً من الماء النقي بكثير من الماء العكر لن يحصل إلا على ماء عكر، والأجدر بنا ألا نتعجل الأمر فنحاول ترقية الأمة جميعاً وتعليمها وتهذيبها دفعةً واحدة إن الأجدر بنا أن نصرف عنايتنا أول الأمر إلى أبناء الطبقة المهذبة فنمدهم بالتعليم الذي ينشرونه وهم بمنأى عن مخالطة السوقة والتطبع بطباعهم، فهؤلاء صفوة أبناء الأمة، ومتى خلص لنا تعليمهم وتهذيبهم فقد أهدينا إلى البلاد طبقة من أبنائها الأكفاء ذوي الخلق العظيم القادرين على تدبير أمورها وقيادة نواحي النشاط العام في حياتها، ولنا أن نلتفت بعد ذلك - أو مع ذلك - إلى أبناء السوقة فنفسح لهم في مجال التعليم والتربية بما يؤدي إلى ترقية أخلاقهم ورفع مستواهم، ولكن على أن يظلوا بنجوة لا يبثون السموم في بيئة أرفع من بيئتهم، وان رفع مستواهم لأمر يحتاج إلى أجيال، كما أنهم إنما هبطوا إلى دركهم ذاك في أجيال، فجدير بنا أن ننبذ التسرع جانباً ومن ثم نرى ضرورة إنشاء مدارس منفصلة لأبناء الطبقة المهذبة والأسرات الطيبة كما أشرت إليه في كلمة سابقة، يقبل بها التلاميذ على أساس الانتخاب الخلقي والعقلي لا على أساس الديمقراطية العمياء، فمما لا نزاع فيه أن بالبلاد أسرات طيبة ينشأ أبناؤها في بيوتهم نشأة طيبة، فلننتخب أبناء هذه الطبقات - بخير الطرق المستطاعة - ولنفرد لهم مدارس تمدهم بالثقافة ولا تفسد أخلاقهم بمخالطة الدون ولا شك أن اليسر المالي من دواعي رقي الأسرة ورقي المجتمع كله.
فالأسرة التي تشعر باليسر وترى امتيازها المالي على غيرها تسعى ليكون لها امتياز خلقي أيضاً، فتنزع إلى الحياة المنظمة النظيفة وتتسامى عن الشرور وعن السفساف، وتسود فيها رقة الحاشية وسلامة الذوق، والأخلاق الطيبة تبدأ تطبعاً وتستحيل طبعاً وتبتدئ بالمظهر ثم تأخذ بالجوهر.
أما الأسرة السوقية المدقعة فيورثها كفاحها في طلب القوت وضيع الرذائل وقذر العادات، ومن ثم يمكن أن يتخذ اليسر المالي مقياساً لرقي أسرة الطالب وسموها عن أدران السوقية كما تتخذ مهنة والده مقياساً لذلك أيضاً، ويجب بعد أن يقبل الطالب في المدرسة أن تستمر الرقابة المدرسية الصارمة، فمن ثبت عدم استحقاقه للبقاء في بيئتها الراقية فصل على الفور ليظل جو المدرسة دائماً نقياً يسمو بأخلاق أبنائها كذلك يجب أن تسمو المدارس بالعقول: بأن يرفع مستوى الامتحانات التي يتوقف عليها تقدم الطالب في مراحل العلم - أياً كان نوعها وكيفما أدخلت على أنظمتها الإصلاحات - حتى لا يسمح باجتياز مراحل التعليم المختلفة إلا لمن هيأتهم الطبيعة بالمواهب الصحيحة، فيسمح للجميع بطرق مرحلة التعليم الأولي، ولكن لا ينال الإجازات العلمية إلا من هم جديرون بها هكذا يطبق مبدأ الانتخاب في التربية بناحيتيها الخلقية والعقلية؛ وبأتباع هذا المبدأ ترقى أخلاق المتعلمين ويرتفع مستوى الحاصلين منهم على الإجازات العلمية ويقل عددهم فلا يزيد على حاجة البلاد ولا يكونون طبقة عاطلة، ومن تخلفت به مواهبه منهم عن أدراك غايات العلم الصحيح يعرج على ما يناسبه من مهن وأعمال فمبدأ الانتخاب، مبدأ الاعتراف بالتفاوت بين الأفراد والطبقات، مبدأ اختيار الأصلح، الذي هو المبدأ الطبيعي، هو المبدأ الذي به تصلح نظم التربية عندنا وتبرأ من عللها الكثيرة؛ أما مبدأ الديمقراطية المطلقة، مبدأ فرض المساواة التامة بين الجميع في كل شيء، مبدأ إفساح المجال لكل من هب ودب، فهو مبعث آفات التعليم، وهو الذي أدى إلى حشد التلاميذ في المدارس ذلك الحشد الذي عزا إليه تقرير معالي وزير المعارف معظم مساوئ التعليم في مدارسنا فخري أبو السعود المدرس بالعباسية الثانوية

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢