أرشيف المقالات

رمضان ركاز الشهور والأيام

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
1 بسم الله الرحمن الرحيم..
(رمضان) هدية السماء، وبركة أهل الأرض، وخير يفيض لعمر مديد، قال صاحب القول السديد، والشرع المجيد، والمبعوث رحمة للعبيد صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (متفق عليه)، «من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» (البخاري)

«فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة» (متفق عليه)
«الصيام جنة، وحصن حصين من النار» (رواه أحمد)، «الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها» (رواه البخاري).
«إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم» (متفق عليه).
«الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة» (رواه أحمد). «عليك بالصوم فإنه لا مثل له» (رواه النسائي)، «ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله» (رواه مسلم)، «من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كصوم الدهر» (رواه مسلم)، «صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعده بشهرين فذلك صيام السنة» (صحيح الجامع:3851)، «ينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة» (رواه الترمذي)، ويقول وكيع رحمه الله في تفسير قوله تعال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]: "هي أيام الصيام".

(رمضان) استراحة نفسية نتخفف فيها من أعبائنا وهمومنا وأحزاننا، ومنحة سماوية نفارق فيها صنوف الرتابة والملل التي غشت أيامنا، وتنطلق فيها الروح في أجواء إيمانية، وثورة نورانية نتعايش فيها أكثر مع القرآن والقيام والبر والإحسان.. 

إن التعود اليومي على أطيب الوجبات وألذ المشروبات يكسبها نوعًا من الألفة والعادة التي تذهب الإحساس بقيمتها ونعمتها، لذلك فإن قطع هذه الألفة لسويعات بالصيام يوقظ الفطرة المتبلدة، ويبرز قيمة هذه النعم في حياتنا، بل إن طول الشبع يشكل سحابة تحجب نور العقل وإشراقات الروح، ولا تتوارد هذه الفيوضات على مخيلة الوعي إلا بالإخفاء المتناوب لحالات الشبع والتخمة على مستوى الجسد، ولذلك أخرج الطَّبراني بسند جيد: "أَنه صَلى اللَّه عليه وسلم رأَى رَجُلًا عظيم البطنِ، فقال بِأُصبُعه: «لو كان هذا في غيرِ هذا لكان خَيرًا لَك»، وقال لُقْمانُ لابنه: "يا بُنيَّ، إذا امتلأَت المعدةُ نامت الفكرةُ، وخرست الحكمةُ، وقعدت الأَعْضاءُ عن الْعبادة".

(رمضان) فرحة رؤية الهلال حين تتبدى على وجوه الصغار قبل الكبار، وفرحة تجهيز أغراض السحور والإفطار، وفرحة التجمع على مائدة تشمل الأحباب والإخوان والخلان، وفرحة الإعانة على إتمام كل يوم من أيام الصيام، قال صلى الله عليه وسلم: «للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه» (رواه مسلم)

قال ابن رجب رحمه الله: "أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوسَ مجبولةٌ على الميل إلـى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح؛ فإذا امتنعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر، فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصًا عند اشتداد الحاجة إليه؛ فإن النفوسَ تفرح بذلك طبعًا؛ فإن كان ذلك محبوبًا لله كان محبوبًا شرعًا.

والصائمُ عند فطره كذلك، فكما أن الله تعالى حَرَّم على الصائم في نهار الصيام تناولَ هذه الشهواتِ فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرةَ إلى تناولها من أول الليل وآخره؛ فأحب عباد الله إليه أعجلهم فطرًا، والله وملائكته يصلون على المتسحرين؛ فالصائمُ ترك شهواتِه في النهار تقربًا إلى الله، وطاعةً له، وبادر إليها بالليل تقربًا إلى الله، وطاعة له؛ فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه؛ فهو مطيعٌ في الحالين؛ ولهذا نُهِيَ عن الوصال؛ فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربًا إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله فإنه ترجى له المغفرةُ، أو بلوغُ الرضوان بذلك". 

إلى أن قال رحمه الله: "ثم إنه ربما استجيب دعاؤه عند فطره، وعند ابن ماجة: «إن للصائم عند فطره دعوةً لا تُرد».
وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثابًا على ذلك، كما أنه إن نوى بنومه في الليل والنهار التقوّيَ على العمل كان نومُه عبادة". 

إلى أن قال: "ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه، لم يتوقف في معنى فرحه عند فطره؛ فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [ٍيونس:58]"، ثم قال: "وأما فرحه عند لقاء ربه، ففيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدَّخرًا؛ فيجده أحوجَ ما كان إليه كما قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل:20]" (لطائف المعارف:1/168)، فأكرم برمضان شهر الفرحة.

(رمضان)، ساحة السكينة، ومأوى الفضيلة، وطارد الرذيلة، ومحضن كل الأشياء الجميلة، حتى أن خلوف فم الصائم يستحيل جمالًا وروعة وبهاء، قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (متفق عليه)

(رمضان) فاتح أبواب الخير، موصد منافذ الشر، قامع الشياطين، ومسلسل مردة الجن، قال صلى الله عليه وسلم: «أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم» (صحيح الجامع:55)، «تفتح فيه أبواب الجنة»، وفي رواية «أبواب السماء»، وهي كناية عن تواتر هبوط غيث الرحمة وتوالي صعود الطاعة بلا مانع ومعاوق، ويشهد له قوله «وتغلق فيه أبواب الجحيم» كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الآثام وكبائر الذنوب العظام، وتكون صغائره مكفرة ببركة الصيام، ولا مانع أيضًا من فتح الجنة وغلق النار على الحقيقة.

(رمضان) كابح الشهوات الجامحة، وقامع لنار الغرائز الحارقة، وصمام الأمان لاندفاعنا وغضبنا، وموقظ ضمائرنا، ومجلي بصائرنا، ومعالج لأمراض قلوبنا من غل وحقد وحسن، ومهذب لسلوكنا من أوضار الغيبة والنميمة والغش والخديعة، وسائر المفاسد التي مقتتها الشريعة، شعار المؤمن فيه: "إني صائم، إني صائم".

(رمضان) يتجلى فيه شرف الزمان، وتعظم فيه أجر الطاعات، فالعمرة في رمضان ليست كأي عمرة، ومأدبة القرآن ليست كأي مأدبة، والصدقة فيه ليست كأي صدقة، وليلة القدر ليست كأي ليلة، والأحداث في رمضان ليست كأي حدث، قال صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان كحجة معي» (صحيح الجامع:4098)، وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسَلة". 

وقال صلى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين، إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى» (حسن الجامع الصغير:5473) «أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان» (حسن، الجامع الصغير:1497)

(رمضان) الذي يأخذنا قسرًا إلى الضعيف والمسكين والملهوف وذا الحاجة، نحس بمعاناتهم إحساسًا واقعيًا بعيدًا عن وصف الكلمات، ومن عاين ليس كمن سمع، فيدفعنا بقناعة على أن نخرج من أنانيتنا والانهماك في تحقيق رغباتنا، إلى الالتفاف حول جراح الغير لاحتوائها، وساعتها نحس بلذة أعظم من لذة الاستماع برغباتنا، فالأولى لذة خالطتها إنسانيتنا، والثانية لذة خالطتها حيوانيتنا، وشتان بين الإنسان القابع بدواخلنا، والحيوان الذي تحركه غرائزنا، فمن عاش لنفسه عاش صغيرًا ومات صغيرًا، ومن عاش لغيره عاش كبيرًا ومات كبيرًا. 

(رمضان) المعلم الذي يبرهن لنا أن التعلق بغير الله وهم يمكن الاستعلاء والاستغناء عنه إذا أسرنا واستحوذ علينا، فالطعام والشراب والنكاح وسائر الملذات كلها وسائل لغاية أكبر وأجل وأعظم، وهي حسن الخلافة في الأرض، قال الشاعر:والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنعفنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه وصفاته أن يرزقنا وإياكم حلاوة اليقين، وأن يرزقنا وإياكم كمال الإيمان بالله رب العالمين، اللهم إنا نسألك يقينًا لا يخالطه شك، ونسألك إيمانًا لا يخالطه شرك، ونسألك الصدق في حبك والشوق إلى لقائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.


شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢