أرشيف المقالات

محاورات أفلاطون

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 17 - محاورات أفلاطون الحوار الثالث فيدون أو خلود الروح ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود ولكن الروح التي قد أصابها الدنس، والتي تكون كدرة عند انتقالها، والتي ترافق الجسد دائما، وتكون خادمته، والتي تغرم وتهيم بالجسد ورغبات الجسد ولذائذه حتى ينتهي بها الأمر إلى العقيدة بأن الحقيقة لا تكون إلا في صورة جسدية، يمكن الإنسان أن يلمسها، وأن يراها، وأن يذوقها، وأن يستخدمها لأغراض شهواته - أعني الروح التي اعتادت أن تنفر من المبدأ العقلي، وأن تخافه وتتحاشاه، ذلك المبدأ الذي هو للعين الجسمانية معتم تستحيل رؤيته، والذي لا يدرك إلا بالفلسفة وحدها - أفتحسب أن روحاً كهذه سترحل نقية طاهرة؟ فأجاب: يستحيل أن يكون هذا - إنها قد استغرقت في الجسدي، وقد أصبح ذلك طبيعياً بالنسبة لها، لاتصالها المستمر بالجسد، وعنايتها الدائمة به - جد صحيح - ويحق لنا يا صديقي أن نتصور أن هذه هي تلك المادة الأرضية الثقيلة الكثيفة، التي يدركها البصر، والتي بفعلها تغشي الكآبة مثل هذه الروح، فتنجذب هبوطاً إلى العالم المرئي مرة أخرى، لأنها تخاف مما هو خفي، وتخاف من العالم السفلي فتظل محومة حول المقابر واللحود، إذ ترى بجوارها - كما يحدثوننا - أشباح طيفية بعينها، لأرواح لم تكن قد رحلت قية، ولكنها ارتحلت مليئة بالمادة المنظورة فأمكن رؤيتها - يغلب جداً أن يكون ذلك يا سقراط - نعم يا سيبيس، فأغلب الظن أن يكون ذلك، ولا بد أن تكون هاتيك أرواح الفجار لا أرواح الأبرار، هؤلاء الفجار الذين كتب عليهم أن يجوبوا في تلك المواضع جزاء وفاقا بما اقترفت سبيلهم في الحياة من إثم، فلا ينقطع تجوابهم، حتى تشبع الرغبة التي تملؤهم، ثم يسجنون في بدن آخر، وقد يظن أن تلازمهم نفس الطبائع التي كانت لهم في حياتهم الأولى - أي الطبائع تريد يا سقراط؟ - أريد أن أقول إن من اندفعوا وراء الشره والفجور والسكر، ولم تدر في خلدهم فكرة اجتنابها، سينقلبون حميراً وما إليها من صنوف الحيوان.
فماذا ترى أنت؟ أرى أن ذلك جد محتمل وهؤلاء الذين اختاروا جانب الظلم، والاستبداد والعنف، سينقلبون ذئاباً أو صقوراً أو حداً، وإلا فإلى أين تحسبهم ذاهبين؟ فقال سيبيس: نعم، إن ذلك، ولا ريب، هو مستقر تلك الطبائع التي تشبه طبائعهم فقال: وليس من العسير أن نهيئ لهم جميعاً أمكنة تلأئم طبائعهم وميولهم المتعددة فقال: ليس في ذلك عسر - وحتى بين هؤلاء ترى فريقاً أسعد من فريق، فأولئك الذين اصطنعوا الفضائل المدنية والاجتماعية التي تسمى بالاعتدال والعدل، والتي تحصل بالعادة والانتباه، دون الفلسفة والعقل، أولئك هم أسعد نفسا ومقاماً.
ولم كان أولئك هم الأسعد؟ لأنه قد يرجى لهم أن يتحولوا إلى طبيعة اجتماعية رقيقة تشبه طبيعتهم، مثل طبيعة النحل أو النمل، بل قد يعودون مرة ثانية إلى صورة البشر، وقد يخرج منهم أناس ذوو عدل واعتدال - ليس ذلك محالاً - أما الفيلسوف، أو محب التعلم، الذي يبلغ حد النقاء عند ارتحاله، فهو وحده الذي يؤذن له أن يصل إلى الآلهة، وهذا هو السبب، أي سمياس وسيبيس، في امتناع رسل الفلسفة الحق عن شهوات الجسد جميعاً، فهم يصبرون ويأبون أن يخضعوا أنفسهم لها - لا لأنهم يخشون إملاقاً، أو يخافون لأسرهم دماراً، كمحبي المال، ومحبي الدنيا بصفة عامة، ولا لأنهم يخشون العار والشين اللذين تجلبهما أعمال الشر كمحبي القوة والشرف.
قال سيبيس: لا يا سقراط، إن ذلك لا يلائمهم فأجاب: حقاً إنه لا يلائمهم.
وعلى ذلك فأولئك الذين يعنون بأرواحهم، ولا يقصرون حياتهم على أساليب الجسد، ينبذون كل هذا، فهم لن يسلكوا ما يسلك العمي من سبل، وعندما تعمل الفلسفة على تطهيرهم وفكاكهم من الشر، ويشعرون أنه لا ينبغي لهم أن يقاوموا فعلها، بل يميلوا نحوها، ويتبعوها إلى حيث تسوقهم - ماذا تعني يا سقراط؟ قال: سأحدثك.
إن محي المعرفة ليدركون عندما تستقبلهم الفلسفة أن أرواحهم إنما شدت إلى أجسادهم وألصقت بها، ولا تستطيع الروح أن ترى الوجود إلا خلال قضبان سجنها، فلا تنظر إليه وهي في طبيعتها الخاصة، إنها تتمرغ في حماة الجهالة كلها، فإذا ما رأت الفلسفة ما قد ضرب حول الروح من قيد مخيف، وأن الأسيرة تنساق مدفوعة بالرغبة إلى المساهمة في أسر نفسها (لأن محبي المعرفة يعلمون أن هذه كانت الحالة البدائية للروح، وأنها حين كانت في تلك الحال، تسلمتها المعرفة، ونصحتها في رفق، وأرادت أن تحررها، مشيرة لها بأن العين مليئة بالخداع، وكذلك الأذن وسائر الحواس، لتحملها على التخلص منها تخلصاً تاماً، إلا حين تدعو الضرورة إلى استخدامها، وأن تتجمع وتتفرغ إلى نفسها، وألا تثق إلا بنفسها وما توحي به إليها بصيرتها عن الوجود المطلق، وأن تشك في ما يأتيها عن طريق سواها، ويكون خاضعاً للتغير)، فالفلسفة تبين لها أن هذا مرئي ملموس، أما ذلك الذي تراه بطبيعتها الخاصة فعقلي وخفي، وروح الفيلسوف الحق تظن أنه لا ينبغي لها أن تقاوم هذا الخلاص، ولذا فهي تمتنع عن اللذائذ والرغبات، ولآلام والمخاوف، جهد استطاعتها، مرتئية أن الإنسان حينما يجوز قدراً عظيما من المسرات أو الأحزان أو المخاوف أو الرغبات، فهو لا يعاني منها هذا الشر الذي تقره الظنون - كأن يفقد مثلاً صحته أو متاعه، مضحياً بها في سبيل شهواته - ولكن يعاني شراً أعظم من ذلك، هو أعظم الشرور جميعاً وأسوأها، هو شر لا يدور في خلده أبداً قال سيبيس: وما هو ذلك يا سقراط؟ - هو هذا: حينما تحس الروح شعوراً شديد العنف، بالسرور أو بالألم، ظننا جميعا، بالطبع، أن ما يتعلق به هذا الشعور العنيف يكون عندئذ أوضح وأصدق ما يكون، ولكن الأمر ليس كذلك - جد صحيح وتلك هي الحال التي يكون فيها الجسد أشد ما يكون استعباداً للروح - وكيف ذلك؟ - لأن كل سرور وكل ألم يكون كالمسمار الذي يسمر الروح في الجسد، ويربطها به، ويستغرقها، ويحملها على الإيمان بأن ما يؤكد عنه الجسد أنه حق فهو حق، ومن اتفاقها مع الجسد، وسرورها بمسراته ذاتها، تراها مجبرة على أن تتخذ عادات الجسد وطرائقه نفسها، ولا ينتظر ألبتة أن تكون الروح نقية عند رحيلها إلى العالم السفلي، فهي مشبعة بالجسد في كل آن، حتى أنها سرعانما تنصب في جسد آخر، حيث تنبت وتنمو، ولذا فهي لا تساهم بقسط في الإلهي، والنقي، والبسيط.
فأجاب سيبيس: ذلك جد صحيح يا سقراط؟ وهذا يا سيبيس هو ما دفع محبي المعرفة الحق أن يكونوا ذوي اعتدال وشجاعة، فهم لم يكونوا كذلك، لما تقدمه الحياة الدنيا من أسباب - لا، ولا ريب - لا، ولا ريب! فليست تفكر روح الفيلسوف على هذا النحو، إنها لن تطلب إلى الفلسفة أن تحررها، لكي تستطيع، إذا ما تحررت، أن تلقي بنفسها مرة أخرى، في معترك اللذائذ والآلام، فتكون بذلك كأنها تعمل ما تعمل، لا لشيء إلا لكي تعود فتنقضه، وكأنها تنسج خيوطها - كما فعلت بنلوب.
بدل أن تعمد إلى حلها، ولكنها ستتخذ من نفسها عاطفة راكدة ستتأثر خطو العقل، فتلازمه لتشاهد الحقيقي والإلهي (وهو ليس موضوعاً للرأي) ومن ثم تستمد غذاءها، وهي تحاول بذلك أن تحيا ما دامت في الحياة، وتأمل أن تلتمس ذوي قرباها بعد الموت، وأن تتحرر من النقائص البشرية، أي سمياس وسيبيس، أن تتبدد روح كان ذلك غذاءها، وكانت تلك آمالها المنشودة، عند انفصالها عن الجسد فتذروها الرياح، وتصبح عدما ليس له وجود (يتبع) زكي نجيب محمود

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣