أرشيف المقالات

في طريق المدينة

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للأستاذ علي الطنطاوي لفح وجهه نسيم الفجر البارد، فهم بأن يقوم إلى النافذة فيغلقها ويعود إلى سريره، ثم تخاذل واسترخى، ولبث مستلقياً، فسمع أصواتاً غريبة، خيل إليه أنها أصوات الوحوش، أو أحاديث الجن، فجمد من الخوف، وحدق فيما حوله، فرأى كأنما هو نائم في أرض الشارع، وعلى جانبيه أبنية فخمة عالية، مربعة ومستديرة، والوحوش تطل عليه من أعاليها، تصرخ صراخاً مرعباً، فاستعاذ بالله من هذا الحلم - وتقلب في فراشه، وألقى بيده على طرف السرير، فأحس كأن قد وخزته إبرة، أو كأن حية لدغته، فقفز مذعوراً.
وإذا هي بالحقيقة لا الحلم، وإذا حيال يده نبت من نبت الصحراء، قصير شائك يقال له القتاد.

كانت تضرب به الأمثال، وإذا هو في البادية، في (خور حمار) وإذا هي الرحلة تمتد به ثلاثة عشر يوماً، وهو لا يزال دون (العلا)، ولا يزال بينه وبين المدينة جبال وصحاري تسير فيها السيارة أياماً فجلس يذكر ما رأى في هذه الرحلة من ألوان العذاب، وأشكال الخوف، وما مر به من مشاق وصعاب أبصر فيها الموت عياناً، ويئس فيها من النجاة.

.
وذكر أنهم طالما تمنوا الموت لما وجدوا من العذاب، وأنهم طالما سلكوا من شعاب تقوم فيها السيارة وتقعد، ولا تنجو من شدة إلا إلى أشد منها، وطالما ساروا في رمال كانت تغوص فيها السيارة إلى المرقاة فيدفعونها دفعاً، ويمدون لها الخشب على الأرض مداً، وطالما صعدوا جبالاً يعجز صعودها الماشي على رجليه، فكانوا يجرون السيارة بالحبال، وطالما هبطوا أودية لا يهبطها ممثلو الروايات الأمريكية.

وأنهم ساروا ألفاً وثلثمائة كيل في أرض لم تطأها قط سيارة.
وأنهم سلكوا بين تبوك والعلا مسلكا في جبال الطلع، ساروا فيه بالسيارة من ضحوة اليوم إلى عصر الغد، فلم يقطعوا من الطريق خمسة عشر كيلاً.

وكانوا يدورون فيه كما دار بنو إسرائيل في التيه.
يمشون ما يمشون ثم يعودون من حيث جاءوا، وجبال المطلع جبال عظيمة غريبة الشكل، ليست سلاسل، ولكنها آكام عالية، وجبال منفردة، عالية الذرى محددة القمم، تشبه ذراها رءوس المآذن وهام البروج، لها منظر جميل فتان، فيه هيبة، وعليه جلال، وهي منثورة نثراً، تفصل ما بينها مضايق وطرق صخرية ملتوية متشابهة، حار فيها الدليل؛ وكان معهم دليل حاذق شيطان من شياطين العرب، يقال له محمد الأعرج من مشايخ بني عطية، وهو أعرج طويل له عينا ذئب، حاد الذكاء، ضيق الصدر، مخيف كانوا يتهيبون سؤاله، فداروا في هذه المسالك حتى نفد منهم الصبر، وأدركهم اليأس، فصعد الدليل قنة أكمة، فنظر يميناً، ونظر شمالاً، ثم صاح: لا إله إلا الله، وتلك عادتهم: إذا أبصروا وادياً، أو رأوا سهلاً، أو طلع عليهم جبل، تشهدوا.

ثم نزل يظلع وقادهم في طريق ملتوية حتى جاوز بهم المطلع، وأشرف بهم على السهل الفسيح.
وكان عليهم أن يهبطوا السهل ليخترقوا جبل الأقرع وهو قبالتهم، فنظروا فلم يجدوا مهبطا، وكانوا على رأس جدار قائم من الصخر، ارتفاعه أكثر من أربعين متراً، والنزول منه خطر محقق، ولكن الرجوع موت أكيد، وإذا هم رجعوا وضلوا أياماً نفذ فيها ما معهم من ماء، فهلكوا لا محالة عطشاً، فاستخاروا الله ونزلوا نزولاً ما نظن سيارة نزلته مذ خلق الله السيارات: تتدحرج من تحتهم الحجارة إلى قرارة المنحدر، فيكون لها قرقعة مخيفة، والسيارة كأنما هي من الانحدار قائمة على مقدمها، والركاب شاخصة أبصارهم، ينظرون عن أيمانهم وعن شمائلهم، لا يدرون من أين يأتيهم الموت وقد تابوا واستنفروا، واستودعوا اللهأولاً دهم وأموالهم. ومرت عليهم ربع ساعة أهون منها رباط سنة في جبهة الحرب، ثم وفق الله فبلغوا السهل، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله.

ويهبون كمن حلم مروع! وكانت الشمس قد غابت، والليل قد ارتفع، فنزلوا للمبيت يستعدون لوادي الأقرع، وكانوا على رغم ما لقوا يسمعون من الدليل أنه هين بجنب خور حمار، وان العناء والبلاء إنما هما في خور حمار، فكانوا يرون خور الحمار هذا في أحلامهم، ويبصرونه فاتحاً فاه لابتلاعهم، ويرون حيال رأسه حجراً مكتوباً فيه: هنا مات الوفد الأول الذي ذهب لفتح طريق السيارات.
وتلقوا من الغد وادي الأقرع، فلما ولجوه ذكروا بالخير جبال المطلع، ووجدوها حيال نار الأقرع جنة النعيم، والوادي عريض فسيح ولكنه وعر، كله صخور عظيمة، ورمال خطرة، إذا نجت السيارة من رملة صدمتها صخرة، وان خلصت من الصخر غاصت في الرمل، فداروا فيه كما يدور الحمار في الساقية، وكان سيرهم سير السواقي، سفراً لا ينقطع.

.
ثم فتق لهم التفكير وجه الحيلة، فأجمعوا الرأي على أن يركبوا السكة بالسيارات وعجبوا من أنفسهم كيف حملوا هذا العناء كله، ولم يهتدوا إلى هذا الرأي.

وكانت السكة عالية تمشي فوق الوعرة كأنها الصراط ممدوداً فوق جهنم، فامضوا ساعتين في ارتقائها، ثم لما ركبوها تعذر المسير عليها، فعجبوا من أنفسهم كيف ارتكبوا هذه الحماقة، ولم يعلموا أن السيارة لا تمشي على سكة القطار، وأنفقوا ساعتين أخريين في النزول عنها، حتى إذا نزلت جلسوا على الأرض.
قد طحن الجهد أجسامهم، وملأ اليأس نفوسهم، وانقطع أملهم من كل شيء إلا من الله، وضل من يدعون إلا إياه، فاقبلوا على الله بالدعاء والاستغفار، وذاقوا من حلاوة الإيمان وبرد اليقين، ما اطمأنت به نفوسهم، وارتاحت له ضمائرهم؛ ثم لم يلبثوا أن استجاب الله دعاءهم، وجاءهم منه الفرج، وسمعوا هتاف الجند الذين بعث بهم أمير العلا بأمر جلالة الملك عبد العزيز لمعونتهم وخدمتهم.
جلس يفكر في هذا كله، فيراه هيناً إذا قيس بخور حمار وذكر كيف أمضوا نهاراً بطوله، يستعدون لدخول الخور، فلما أقبلوا عليه رأوا مدخله كالشارع العظيم، على جانبيه صخور كبيرة مكعبة مستوية قائمة كالبنيان، كأنما قد بنتها يد بناء حاذق، بميزان الزئبق والشاقول، وفي وسطها جدار من الصخر عرضه ستة أمتار، يشبه غي شكله سفينة عظيمة لم تنزل بعد إلى البحر، لها مقدمها وجوانبها، وقد قدر أصحابنا علو هذه الصخور من مائة إلى مائة وخمسين متراً، فامتلأت نفوسهم رهبة وخشوعاً، وأحسب أن لو رأى هذا الممر سياح الأمريكان لحملوا في سبيل رؤيته عناء السفر في البادية مهما طال وشق.
وأرض هذا المضيق رملية حمراء يغوص فيها الماشي إلى الركبة، لها شكل متموج جميل يشبه شكل البحر، يلذ المرء أن يلقي بنفسه عليها، فيشعر كأنما يلقي بنفسه على فراش ناعم حلو.
أو ينام على سطح الماء.
وذكر كيف انقضى النهار وانقضى الغد ولم يجاوزا نصف المضيق، ورفع رأسه وكان الفجر قد انبلج، وبدت طلائع النهار، فرأى هذه الصخور الشاهقة المستوية، وهذه الشقوق التي تحدث فيما بينها مثل الأزقة، يملأ مرآها النفس خشوعاً وذكر كيف بذلوا جهدهم، واستعانوا بعشرين من الجنود الأقوياء ثم لم يقطعوا في يومين أكثر من كيلين في هذا المضيق، وخالط نفسه الضيق والملل من طول هذه الرحلة وعنائها وما قاسى فيها من التعب والجوع والعطش والنعاس، وما عانى من سوء الصحبة، وقبح الأخلاق، وخلف أن تعطل السيارة، أو يضلوا الطريق، أو تمسكهم وعرة، فينفد الماء ويموتوا عطشاً.
.
ولم يخف لصاً ولا سارقاً، فقد جعل ابن السعود خور حمار وهو أفظع مكان في البادية، آمن من ميدان النجم في باريز! وفكر أيبلغ المدينة أم يهلك من دونها، وهاجمه تصور المدينة، وأحيا في نفسه الأمل مرأى القبة الخضراء وهي طالعة عليه من وراء الأفق البعيد، وطار بها إلى الملأ الأعلى تخيله الوقوف بين يدي رسول الله ﷺ، وصلاته في الروضة، وقيامه من بعد أمام الكعبة، وشربه من ماء زمزم، وسعيه بين الصفا والمروة، وشهوده هذه الأماكن التي ولد فيها الإسلام وعاش فيها محمد ﷺ، وكانت مهبط الوحي، ومطلع شمس النبوة، ومعقد الآمال من نفس كل مسلم. واستغرق في تفكيره فلم ينبه إلا صوت مؤذن القوم يرن في هذا الوادي الساكن: الله أكبر، لا إله إلا الله فتردد نداءه هذه الصخور الشم.
وتمد الإبل أعناقها مصيخة هادئة، ويهب البدو من منامهم ليقيموا الصلاة، وأصحابنا السواقون ومعلموهم يغطون غطيط البكر.
ثم قاموا إلى الصلاة، فأمحى الخوف من نفسه، وصغرت عليه البادية، وهانت عليه مشاقها، وتضاءلت هذه الجبال القائمة حتى كأنما لصقت بالأرض، وكأنما طويت له الغبراء فلم يعد ملقى في البادية على بعد ألف وثلثمائة كيل من منزله في دمشق كحبة من الرمل، أو هو أهون على الحياة منها، لأنها وان طار بها ريح، أو حملها سيل، باقية كما كانت، لا تموت ولا تندثر، وهو يموت من أجل رغيف من الخبز وكأس من الماء، بل أحس كأنما هو في منزله، ولم لا؟ وما يناله في البادية إلا ما قد كتب عليه، ولا ينال في منزله إلا ما كتب له، وإذا كان يأمن على نفسه اللصوص والأعراب وينام في عرض الصحراء، كما ينام في أرض غرفته، لا يمنعه باب، ولا يحميه حارس، ولا يخالط نفسه خوف ولا جزع، لأنه في حمى ابن السعود وأرضه، أفلا يأمن من كان في حمى الله رب ابن سعود وأرضه؟ وكان القوم قد هبوا فأقبلوا يضمون الشاي والقهوة، وجلست حيال صخرة أكتب هذه الكلمة (للرسالة)، لأبعث بها مع جندي من البدو إلى بريد العلا.

.
.
ولست أدري أتخرج من هذه البادية فنقرؤها، أم تبتلعنا هذه الصحراء التي ابتلعت دولاً وأمماً وجيوشاً وسيقرأ هذا الفصل قراء (الرسالة) وهم في دورهم ومساكنهم، لا يدرون ما الصحراء، ولا يعرفون منها إلا ذكرها في الكتب ووصفها في الأشعار، فيحسبونها تسلية أو خيالاً، وما هي بالتسلية ولا بالخيال، ولكنه مقام بين الموت والحياة.

اللهم سلم! علي الطنطاوي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢